ما بدأ مجرد تظاهرة طالبية صغيرة انطلقت من حرم جامعة طهران يوم الجمعة 8 تموز يوليو الماضي، هدفها المطالبة بالغاء قرار منع جريدة "سلام" والتراجع عن قانون المطبوعات الجديد الذي يفرض قيوداً مشددة على حريات التعبير والرأي واصدار الصحف في ايران، تحوّل أزمة وطنية يتعلق على اتجاهات تطورها مستقبل الجمهورية الاسلامية الايرانية، وطاول المرتكزات العقائدية والسياسية لنظام سلطة المؤسسة الدينية المهيمنة عليها، وامتد تأثيره ليشمل موقع ايران الاقليمي والدولي. أسئلة عدة طرحت حول ما جرى خلال "أسبوع الاضطرابات" في طهران وبعض المدن الايرانية الاخرى وما خلفته التظاهرات الطالبية من توابع ملأت المدى الايراني العام برمته، بل وهزته من اعماقه. إلا أن سؤالاً أساسياً يسعى الى الاجابة عنه في الوقت الحاضر جميع المهتمين بالشؤون الايرانية، وهو: ما مستقبل البرنامج الاصلاحي داخلياً والانفتاحي خارجياً للرئيس سيد محمد خاتمي، في ضوء النتائج التي ستفرزها الأزمة عاجلاً أم آجلاً؟ وفي سبيل بناء تصور أولي للأزمة الايرانية الحالية، اعتقد ان من الضروري محاولة استجلاء الاسباب التي هيأت المناخ المناسب لانطلاقها والعوامل التي قادت الى انفجارها. ومثلما هو الأمر عند محاولة التأمل الفكري في الوقائع الكبرى والانقلابات السياسية والاجتماعية الصاخبة ومحاولة تحليلها، فإن الرؤى والأفكار بشأنها تظل تسبح في فضاءات شتى، ولكن ليس من الضروري ان تتطابق مع الواقع المعاش ومضامينه الحقيقية ومرجعياته. وكما كانت الحال دائماً في محاولات الاجابة عن سؤال ماذا جرى بالضبط، فإن بعض الأجوبة يأتي في سياق البحث عن تسلسل الاحداث أو الآليات السياسية التي تحركها فقط، بل خصوصاً عن الاسس الثابتة والمسار التاريخي حيث يتم ملء الفجوات التي تساعد على عملية ادراك الحدث وفهمه. هناك من عزا "ثورة الطلبة" الى تلك النزعات التحررية لدى الاجيال الايرانية الشابة وتوقها الى ممارسة ما انتزعتها منها تلك السنون التي هيمن فيها الفضاء الديني المتشدد وقيمه على كل ما هو دنيوي. إذ يشار في هذا الصدد مثلاً إلى الاحباطات التي ولدها استمرار القيود المفروضة على الشباب، مثل حرمانهم من ممارسة حريات شخصية وممارسات شائعة في الغرب، باعتبار ان استمرار ذلك يتناقض مع الآمال التي بنتها الاجيال الشابة على خاتمي وآرائه الاصلاحية والانفتاحية التي انتخبوه على أساسها. ما قد يرتبط بذلك ايضا هو اجراءات القبول في الجامعات التي تعطي الافضلية وتمنح المزايا للمحسوبين على فئات النظام وتحرم منها من هم غير موالين. من بين الاجتهادات ما ركز على الجانب الاقتصادي وقال إن استمرار اتساع دائرة احزمة الفقر حول طهران والمدن الايرانية الاخرى في ظل تعمق الازمة الاقتصادية وتأخر، وربما عجز خاتمي في حلها هو الذي يجلد بسياطه ظهور الغالبية من الايرانيين، والذي كانت تظاهرات الطلبة بعض تجلياته. هناك أيضاً من يرى ان الامر برمته لا يخرج عن كونه مجرد "صراع ملالي" وفئات حزبية ومجموعات مصالح سيظلون يتراشقون فيه بالاجتهادات الفقهية والفكرية والسياسية المختلفة والآراء، لكنه لن ينضج تغيراً جوهرياً في ايران يمكنه أن يحدث أي قطيعة مع النظام القائم. وهناك من يعتقد ان مجرى التطورات في ايران كان لا بد ان يصل في يوم ما الى مستوى الأزمة بسبب التناقضات الكامنة في الوضع الدستوري والقانوني المتحكم في السلطات شبه المطلقة للمرشد العام للثورة وولي الفقيه، وتلك المحدودة التي يتمتع بها رئيس الجمهورية. وهناك ايضا وجهات نظر اخرى عالجت انعكاسات الازمة السياسية والاقتصادية والثقافية، وخلصت إلى أنها أكثر عمقاً وشمولية، لأنها تتعلق بجوهر الصراع الدائر بين المشروع التحديثي لخاتمي ورجال الدين المحافظين المتخندقين في المؤسسات وربما أيضاً بين مفهوم الحداثة برمته والاسلام. بعض هذه التحليلات عابر وقد ينطوي على تسطيح للامور، لكن معظمها يعكس مقداراً من الصحة ويساعد على سد الفراغات في فهم العملية السياسية والاجتماعية شديدة التعقيد الجارية في ايران اليوم. كما تكشف عن الاتجاهات المستقبلية للتغيير ومشاريع القوى الفاعلة وخياراتها فيه. فالمؤكد الآن أن الازمة الحالية ليست وليدة الاحتجاجات الطلابية، ولا العنف الذي استخدم في قمعها. كما انها ليست فقط نتيجة لبطء عملية الاصلاح التي قادها خاتمي، رغم ان كل ذلك ساهم باندلاعها، لكنها تعود بجذورها الى محصلة المسار التاريخي للثورة الاسلامية التي اصبحت الآن تقف على مفترقين: إما الظفر بالامكانات والمناسبة التي تعيد من خلالهما الاندماج بواقعها المحلي والدولي اللذين غابت عنهما خلال العقدين الاخيرين، أو الارتداد الى ركام التجارب المقهورة في التاريخ. فإذا ما اخذنا بالرأي الجاد فإن جذور الازمة الحالية في ايران تعود الى الهيمنة المطلقة لرجال الدين على السلطة بمختلف أوجهها وعلاقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بموجب دستور الجمهورية الاسلامية الذي ركّز في أيديهم السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ويأتي على رأس هرمها منصب ولاية الفقيه ذو الصلاحيات شبه المطلقة في توجهها. هذا النموذج للحكم الذي جاء به آية الله الخميني لم يكن يوماً محط اجماع عند الفقهاء والاصوليين الشيعة كما أنه رفض من جانب العلمانيين الذين وجدوا فيه تناقضاً بين النظام الذي يقيمه باعتباره "جمهورية" بكل ما يحمله المصطلح من معاني المشاركة في الحكم والقرار وبين السيطرة المطلقة التي يتيحها لولاة الامر في الادارة. وعلى مر السنوات العشرين الماضية التي تم فيها اختبار هذا النمط من نظام الحكم في ايران، لم ينقطع النقاش بجانبيه الفقهي والسياسي حول مبدأ ولاية الفقيه فتناول شرعيته وأسسه ومقاصده الفقهية ومبرراته وجدواه السياسية وامتد الى ملاءمته المعاصرة. ولا مفر من الاستنتاج أن محصلة هذا النقاش الذي خرج الآن من أروقة الحوزة العلمية في قم ومن المساجد وبعض الحلقات الضيقة وصفحات الكراسات شبه السرية الى الشوارع وساحات الصراع، ولّد الحاجة الى مراجعة شاملة لنظرية ولاية الفقيه باعتبارها حجر الاساس في النظام السياسي الايراني المتصارع عليه. مناخ النقاش هذا الذي اجّجته رياح التغيير بمجيء خاتمي كشف عمق الازمة الوطنية في ايران، التي اتضح الآن انها تمثل ذروة الاستعصاء الذي بلغه نظام الجمهورية الاسلامية منذ نشوئه. ففي المشهد الايراني اليوم تقف تيارات شديدة التباين بأفكارها وولاءاتها ومصالحها وتحالفاتها. فمن جانب، هناك أهل الحكم انفسهم من رجال الدين ومسانديهم الذين ينقسمون الى اطياف منهم من يتشبث بمفهوم ولاية الفقيه وبآليات السلطة السياسية التي انشأها، بل يتطرف أحياناً إلى الدعوة إلى إلغاء الجمهورية واعلان الامارة المطلقة للفقيه. ومنهم من يحاول ان يجدد في المفهوم وينزع عنه الوجه التسلطي ويعيده الى جذوره النقية الاولى حيث هي الحاكمية الاسلامية التي انتدبت نفسها. في غيبة الامام، لكي تقضي على الاستبداد وتقيم العدل بين الناس وترد المظالم عنهم. وفي الجانب الآخر هناك من يرفض بمستويات مختلفة الوضع القائم برمته ولا يرى فيه الا استبداداً مبرقعا بالدين ويحاول ان يجد وسيلته في التعبير عن تطلعاته في مشروع مدني لدولة مواطنين ويدعو الى إنهاء حالة التغريب واستعادة ايران موطئ قدمها في التجربة الانسانية المعاصرة لبناء الدولة والمجتمع والعلاقات الدولية. هذا هو ما يبدو عليه ميدان الصراع الايراني وقواه الاساسية وغاياته والذي اججته الازمة الاخيرة وفتحت مشهده على احتمالاته المختلفة. وفي العودة إلى سؤالنا عن مستقبل مشروع خاتمي والرهانات عليه فإن المؤكد الآن، وهو ما اثبتته الأزمة الأخيرة، أنه يوفر افضل ضمانة لإيران لكي تفلت من مستقبل شديد القتامة تنحصر فيه الخيارات، إذا ما هزم، بين الانقلاب العسكري - الأمني المدعوم من قوى اليمين المحافظ وبين بركان ثوري شعبي دموي كانت الاحتجاجات الطالبية الاخيرة مجرد تمرين عليه. وفي احسن الاحوال، وهناك خيار استمرار النظام بكل استعصاءاته السياسية واختناقاته الاقتصادية واحباطاته الاجتماعية وتغريبته الثقافية وأيضاً عزلته الدولية. ويتضح مما آلت اليه نتائج "ثورة الطلبة" أن هناك توافقا بين مختلف القوى، وبينها المرشد آية الله علي خامنئي نفسه، على المضي باتباع قواعد اللعبة التي ترسخت منذ انتخاب خاتمي حتى نهايتها، وهي ضرورة ان يأخذ الصراع مداه سلمياً من دون حاجة الى تدخل جراحي لايقافه أو تغيير مساره بشكل قسري. ومهما كانت دوافع ذلك، فهذا في حد ذاته يعتبر انتصاراً لخاتمي ومشروعه الداعي الى ترسيخ دولة القانون والحريات وحقوق الانسان والتعددية التي اعاد الرئيس الايراني تأكيدها والاصرار على تطبيقها بعد الأزمة. ومع ذلك فإن هذا وحده لن يكون كافياً، فالمطلوب الآن هو المضي في هذا المشروع والعمل على تعميقه وتسريعه ودعوة الجماهير للانخراط الفاعل فيه. ان اعداء خاتمي سيدركون عاجلاً ان أمام إيران خياراً واحداً وهو دعمه أو بالاقل عدم الصدام معه اذ ان الحاق الهزيمة بمشروعه يعني سقوط نظرية ولاية الفقيه ذاتها لأن دعاتها ينكشفون حينها كمغتصبين لحق الناس بينما لن يكون هناك غطاء دستوري مقيد يتيح لهم الحكم باسم الامام الغائب مما يحرمهم من عنصري النظرية التي تقوم عليها الولاية. * كاتب عراقي.