أسعار النفط تستقر عند أعلى مستوى في أسبوعين    تحديات "الصناعة والتعدين" على طاولة الخريف بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة اليوم    القيادة تهنئ رئيس جمهورية سورينام بذكرى استقلال بلاده    استمرار هطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مدينة الأمير عبدالله بن جلوي الرياضية تستضيف ختام منافسات الدرفت    البريد السعودي يصدر طابعاً بريدياً بمناسبة اليوم العالمي للطفل    أمير الشرقية يفتتح أعمال مؤتمر الفن الإسلامي بنسخته الثانية في مركز "إثراء"    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    الاتحاد يخطف صدارة «روشن»    دربي حائل يسرق الأضواء.. والفيصلي يقابل الصفا    تهديدات قانونية تلاحق نتنياهو.. ومحاكمة في قضية الرشوة    لبنان: اشتداد قصف الجنوب.. وتسارع العملية البرية في الخيام    مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    «التراث» تفتتح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    جامعة الملك عبدالعزيز تحقق المركز ال32 عالميًا    «العقاري»: إيداع 1.19 مليار ريال لمستفيدي «سكني» في نوفمبر    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    السجل العقاري: بدء تسجيل 227,778 قطعة في الشرقية    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    تحت رعاية سمو ولي العهد .. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي.. تسخير التحول الرقمي والنمو المستدام بتوسيع فرص الاستثمار    محافظ جدة يطلع على خطط خدمة الاستثمار التعديني    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    نهاية الطفرة الصينية !    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثلاثة ايام في النمسا المضطربة . مَن هو يورغ هايدر: مشعل الحريق الذي يبحث عمن يطفىء؟1
نشر في الحياة يوم 15 - 02 - 2000

في أحد أيام كانون الثاني يناير 1950 وُلد في قرية باد غويسرن، في مقاطعة كارينثيا، جنوب النمسا، طفل اسمه يورغ هايدر. ولادة الطفل جاءت تخفّف وطأة الحزن الذي خيّم على بيت الأبوين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قبل خمس سنوات.
فوالدة يورغ كانت عضواً في رابطة نسائية نازيّة. أما والده، صانع الاحذية الصغير، فنازيٌ متحمّس دفعته الحماسة لالمانيا الى السفر اليها في 1934، علّه يعاود دخول بلده النمسا "مُحرراً" وموحداً إياه مع "الاصل" الالماني.
وهذه المشاعر لم تكن، في 1950، غير اعتيادية في كارينثيا. فالمقاطعة المذكورة كانت قبل الوحدة مع المانيا، او الانشيلوس، معقل النازيين النمسويين. وحين آلت الحرب الثانية الى هزيمتهم، تسلّل بعضهم الى الأحزاب الشرعية، وجعلوا من عضويتهم فيها ستارةً تُخفي مواضيهم.
ومن هذا القبيل تسلل كثيرون الى "حزب الشعب" الديموقراطي المسيحي، كما تسلل آخرون الى الحزب الاشتراكي الديموقراطي، حتى ان الاشتراكي فاغنر الذي حكم كارينثيا عشرين سنة قبل ان يصعد يورغ، كان ضابطا معروفاً في احدى الفرق النازية. وهو، مع الاسترخاء النسبي الذي سجلته السنوات القليلة الماضية لم يعد يتردد في التذكير والتباهي بذاك الماضي.
بيد ان النازيين الأشد إصراراً وولاءً أنشأوا احزاباً صغرى لهم على نطاق النمسا. وفي كارينثيا بالتحديد أسسوا مدرسة في كلاغنفورت، عاصمة المقاطعة، تربّي أبناءهم على مبادئ النازية. وفي المدرسة هذه درس يوغ الصغير، المنزوي والسمين، كما درست اخته التي صارت لاحقاً من مناضلات "حزب الحرية". وهناك تعلّم التاريخ بوصفه جرحاً نازفاً نازلا بالنمسويين والألمان منذ عهود عهيدة.
وفي هذه البيئة ألقى، وكان لا يزال في السادسة عشرة، خطاباً عَنْوَنه "هل نحن، النمسويين، ألمان؟"، أعادت الصحافة النيو-نازية نشره، كما نال بسببه جائزة المدرسة. ذاك انه، فضلاً عن "الافكار" التي حواها، أدّاه يورغ الشاب بطريقة خطابية مؤثّرة كسبها من رغبته المبكرة في التمثيل وقضائه ساعات، في البيت، امام المرآة.
على ان طبيعة كارينثيا، التي تحدّها من الجنوب الشرقي سلوفينيا ومن الجنوب الغربي ايطاليا، تكفّلت تسهيل التاريخ وتبسيطه، وجعله الى الانشاء والخطابة اقرب. فهي، في الشمال والغرب والجنوب، جبال مرتفعة، صلبة وجميلة يكسو الصنوبر معظمها. اما منحدراتها الشرقية فتنتهي بها الى السهل الهنغاري حيث يقيم الآخر "الأدنى".
وفي كارينثيا بحيرات تتسابق كتب السياحة النمسوية في وصف روعتها. ولأن طقسها لطيف قياساً بمعايير المناطق الشاهقة، سُمّيت "الريفييرا النمسوية". الا انها ريفييرا غنية بالمواد المعدنية فيما تنتج الخشب بكميات ضخمة.
وهي ايضاً قرى وبلدات صغيرة السكان يُعنى ابناؤها بالجسد والقوة ورياضة التزلج وتسلق الجبال. حتى مدينة كلاغنفورت، وهي اليوم لا تُعدّ اكثر من 150 ألفاً، لم تُعرف بأي حياة ثقافية تُذكر. ولئن وُلد فيها أحد أبرز ادباء النمسا، روبرت موزيل، الا انه سريعاً ما غادرها الى مدن اكبر ولم يعد اليها قط.
لكن اذا كان عقل موزيل اكثر تطلباً مما توفّره كلاغنفورت وجبالها الصاعدة من شواطئ بحيرة فورثر، فأصحاب الدكاكين وتجّار السياحة الصغار وسائر الحِرَفيين والفلاحين في كارينثيا، رأوا ان يلتصقوا بالطبيعة ويغاروا على اتحادهم بها من الآخرين. هكذا لم تستوعب عقولهم تعقيدات الواقع مفضّلةً عليه فرادة الطبيعة البسيطة. والواقع كان معقّداً هناك فعلا. فالسلوفينيون أقاموا مبكراً في الوديان قرب الحدود الجنوبية الحالية للنمسا. وفي 1919، بُعيد قيام دولة يوغوسلافيا، طالبت بلغراد بهذه الاراضي، فنظّمت قوات الحلفاء المنتصرين استفتاء لسكان كارينثيا. لكن السلوفينيين أنفسهم صوّتوا بنسبة 22 الفاً الى 15 لمصلحة البقاء في النمسا، فقضي الامر من دون ان تزول الاشكالات. ومن الاشكالات ان "الالمان الاصليين" غدوا اشد تشكيكاً بالسلوفينيين، الا ان هؤلاء الاخيرين أمسوا اشد مزاودة في التوكيد على انتمائهم الى اللغة والاثنية الالمانيتين.
غير ان جوار كارينثيا عزّز فيها النزعتين المتضاربتين، تلك الناجمة عن صفاء الطبيعة وجمالها، وتلك الناشئة عن تعقيد الواقع والتاريخ. ففي شمالها يقع اقليم ستيريا المعروف ب"الاقليم الاخضر" لأن قرابة 50 في المئة من مساحته غابات. وفي غربها، بل في اقصى الغرب النمسوي، اقليم فورارلبرغ الجبلي ذو الطبيعة القاسية والقليل السكان ممن يتناثر سكنهم بين المحطات المائية ومعامل النسيج. لكن هذا الاقليم الذي يتحدث اهله الالمانية بلهجة سويسرية، هو الذي شهد بعيد الحرب العالمية الاولى حركة شعبية تطالب بالانضمام الى الاتحاد السويسري.
واذا رفضت سويسرا استجابة المطلب فإن ايطاليا سلكت سلوكاً مختلفاً مع منطقة تيرول التي هي امتداد غربي لكارينثيا. فهذه الارض الجبلية الوعرة كانت على الدوام مصدرا لاستلهام الحماسة القومية، وبفعل وطنيتها منح الامبراطور الهبسبورغي التيروليين امتيازاً لم يحظ غيرهم بمثله، وهو ان يخاطبوه ب"انت" بدل "انتم". وفعلاً، عندما رضخت النمسا كلها لنابليون ظلت تقاومه تيرول بقيادة قائدها الفلاحي اندرياس هوفّر الذي اعدمه الفرنسيون حين القوا القبض عليه في 1810. لكن تيرول الجنوبية ضُمت، بموجب الحرب العالمية الاولى وهزيمة النمسا والمانيا، الى ايطاليا، فابتلعت الاخيرة، بين ما ابتلعت، 250 الف ناطق بالالمانية قضّوا طويلا مضاجع سائر النمسويين، لا سيما جيرانهم الكارينثيين.
البيت المشبوه
لقد قرأ هايدر الصغير هذا التاريخ بطريقة تجعل المؤامرة بمثابة خط احمر يخترق لوحة بيضاء. لكن سراً كانت تعرفه عائلة هايدر وقليلون آخرون طُمر في هذا التاريخ. والمؤامرات تتسع دائماً للاسرار من اي نوع كانت.
ففي 1928 قدم الى ريف كلاغنفورت ثري يهودي ايطالي الاصل اسمه جورجيو رويفِر، ودفع ما قيمته الآن 14 مليون دولار ثمناً لما بات يُعرف ب"غابة بارِنتال". وبارنتال هذه قطعة ارض كبيرة وصنوبرية في جوار بحيرة وبيت ريفي خشبي من النوع الذي تحمله بطاقات البريد السياحية. وكان لرويفر صديق من المنطقة اصبح في وقت لاحق نازياً هو ماكس غوتز الذي توسط في بيع الغابة - المزرعة. وفي 1938، سنة الانشيلوس، طلب رويفر من غوتز بيع الأرض ساعياً الى ترحيل عائلته الى خارج النمسا واهوالها، وما لبث ان مات في العام نفسه مصاباً بسرطان الرئة. اما غوتز، وكان من النازيين النفعيين غير المأخوذين بالعقيدة، فاقتنع بالفكرة بعدما اعلنت السلطات أَرْيَنَة بارنتال في حزيران يونيو 1939 مُثبتةً على مدخلها يافطة تقول: "غير مسموح لليهود والكلاب بالدخول".
وفعلاً حصل ماكس هذا على اذن من النازيين يجيز له استخدام بعض اراضي المزرعة، لكنهم ما لبثوا ان طلبوا منه بيعها لوزارة الاحراج والتشجير، وكان على رأسها يومذاك هيرمان غورينغ الشهير. ويبدو انه عبر ماكس غوتز اطّلع المسؤول النازي المحلي فرانز لوف على وثائق تخصّ بارنتال، فاتصل بالمدعو جوزيف ويبهوفر الذي أمّن ما قيمته 1.3 مليون دولار اشترى بها الارض، تاركاً لغوتز حصة صغرى.
لم تنته قصة بارنتال مع اتمام الصفقة في 1941. فبعد الحرب ادّعت ماتيلد رويفر، ارملة جورجيو، على ويبهوفر، واقامت دعوى في كلاغنفورت متذرعة بحقيقة اعمال النهب التي حصلت في النمسا بعد الانشيلوس والتي فاقت ما جرى في المانيا لعدم وجود اداة موحّدة وضابطة هنا. لكن المحكمة اكتفت بأن دفعت لها ما يعادل 120 ألف دولار مكرّسة تملّك ويبهوفر لبارنتال.
وفي 1986 ورّث الاخير المزرعة والغابة لحفيد شقيقه... يورغ هايدر.
بعد ذاك صدرت عن الأخير عبارات شديدة التناقض في ما يخصّ بارنتال. فالعام 1986 رفعه ايضا الى قيادة "حزب الحرية" مسلّطاً عليه اضواء لا يستطيع تجنّبها. فقد قال، في احدى المقابلات التي اجرتها صحيفة محلية معه، ان "الوسيط في هذه العملية كان اليهودي لوف فوف فلياش وهو بائع ذرة وطحين وصيّاد من اصدقاء عم ابي. جاء مرة وقال: لديّ شيء، واخرج الخرائط واطلع عليها جوزيف ويبهوفر، عم ابي، الذي حوّلها لي في 1986". وفي مناسبة اخرى قال: "من اسمه: لوف، يمكن ان يكون يهودياً. هذا ما اعتقده. هذا ما اظنه. اذن هذا ليس تمييزاً. هل هو تمييز؟ اقول ذلك لأنني كثيراً ما أُسأل عن بارنتال". لكنه في مناسبة ثالثة قال: "اتخيل ان لوف كانت له صلاته ب]السيدة[ رويفر التي قدمتها له كشخص موثوق. فقد ائتمنته على ان يهتم بمصالحها ويبيع ملكيتها لها. اتخيل انه كان ممكناً في كارينثيا في 1940 لشخص ]يهودي[ ان يتحرك بحرية من دون ان يشتغل بالبيزنس". لكن اليهودي، ما لم يكن من ركّاب قطار يتجه به الى اوشويتز او داشو، لم يكن يسعه ان "يتحرك بحرية" في النمسا حينذاك. غير ان تناقضات هايدر في ما خص بارنتال، لا تلغي انها اضافت عنصرا جديدا الى شخصية القائد الشعبوي.
ففي 1986 اصبح نجل صانع الاحذية البالغ 36 عاماً، ثرياً يجني الكثير من بيع خشب الغابة والحيوانات التي تُصطاد فيها وتُباع جلودها، كما بات في وسعه ان يقلّد بارونات القرون الوسطى ممن يملكون العُزَب الريفية المأهولة بالفلاحين او المحاطة بهم.
وهذا ما منحه شرعية اقتصادية كانت العائلة مصدرها، تماماً كما كانت العائلة اياها مصدر شرعيته العقائدية التي اوصلته الى قيادة الحزب. وبهذا، وبدل ان ينشقّ ويغاير، اتصل لديه الترقي الاجتماعي العزيز جداً على قلوب البورجوازيين الصغار بثقافة ابوية محافظة وريفية. فالنجاح، تبعا للتجربة، يحصل في المحافظة ومن داخل حضنها الابوي.
وهو، قبل ذلك، لم يفوّت فرصة الا ودلّل على هواه الاهلي. ففي 1970 صار من ناشطي حزب اهله، "حزب الحرية". وما ان انجز دراسة المحاماة في فيينا حتى عاد ليستقر في جبال كارينثيا التي لم ينقطع عنها اطلاقاً. ولوحظ، ما بين السبعينات واوائل التسعينات، ان خطاباته كانت تتوجه اساساً الى كبار السنّ في مقاطعته. فهؤلاء، وهم اصدقاء ابويه والشاهدون على ايام العزّ الهتلري، كانوا قاعدته التي اوصلته في 1979 الى البرلمان للمرة الاولى، كما اوصلته، بعد عشر سنوات، الى حاكمية كارينثيا.
محطات الصعود
بيد ان تموز يوليو 1991 حمل اليه انباء غير سارة: ذاك انه امتدح سياسة العمالة "النظامية" في عهد هتلر، فاستدعى الضجيج الذي اثاره كلامُه استقالتَه من الحاكمية. وفي هذه الغضون غدت اخبار هايدر اخباراً تتعدى المقاطعة الجنوبية الى البلد كله: فهو منذ توليه الحزب، بدأ ينقله من تنظيم هامشي الى قوة في المتن العريض. ذاك ان الاطراف النازية المبعثرة التي سُمح لها بالعمل الشرعي، شريطة التخلي عن اعلان نازيتها، لم تتجاوز حتى اواسط الثمانينات نسبة ال5 في المئة من الناخبين. ومعه اختلف الامر: ففي شباط فبراير 1993 اطلق حركة عرائض تطالب بابقاء نسبة الاولاد الذين لا يتكلمون الالمانية في المدارس دون ال30 في المئة، لكن التواقيع جاءت دون المطلوب. وطالب، بالمناسبة، باجراءات قاسية لتخليص النمسا من المهاجرين غير الشرعيين، بينها التدقيق المنظّم في هوياتهم واوراقهم الثبوتية، واقامة المزيد من مقار الاعتقال، وتنظيم رحلات تسفير لهم الى بلدانهم. لكن نشاطه هذا ادى الى تغيير الخريطة السياسية الراكدة، اذ حصلت في فيينا اكبر مظاهرة منذ الحرب الثانية ضمت 300 الف شخص ينددون بمطالب هايدر.
وفي تشرين الاول اكتوبر 1994 نال حزبه في الانتخابات العامة 22 في المئة، فدق ناقوس الخطر. ولئن زار في العام نفسه متحف المحرقة في واشنطن بعيد تسميته معسكرات التجميع والموت "معسكرات عقاب" وامتداحه رجال الS.S النازيين، الا انه عاد ينتقد، في نيسان ابريل 1995، الخطط الحكومية للتعويض عن ضحايا النازية، اي اليهود، معتبرا ان "من غير العدل ان تذهب الاموال التي تُجبى من الضرائب الى اسرائيل". وتحت تأثير صديق يهودي له، سريعاً ما "صحّح" الخطأ بخطأ آخر اذ انتقد توجيه هذه الأموال الى... الفلسطينيين!
وعاود هايدر، في 1996، دخول البرلمان كعضو عن حزب الحرية، لكنه اعلن، في آذار مارس 1997، انه ينوي اعادة ثلث الاجانب الذين يعملون في النمسا الى بلدانهم خلال العامين المقبلين. فما ان حل نيسان 1999 حتى كان يُنتخب ثانية حاكما لكارينثيا ب42 في المئة من الاصوات. وفي تشرين الاول من السنة نفسها فاز حزبه في الانتخابات العامة ب27 في المئة من الاصوات، فأتى ثانياً بعد الاشتراكيين الديموقراطيين الذين نالوا 33 في المئة وقبل حزب الشعب الذي حصل على 26. بيد ان الحملة الانتخابية خيضت بشعار يحذّر من "المبالغة في التأَجْنُب"، والمصطلح اختراع نازي معروف.
وكانت الطامة الكبرى بدعوة حزبه، في اوائل شباط الجاري، الى المشاركة في الحكومة التي بات نصف اعضائها من حزب الحرية، وفي عهدتهم وزارات نيابة المستشارية والرياضة والادارة والمال والدفاع والبنية التحتية والعدل والشؤون الاجتماعية والعمل.
في هذه الغضون تغيرت طبيعة الحزب قليلاً فيما كانت تتغير طبيعة كارينثيا التي صارت اغنى واشد احتكاكا بالخارج. فبحسب ما تبين في 1994 تدخل طرف غير محسوب في مساعدة هايدر على الوصول الى ما وصل اليه: انه الفرع النمسوي لشركة "ريبوك" العملاقة لصناعة الملابس الرياضية والادوات الملحقة. فقد اعترفت ريبوك نفسها بان فرعها ذاك "قدّم الدعم لانتاج فيلم فيديو عن هايدر" قبل ست سنوات. وحين تبين ان المركز الرئيسي للشركة في الولايات المتحدة لم يكن على بيّنة من الأمر، اضطر مدير الفرع النمسوي الى الاستقالة. لكن ما فعله فرع النمسا اثار ضجة لم تهدأ لتعارضه تماماً مع سياسة ريبوك وصيتها كنصيرة لقضايا الاندماج ومعاداة العنصرية. فهي لم تكف عن التأكيد على انها الشركة الاولى التي تغادر جنوب افريقيا، في 1986، احتجاجا على الابرتايد. كما انها قدمت مساعدات للكثير من قضايا حقوق الانسان التي تقع، بحسب كراس اصدرته، "في قلب ثقافة شركتنا".
على ان حصول ما حصل يشي بان هايدر لم يعد حكراً على مُسنّي كارينثيا. فحين يدعمه بالسر فرع شركة تبيع سنويا سلعا بقيمة 3 بلايين دولار وتقدر ارباحها ب50 مليونا، نكون امام وقائع جديدة. واهم الوقائع هذه ان هايدر غدا يخاطب الشبان الصاعدين مالياً، او اليبيز، المستاءين من الاحتكار المديد الذي مارسه الحزبان التقليديان للحياة السياسية. وقد راح في السنوات الاخيرة يبدي حماسة للقيم الاميركية، فحضر ندوة اقتصادية في جامعة هارفارد، وقبل شهر ونيف ظهر الى جانب محافظ نيويورك الجمهوري في غداء لتكريم رونالد ريغان، الغائب عنه لمرضه، دعا اليه "مؤتمر المساواة العرقية".
تجميع للتعارضات
وهو في مواصفاته الشخصية المصنوعة الى حد بعيد، يمثّل التقاطُعات الكثيرة التي يحاول استثمارها جميعاً، والتي بات يسهّلها زواج الافكار الرجعية والتطلعات النيوليبيرالية. فهو يعيش، في كارينثيا، حياة محافظة جداً مع زوجته الغامضة التي لا ذكر لها، ومع ابنتيهما. الا ان وجهه كمتزلج ومتسلق جبال لا يتجزأ عن صورته الفحلية التي سوّقها بنجاح للجمهور النمسوي، حتى انه ادعى في تشرين الثاني نوفمبر الماضي انه شارك في سباق الماراثون في نيويورك وانجزه ب 4 دقائق فحسب، فيما ذكر منظّم السباق آلان ستاينفِلد ان اسمه غير موجود في سجلات العدّائين.
وهايدر قادر على ارباك المحللين الذين اعتادوا الزعيم الشعبوي فجّاً وارعن كجان ماري لوبن، او كاريكاتوريا محضا كجيرينوفسكي. فهو، على عكسهما، مساجل بارع يعرف كيف يتحدث ويخاطب، حتى ان بعض المتخوّفين اليوم يتخوفون من ابتلاعه شريكَه في الائتلاف، المستشار شوسل المعروف بقلة جاذبيته. لا بل هو شديد الاستعراضية يهوى ارضاء الجميع، مستعيداً تشكيل العالم على صورة اهله واصدقائهم فيما هو يلقي امامهم خطاباً يحاول به انتزاع اعجابهم.
ويجيد يورغ التعامل مع التلفزيون مستفيداً من رغبته القديمة في ان يكون ممثلاً، حتى ذهب البعض الى تشبيهه بتوني بلير لجهة اصطناع الصورة المعمّمة. لكن "جاذبه" لا يقف هنا، اذ يحاول في ملبسه وبعض كلامه ان يمثل ما هو جديد وعصري و"كول".
فهو، مثلا، يقود سيارة بورش، ويحاول الظهور بمظهر مطربي "البوب" تاركاً شَعره ما بين منكوش وممشّط، من دون اي مواظبة على حلاقة ذقنه. وحين يبدو بقميص لا قبّة له وهو احياناً مجرد سويت شيرت، يؤكّد لكثيرين انه ليس من التقليديين الذين ملّهم النمسويون، ولم يوفّر هو نفسه شتيمة الا الصقها بهم. وهو، بالفعل، لا يكف عن تثبيت هذه الصورة الشعبوية التي تؤلّف كاريزمية خاصة به. فحين يدخل استوديو التلفزيون يسلّم على الجميع، بحسب ما سمعت من تلفزيوني يكرهه، فيما التحية عادة غير مألوفة في سياسيي النمسا ممن يدخلون ويخرجون من دون ان يحس بهم احد.
لكن هذا مجرد وجه من الوجوه الكثيرة التي يتقنّع بها. فهو، في صورة له، يُطعم دباً ضخماً كما لو أنه يخاطب الأطفال ويذكّرهم بألعابهم. وفي اخرى يتباهى بثيابه الرياضية، وفي ثالثة بألوان ملابسه الفولكلورية التي يعشقها سكان كارينثيا والارياف الجبلية.
ويجيد هايدر نوعاً من النكات "الشعبية"، هي تلك التي تُضحك مؤيديه على خصومهم وتستهزىء بهم في لحظات عثرتهم. وينمْ، الى ذلك، عن شطارة الريفي الذي حذلقته الحضارة قليلاً، فتراه يمرّر هتلر حين يجمعه بتشرشل اذ الاثنان، ومعهما ستالين، "مجرمون"، او تراه "ينبّه" الى ان مقاطعة الامير تشارلز بلادَه لا تؤثّر، وهي كانت لتؤثّر لو ان الاميرة الراحلة دايانا هي التي قاطعت. بيد انه اذ يخاطب نوازع كراهية الغريب عند النمسويين، يبدي سيطرة جيدة على لعبة التاريخ. ذاك انه، على العموم، لا يثير المواضي النازية الا بعبارات الامتداح القليلة التي قالها واثارت الضجيج، وبالطبع فهو لا يدينها ولا يدعو الى مراجعتها. وقد امتدح مرة ولادته "المتأخرة" في 1950 كما لو انه كان يزكّي الاشاحة عما جرى في الحرب الثانية. فاذا اضيف اصراره على مطالبة شعبه بأن يفتخر بماضيه ولا يذعن ل "الخارج" ومطالبه، رأينا الرجل يحوّل الماضي من موضع اعتذار الى صيرورته مادة هجوم. وهذا لا يحمل للضمير النمسوي الا الراحة والسكينة.
اية فاشية؟
ثم اذا كانت الفاشية لصقا لشتى الافكار، فهو البطل الذي لا يُجارى في هذا المعنى. فقد قال في مقابلة ل"داي زايت" انه ينسج على منوال الاشتراكيين الديموقراطيين ويكنّ اعجابا كبيرا لبرونو كرايسكي الذي يعتبره قدوة. وقال في مقابلة اخرى انه يشبه في سياساته سياسات توني بلير. كذلك ايد المشروع الاوروبي قبل ان يعاديه، محاولا منذ 1995، ومن دون نجاح، منع انضمام بلده الى الاتحاد. غير انه سريع في التراجع والاعتذار عما يقول، تاركاً لدى خصومه بعض الارتباك ولدى مساجليه الضعفاء الشخصية استعدادا ل"اعادة تفهّمه". فهو، في النهاية، يستمع الى ما يقوله الناس ويقوله بصوت اعلى، فينقل الخوف ويغذيه، بحسب وصف الكاتب في مجلة "بروفيل" جورج هوفمان اوستنهوف الذي يوقّع مقالاته باسم "هازي".
وهو، تبعاً لأحد اوصافه، "ثعلب" يقول ويعتذر ويوقّع ويتملص.
واذا كان من ثوابته القليلة عداؤه للكتاب والمثقفين، فان تكوين حزبه يشي ببعض جوانب الهايدرية. فهو يناشد الشبيبة والاغنياء الجدد باسم مكافحة الفساد والاحتكار التقليدي للحزبين، واعداً بمزيد من العصرية والحريات. ويناشد النقابات وبعض اصحاب الدكاكين والمزارعين والعمال محذراً من العولمة والانفتاح والهجرة التي "تؤدي" الى خفض التقديمات الاجتماعية. وحركته هذه بين تأييد الخصخصة والرأسمالية المستجدة، وبين النبرة الشعبوية والعمالية النقابية، ليست مأمونة العواقب. فالتناقض بين تمثيل العمال التقليديين والقليلي المهارات وبين تمثيل "الناجحين" لم يستطع حلَّه قادة احزاب عمالية عريقة كتوني بلير، فكيف بهايدر لا سيما اذا صعّد احد الطرفين والحّ في المطالبة؟
والحال ان هذه الاستراتيجية نفعته في الانتخابات الماضية فتعاطفت مع حزبه الفئات العمرية التي تزيد على الخمسين وتقل عن الثلاثين، واستطاع ان ينال تأييد نصف مجموع الذكور الذين تحت الثلاثين. كما صوتت الفئات الاقل تعلّماً لحزبه الذي حصد 47 في المئة من اصوات الطبقة العاملة، فكان نصف مؤيديه مؤيدين تقليديين لليسار.
وحزبه هذا ينطوي على تناقضات كثيرة يصعب القول معها بدوام النجاح الذي امّنته الانتخابات الاخيرة. فبين وزرائه اليوم نائبة المستشار سوزان رياس باسر، المولودة في قرية براوناو التي ولد فيها هتلر، وهي نائبة ارياف تيرول حتى 1998 والمساعدة المخلصة لهايدر. وهناك وزير المال كارل هاينز غراسر، نائب حاكم كارينثيا السابق الذي تربطه به خصومات عدة. واذا كانت وزيرة الشؤون الاجتماعية اليزابيث سيكل من كارينثيا ايضا، الا ان الجناح المديني في الحزب يمثله وزير الدفاع وابن فيينا هيربرت شايبنر.
ولئن صحت رواية سيمون فزنتال عن انه لم يقل شيئا لاسامياً، الا ان روث وداك، رئيسة مركز ابحاث "الخطاب، السياسة، الهوية" في فيينا، اطلعتني على ما لا يحصى من عبارات لاسامية صدرت عن اعوانه.
وقد يكفي للتنبيه الى خواء الحزب وتضاربه ان وزيرته سيكل كانت من قيادات "الخضر" لتنشق عنهم الى "الحرية" في 1994. وفي المقابل فان هايدي شميت التي كانت مساعدة هايدر وزعيمة التيار "الليبرالي" في حزبه الذي رشحها لرئاسة الجمهورية، انشقت عنه بسبب الهجرة وأسست حزبا ليبراليا لا يزال ضعيف العود.
مع هذا لا يلتئم هذا التنافر الا في المهرجانات الحزبية حيث يطغى جو مخيف يمتلىء بالكراهية للاجانب والاقليات: رعاع يتصدرهم مهندمون ذوو قيافة عسكرية بشَعرهم الممشط بعناية واحذيتهم التي تلمع وبزّاتهم التي تشبه بزّات الضباط، فيما تتخللهن نساء مصففات شعورهن ولابسات تيّورات مشدودة ترد الى اناقة السكرتيرات. وهذه، بالطبع، من شكليات التنظيمات الفاشية الا انها فاشية تطورت مع تطور معنى الكلمة. فحزب الحرية، كما قال لي التلفزيوني النمسوي رايموند لوف، لا يملك ذراعا عسكرية ولم يُثر اي اشكال عنفي على الاطلاق بحيث لا يجوز وصفه بالفاشية.
أليس الدليل، كما اضاف لوف، اننا نجلس هنا، نأكل ونشرب ونناقش في أمر الفاشية؟
الحلقة الثانية الجمعة المقبل:
الأسباب البعيدة لمعضلة النمسا وصعود هايدر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.