ليس بين ايران وأي نقطة في الخليج مسافة أكثر من مسار ساعة واحدة بالطائرة، وعلى رغم هذا القرب الجغرافي فإن هناك مسافة بعيدة في الفهم والاستيعاب لما يحدث على الضفتين من أحداث بالنسبة الى الجانبين. اعتدنا نحن في الضفة الغربية من الخليج ان ننظر الى الأمور التي تحدث في ايران على أنها إما أسود أو أبيض حسب الموقف المسبق والتكوين النفسي أو الثقافي والقراءة عن بعد لكل ما يدور في ايران من أحداث، وهي بطبيعة الحال أكثر من ذلك وأعمق. ونقف ويقف العالم هذا الاسبوع بين حدثين في ايران: الأول هو الاحتفال بالذكرى الحادية والعشرين للثورة الايرانية والنقاش الذي تفرزه المناسبة حول ما حققته وما لم تحققه من آمال للشعب الايراني. والثاني هو السباق الكبير نحو انتخاب البرلمان الايراني السادس الذي يجمع المراقبون على أنه حجر زاوية لمستقبل ايران وعلاقاتها الاقليمية والدولية. الناظر الى تفاصيل المشهد الايراني بتاريخه في الاحدى والعشرين سنة الماضية منذ الثورة حتى اليوم يرى في هذا المشهد الكثير من الصور بعضها متناقض، هناك اغتيال المثقفين ومحاكمة رجال الدين، والانتخابات المحلية، والنقد الصحافي واغلاق أو فتح صحف، والانتخابات البرلمانية والرئاسية، والسماح بالحريات العامة أو تقليصها، ونقاش حيوي دائر حول علاقة الدين بالدولة ومستقبل ايران مع الجوار، والعلاقات بالخارج، خصوصاً الولاياتالمتحدة. هذه الصور المتلاحقة قد تخفي الكثير من نتائج الثورة الايرانية وتبدي القليل منها. لا شك ان الثورة الايرانية يحسبها بعضنا كمثيلاتها من الثورات العربية التي اجتاحت بلاد العرب بعد الحرب العظمى الثانية في النصف الثاني من القرن الماضي، والتي خلفت في الغالب أنظمة عسكرية بثياب مدنية أو مدنية لبست الملابس العسكرية، وكانت لها نتائجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة عما تتركه الثورة الايرانية اليوم، أو ما يحتمل أن تتطور إليه. لعل ما يرى الخبراء المنصفون انه أكبر انجاز للثورة الايرانية هو أنها حققت ما سماه روبن رايت - في مجلة "الشؤون الخارجية" الأميركية في عددها الأخير - "تفويض السلطة للمواطنين"، وما تسميه أدبيات الثورة الايرانية "قوة المستضعفين"، وهو أمر لم تجسر عليه الثورات الأخرى في المنطقة، إذ فضلت انشاء نخبة خاصة بها. وربما حدث ذلك سلطة المواطنين في ايران نتيجة تطور مسار الثورة نفسها ومن دون تصميم مسبق، وربما حدث بسبب تاريخ الشعب الايراني وثقافته، أو أخيراً بسبب ما لاقاه تحت حكم البهلويين في القرن العشرين من تسلط، ولكن الحقيقة الشاخصة ان ما نراه في ايران هو ازدياد التفويض السياسي لقطاعات الشعب المختلفة. هذا التفويض هو الذي جعل مسيرة ايران السياسية تحقق انتخابات للرئاسة والبرلمان بشكل شبه منتظم، ويحصل تغيير وتداول في السلطة. وهو الذي جعل تطور المسار السياسي يحقق مصالح مرسلة من دون التقيد بمصالح فئات محدودة، مع تجاوز النصوص بشكلها قطعي الدلالة والاتجاه لمواءمتها مع حاجات المجتمع والاستجابة لتطوره. مجموعة من الدروس تقدمها الثورة الايرانية لتيار واسع من الإسلام السياسي العربي وغير العربي وهي على بعد جغرافي قريب، ان سارت الأمور كما يرغب الاصلاحيون، من تجربة الخروج من الصراع للوصول الى التآلف هذا إذا حقق تيار الاصلاح أكثرية في انتخابات بعد غد الجمعة. فهناك، أولاً، تيارات جديدة تزدهر تضع ايران في مقدمة ما يمكن أن يطلق عليه الاصلاح الديني والمواءمة السياسية والدينية، وهو أمر حاوله الاصلاحيون الدينيون العرب منذ مطلع القرن العشرين من دون نتيجة حاسمة، ولا داعي لذكر الاسماء فهي معروفة. إلا أن ما يلفت النظر ان هذا التوجه الاصلاحي الديني الايراني يستمد بعض جذوره الفكرية من مفكرين عرب حاولوا طرح نظرياتهم، ففشلت أطروحاتهم في بيئتهم العربية، ولم يكن من المستغرب ان يحصل مفكر مثل حسن حنفي على جائزة أفضل كتاب في معرض طهران الدولي للكتب العام الماضي ويتسلم الجائزة من رئيس الجمهورية السيد خاتمي. كما ان كتباً أخرى تتناول الاصلاح الديني ممنوعة أو شبه ممنوعة في بيئتها الثقافية العربية، تراها معروضة في مكتبات ايران، بل انها تجد رواجاً أيضاً بين مثقفيها، ومنها كتب لنصر حامد أبو زيد وغيره. تمكين الجمهور العام من قدرات تصويتية تقرر تركيبة المؤسسات الحاكمة، مكن الايرانيين من أن يخرجوا للمطالبة بحقوقهم، ولم تعد الثورة الايرانية فقط للتخلص من النظام القديم كما بدأت، بل أصبحت تهدف الى بناء نظام آخر على قواعد مختلفة، حتى أصبحت هناك ديناميكية مستمرة للتطهير والتطهير المضاد لم تمكن أحداً حتى الآن من السيطرة على السلطة والبقاء فيها من دون منازع ومن دون طرح الأسئلة والبحث عن الاجابات، ولكن التطور جاء الى الأمام. تفويض الجماهير هو الذي خلص الثورة من سلبيات الثورة ان صح التعبير، أي من أن تظل أسيرة للشعارات، مؤدية الى أن ايران في الاحدى والعشرين سنة تنتقل من الجمهورية الأولى الى الثانية الى الثالثة التي ظهرت تباشيرها مع وصول السيد محمد خاتمي الى سدة الرئاسة في 97، وقد انتخبه سبعون في المئة من الناخبين الايرانيين، ومثلت حركة اصلاح يبدو أنها تستكمل أطرها في الانتخابات البرلمانية القادمة، أو هكذا يرغب المتفائلون. الجمهورية الأولى ووجهت بحرب هي أكبر حرب دموية تخوضها ايران في القرن العشرين، وحصار خارجي وضعف في الدخل النفطي، وصراع داخلي شرس بين قوى تريد السيطرة على الثورة. في الجمهورية الثانية تخلصت الثورة من ردود الفعل وما عرف بعصر تأمين الثورة، وشهدت تقارباً اقليمياً محدوداً ونمواً لأفكار مخالفة من داخل مظلة النظام اقتصادية واجتماعية وحتى سياسية. اما الجمهورية الثالثة فهي التي اطلقت كامل نتائج تفويض السلطة، فجاءت بخاتمي الذي كان على هامش النظام لفترة الى مركز القرار، محبذة أطروحاته في الحرية والمجتمع المدني وتغليب المصالح المرسلة للشعب والاجتهاد لمسايرة العصر. على صعيد البنى التحتية حققت ايران ما يشير الى انطلاقة غير مسبوقة، فقد انطلقت في بناء المدارس والعيادات والخدمات الاجتماعية والطرق العامة وتنمية الريف وتقديم خدمات الكهرباء والتلفزة. فقد قامت الثورة بعمل مشهود في التعليم ان لم يكن في المحتوى فعلى صعيد الكم، ففي السبعينات كان نصف الايرانيين بين السادسة والثانية عشرة من العمر يحصلون على التعليم النظامي، وبعد عقدين من الزمان وصلت نسبة من يحصلون على التعليم في تلك السن الى 93 في المئة من عدد السكان الذي تضاعف في الفترة نفسها، فقفز من أربعة وثلاثين الى خمسين مليوناً، ثم الى ما هو عليه الآن ويقدر بسبعين مليون نسمة. التسامح مع الحريات الثقافية وتخفيف القيود الاجتماعية والأخذ بسبل حديثة في القوانين الشخصية والاتجاه نحو تحديد النسل، وفتح قنوات للحوار حول السبل الأفضل لتوافق الاسلام أو المبادئ الاسلامية مع متطلبات الحياة الحديثة وطرح وضع رجل الدين في الدولة للنقاش، كل هذه عناوين يحتد حولها الخلاف، وتقدم فيها القرابين، ولكنها في المحصلة تسير باتجاه العصرنة والتحديث. دور المرأة الايرانية الآخذ في التطور هو أحد المؤشرات المهمة في طريق التحديث الايراني، فوضع المرأة في المجتمعات الاسلامية هو احدى أبرز أزمات الهوية، في عالم لا يزال بعضه ينظر اليها كمواطنة من الدرجة الثانية، ويقيم أمام حقوقها السياسية والاجتماعية الكثير من العقبات، مما يقود الى سوء الفهم أو سوء التقدير أو سوء الممارسة، في الوقت الذي يؤكد فيه العالم المتقدم والمجتمع البشري المعاصر على وضع المرأة بوصفها كائناً بشرياً وانه بناء على موقعها في المجتمع تقاس قدرة وحيوية وتسامح المجتمع من عدمه. ومن اللافت ان المرأة في المجتمع الايراني تقدمت للانتخابات الرئاسية السابقة في ايران من خلال أربع سيدات للسباق الانتخابي كلهن لم يؤهلهن مجلس أمناء الدستور المفوض اليه البت في قبول أو رفض المرشحين، وقد قيل وقتها ان ذلك ليس بسبب الجنس، وبعد أشهر عين خاتمي أول امرأة ايرانية في منصب نائب الرئيس، أما الانتخابات البلدية الأخيرة فقد فازت فيها ثلاثمئة امرأة بمقاعد بلدية من أصل خمسة آلاف رشحن أنفسهن. وتساهم المرأة الايرانية في معظم مناشط الحياة اليوم، فمنهن طبيبات وصحافيات ومهندسات وحتى نساء دين. وتتخذ المرأة الايرانية من قوتها الجديدة وحقها في التصويت والانتخاب أداة لإقرار أي التوجهات العامة التي يجب أن تسود. فمناصرو حرية المرأة الايرانية يتعزز موقفهم بالأصوات الكثيفة التي هي للمرأة من جهة كما أنها تغري الآخرين بمناصرة حقوقها. تلك بعض النتائج التي حققتها الثورة الايرانية، ولكن الطريق أمام الاصلاحيين طويل، يتلخص في قدرتهم على ضبط العلاقة بين الديني والدنيوي، وعلى تفعيل آليات الديموقراطية بمعناها الحديث، ليس كآليات ومظاهر فقط، ولكن كفلسفة متكاملة، معتمدة على حقوق الانسان واحترام الحقوق المدنية والحريات الاقتصادية، وهي مثبتة في شعارات القوى السياسية الاصلاحية، خاصة تحالف الثاني من خراداد المطالب بتنفيذ شعارات خاتمي. اذا كان التاريخ لا يعود الى الخلف ولا يتجمد، فإن نتائج انتخابات البرلمان الايراني القادمة ستكون خطوة في مسيرة التغيير في ايران، وهي مسيرة مليئة بالتضحية تحول الزجر الى حوار. إلا أن أهم نتائجها المتوقعة هو التحديث الاسلامي السياسي، والذي تبدو مؤشرات فصل الدين عن الدولة من أبرز معالمه في الصراع بين الاصلاحيين والمحافظين. والمجلس المرتقب هو أهم مؤشرات هذا التغيير. * كاتب كويتي