على رغم مرور اكثر من عشرين عاماً على توقيع معاهدة السلام المصرية -الاسرائيلية وعلى رغم مرور نحو تسعة اعوام على انعقاد مؤتمر مدريد للسلام وتوقيع اتفاق اوسلو ومعاهدة السلام الاردنية - الاسرائيلية، والمؤشرات التي توحي بقرب التوصل الى اتفاقيتي سلام على المسارين السوري واللبناني، لا يزال الشارع العربي وكذلك الشارع الاسرائيلي يتوجس من المضي قدماً نحو السلام بسبب القناعات الراسخة هنا وهناك بأن الوصول الى السلام يقتضي تنازلات مؤلمة، في مقدمها، بل اكثرها صعوبة، التنازل عن الاهداف الاستراتيجية التي يرى كل طرف ان الصبو نحوها والعمل على تحقيقها انما يكمنان في جوهر وجوده الحالي والمستقبلي، وان تأجيلها او التخلي عنها يزلزل وجوده من الاعماق ويجعله ضائعاً لا يعرف الى اين يتجه بعد فقد او اخفاء بوصلة الهدف الاستراتيجي. وابرز الادلة على تلك الزلزلة الحاصلة ردات الفعل العنيفة التي نشهدها احياناً في هذا الشارع او ذاك، وكان ابرزها في الشارع الاسرائيلي عملية اغتيال اسحق رابين رئيس الوزراء في بداية تشرين الثاني نوفمبر 1995 والتي كانت الاولى من نوعها في اسرائيل. وعلى رغم مرور كل هذه السنوات، وعلى رغم نشر ما اطلق عليه اسم ثقافة السلام مع اسرائيل في الخطاب السياسي والاعلامي لمعظم الدول العربية منذ اكثر من ربع قرن، ما زال العربي محتاراً في تقويمه للسلام العادل المنشود حتى وان كان هذا السلام سيعيد الى العرب كل الاراضي التي احتلت عام 1967 بما فيها القدسالشرقية وبدون وجود اي جندي او مستوطن اسرائيلي على اي شبر منها، وما زال يردد السؤال النابع من اعماق الوجدان: هل التوصل الى هكذا سلام نصر ام هزيمة له؟ امضى العرب النصف الاول من القرن العشرين وهم يؤمنون ايماناً قاطعاً بقدرتهم على الحيلولة دون اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ودون اقامة اسرائيل، وبعد ان اقيمت امضى العرب نحو ربع قرن وهم يؤمنون الايمان ذاته بقدرتهم على تحرير فلسطين من المغتصب الاسرائيلي وازالة الكيان الاسرائيلي، مؤكدين ان الصراع مع اسرائيل هو صراع وجود لا صراع حدود ولن ينتهي الا بتحرير فلسطين وعودة شعبها اليها، ولكن ما ان اطل الربع الاخير من القرن العشرين حتى بدأت الانظمة العربية مقاربتها التاريخية من السلام، وقد انتهى القرن ولم يتم بعد الوصول الى ذلك السلام. بدأت الانظمة العربية تلك المقاربة رسمياً في القرارات التي اتخذتها في قمة الجزائر في تشرين الثاني عام 1973، حين فصلت ما بين الاهداف الاستراتيجية والاهداف المرحلية مسقطة الدعوات الى التحرير ومبرزة الاستعداد للعمل من اجل استعادة الاراضي المحتلة عام 1967 بالوسائل السياسية والديبلوماسية، ومسقطة لاءات قمة الخرطوم 1967 لا تفاوض لا اعتراف لا صلح ومبرزة بشكل خجول في البداية الاستعداد للتفاوض والاعتراف والصلح. والمفارقة الصارخة ان هذه المقاربة جاءت بعد شهر واحد فقط من اول حرب شنتها الدول العربية ضد اسرائيل مستهدفة تحرير الاراضي السورية والمصرية، ولم تأت بعد الهزيمة التي لحقت بالدول العربية في حزيران يونيو 1967 حين احتلت اسرائيل اراضي سورية ومصرية وفلسطينية تعادل مساحتها ثلاثة اضعاف المساحة التي قامت عليها عام 1948. ومايزيد من شدة هذه المفارقة ان الحكومة الاسرائيلية، كما كشفت الوثائق الاسرائيلية لاحقاً، اجتمعت في نهاية حزيران 1967 واتخذت قراراً بامكانية انسحابها من الاراضي التي احتلتها آنذاك اذا ما اعترفت الانظمة العربية باسرائيل وقبلت بتوقيع اتفاقات سلام معها، وقد ردت الانظمة العربية آنذاك بالرفض في قمة الخرطوم. مع بدء المقاربة العربية من السلام بعد حرب تشرين اعلن الرئيس المصري انور السادات انها آخر الحروب العربية ضد اسرائيل تم التوصل برعاية اميركية مباشرة الى اتفاقات فصل القوات على الجبهتين السورية والمصرية والتي تم من خلالها اغلاق الجبهتين امام اي عمل عسكري من الجانبين العربي والاسرائيلي الجبهة الاردنية لم تفتح في حرب تشرين وكانت بحكم المغلقة وبعدها كان قرار السادات بزيارة القدس وتوقيع معاهدة السلام المصرية - الاسرائيلية وكان قول السادات الشهير "لا حرب بدون مصر" وكان بعده القول السوري الشهير ايضاً "لا سلام بدون سورية". وحين وقع الرئيس السادات معاهدة السلام مع اسرائيل وصف السلام المصري - الاسرائيلي بأنه سلام منفرد واطلقت عليه اسوأ النعوت، وحين عقد مؤتمر مدريد قيل ان غايته الوصول الى سلام عادل وشامل، سلام بين اسرائيل والدول العربية كافة وليس بين اسرائيل والدول المجاورة التي سبق ان احتلت اسرائيل بعض اراضيها. ولتحقيق هذه الشمولية انبثق عن المؤتمر مساران: مسار للمفاوضات الثنائية ومسار للمفاوضات المتعددة بين اسرائيل وكل الدول العربية بمشاركة عدد من الدول الكبرى المعنية بالسلام في الشرق الاوسط، وتفرع المسار الاول المفاوضات الثنائية الى اربعة مسارات، كل اثنين منها كانا متلازمين: المساران الفلسطيني والاردني، والمساران السوري واللبناني، وفي كليهما كان هناك مسار سهل ومسار صعب: الاردني سهل والفلسطيني صعب، واللبناني سهل والسوري صعب، والمسار الوحيد الذي توجت المفاوضات فيه بمعاهدة سلام هو المسار الاردني وقد تم التوصل الى هذه المعاهدة بعيد توقيع اتفاق اوسلو على المسار الفلسطيني، والذي لم يكن اكثر من اتفاق على نصف سلام بين الجانبين لو ان اسرائيل التزمت بتنفيذه التزاماً كاملاً، بينما واقع الحال يؤكد انه بالكاد يصل الى مستوى اتفاق على ربع سلام. وقد تحققت هذه النسبة بفضل ما قدمه الجانب الفلسطيني بالدرجة الاولى، ومن المتوقع ان يمر وقت طويل قبل ان يتم التوصل الى اتفاق سلام كامل على المسار الفلسطيني بكل ما فيه من قضايا معقدة وشائكة، حسب توصيف اسرائيل التي ترفض حل تلك القضايا استناداً الى قرارات الشرعية الدولية، والمؤلم ان كل ما يقال حالياً عن اقتراب ولو نظري من حل لهذه القضية او تلك يثير الشكوك بالسلام ويبعث على التشاؤم من امكانية الوصول اليه، خصوصاً على المسار الفلسطيني الذي يعد في قلب المسارات العربية كافة. مع استئناف المفاوضات السورية - الاسرائيلية والتوقعات التي رافقت ذلك بشأن امكانية قرب التوصل الى اتفاقيتي سلام على المسارين السوري واللبناني، انبثقت من جديد المخاوف والتساؤلات المعبرة عن القلق عما اذا كان السلام الشامل الموعود سيتحقق بالفعل، وهل سيعيد هذا السلام كل ما احتلته اسرائيل من اراضٍ عام 1967 في وقت تظهر فيه الوقائع ان اسرائيل لم تقتنع بعد بأن العرب يريدون السلام معها على رغم مرور اكثر من ربع قرن على قرارات قمة الجزائر 1973، فاسرائيل لا تزال ترى بهذا السلام جزءاً من استراتيجية عربية طويلة المدى لاعادتها الى الحدود التي كانت فيها قبل عدوان 1967، وبالتالي تحجيمها والتعامل معها كأمر واقع مع استمرار الضغط العربي من اجل دفعها للاعتراف بمسؤوليتها عن حل قضية اللاجئين الفلسطينيين وتنفيذ القرار 194 المتضمن حقهم في العودة. وتؤكد الوقائع ان اسرائيل، وبقدر ما كان العرب يدفعون من اجل الوصول الى هذا السلام على امتداد اكثر من ربع قرن، بقدر ما كانت تدفع في الاتجاه المعاكس اللاسلم او الفوز باكبر ما يمكن من المغانم سواء عبر الاستمرار باحتلال بعض تلك الاراضي او عبر فرض شروط وترتيبات امنية وسياسية واقتصادية وبقدر ما استمرت في رهانها الناجح حتى الآن على ان الوقت يعمل لصالحها هي وان العرب الذين اقروا الاهداف المرحلية للنضال العربي في الجزائر 1973، قد ابتعدوا عنها تدريجياً بحيث تمت مرحلة هذه الاهداف المرحلية اكثر من مرة وبحيث اصبحت تلك الاهداف جزءاً من تاريخ مضى، وان استمرارها في الرهان على هذا العامل فترة اخرى من الوقت قد يتيح لها التوصل الى اتفاقات افضل خصوصاً اذا ما استمر العرب في الرهان على السلام مع اسرائيل لاستعادة حقوقهم، واذا ما استمر العرب في ضعفهم وتفككهم باعتبار ان هذا الضعف احد اكبر عوامل انتصار اسرائيل في حروبها واستمرار احتلالها لأرضهم وفرض ارادتها عليهم. وفي انتظار السلام الموعود يبقى السؤال المقلق: هل التوصل الى هكذا سلام نصر ام هزيمة؟ كيف ومتى يصبح نصراً او يكون هزيمة؟ * كاتب فلسطيني - دمشق