لم تكد تمضي أسابيع على احياء سعيد عقل "جائزته" حتى فقدت بريقها وغدت أقرب الى الموعد الأسبوعي الذي يطل فيه الشاعر أمام الكاميرات مانحاً الفائز مبلغ المليون ليرة. والفائز المزعوم هذا يتولّى سعيد عقل نفسه مهمّة اختياره من خلال متابعته؟ ما يُكتب هنا وهناك بحثاً عن الكلمة - الملكة أو الجملة - الأميرة... ولم يُفسح الشاعر الفرصة أمام أحد كي يرشح نفسه للجائزة فهو الذي يختار وهو الذي يقرأ ويحكم حتى وان فاته ما فاته من مقالات أو نصوص. تُرى هل يستطيع سعيد عقل ابن الثمانين أن يلمّ حقاً بما يُكتب وما يُثار من قضايا وهموم؟ إلا أن جائزة سعيد عقل هي جائزة سعيد عقل الشاعر و"المؤرّخ" على طريقته و"العالِم" على طريقته، وكذلك "الفيلسوف"... جائزة تغلب عليها ذائقة شاعر "قدموس" وأوهامه - كي لا أقول خرافاته - وكذلك مزاجه وربما حماسته ووطنيته وفينيقيته ونزعته "الشوفينية" التي تظهر حيناً تلو حين. انها في معنى ما جائزة شخصية أو جائزة شخص هو ضمير "الجماعة" وضمير "الأمّة". هكذا يظن سعيد عقل نفسه، بل هكذا ظن نفسه دوماً: شاعر لبنان، شاعر فينيقيا الجديدة، فينيقيا التي راح يحييها من رماد التاريخ مختصراً إياها في معالمها اللبنانية فقط. لم تستطع جائزة سعيد عقل إذاً أن تصبح حدثاً أدبياً أو ثقافياً ينتظره اللبنانيون أسبوعياً فهي سرعان ما فقدت موضوعيّتها وصفتها الإبداعية. بل إنّها أضحت في نظر البعض مدعاة للسخرية ليس من الفائزين بها بل من اصرار سعيد عقل على الظهور وعلى اعتلاء المنابر واطلاق الشعارات الباهتة التي لم يعد أحد يصدّقها ولا سيّما الشعارات الوطنية والتاريخية الخرافية وشبه الخرافية... ولعل اصرار سعيد عقل على أداء شخصية "الداعية" اللبناني - الفينيقي دفعه الى اختلاق بعض الأساطير اللبنانية والى "تزوير" بعض الوقائع التاريخية و"اختراع" أسماء عظيمة صنعت - بحسب ظنه - مجد البشريّة جمعاء وليس مجد لبنان فقط. أما الجائزة الأسبوعية فلم تستطع أن تنجو من "لوثة" الثقافة الخرافية التي رسّخها سعيد عقل وأساء عبرها - من غير قصد طبعاً - الى حقيقة لبنان والى رسالته الحضارية الحقيقية. بل غدت الجائزة "تتويجاً" للخرافة وربّما للبنان الخرافي الذي يحلم به سعيد عقل وربّما يراه رؤية اليقين. وقد فات شاعر "رندلى" أنّ عبقريته لم تتجلّ إلا في اللغة العربية وفي شعريته الباهرة المتجذّرة في أديم الشعر العربي القديم. وليست دعوته الى اعتماد اللغة اللبنانية والحرف اللاتيني والى اعتناق النزعة الفينيقية إلا من قبيل التعصّب الأعمى والشوفينية الضيّقة. وسعيد عقل - شاء أم أبى - يمثل ذروة من ذرى الشعر العربي الخالص وعبر صنيعه الجمالي بلغت المدرسة الكلاسيكية العربية الحديثة شأواً لم تبلغه في السابق. تُرى هل سيجرؤ أحد من الفائزين الذين يختارهم سعيد عقل أسبوعياً على رفض الجائزة؟ يصعب تكهّن أمر كهذا. فشاعر "لبنان" يعرف مَن يختار وكيف يختار الفائزين. وكان من الممكن أن يرفض الجائزة فائز من مثل علي حرب المفكر الطليعي وصاحب المشروع الفكري القائم على الحوار وعلى الاعتراف بالآخر... لكنّ رعاية جريدة "السفير" للجائزة ولو من بعيد خفّف من وطأة خرافتها اللبنانية ومن حمية صاحبها وحماسته. وقد أضحى هو من كتّاب الجريدة الرئيسيين ولم يشعر بأيّ حرج أن يكتب في صحيفة ما زالت تصرّ على شعارات جمال عبدالناصر وتنشرها يومياً كأقوال خالدة. ولئن حملت جائزة سعيد عقل في "الماضي" وأقصد في مرحلة ما قبل الحرب طابع الحدث الأدبي أو شبه الحدث فهي الآن باتت حدثاً شخصياً، حدث سعيد عقل الذي لم يملّ المنابر والأعلام على الرغم من أعوامه السبعة والثمانين. وان تمكّنت الجائزة في السابق من اثارة بعض المواقف الرافضة ومن إذكاء سجال ما، سياسي أو أدبي، فهي غدت اليوم عادية جداً وباهتة ولولا اطلالة سعيد عقل والفائزين في الصحف لما انتبه لها أحد. أمّا في العام 1975 مثلاً فأثار منح الجائزة للشاعر أنسي الحاج حفيظة بعض الشعراء الفلسطينيين والعرب. حينذاك كتب الشاعر الفلسطيني الراحل معين بسيسو مخاطباً أنسي الحاج: يا شاعر الحب أرفض جائزة البغض! كان ذلك في الماضي غير البعيد! أمّا اليوم فأنّ شاعر "لبنان" يطلّ على قراء "السفير" مرّتين أو ثلاثاً في الأسبوع. ولا أحد يدري ان كان قراء "السفير" يتابعونه أو ينتظرونه حقاً مثلما كان ينتظره قراؤه في "لسان الحال" سابقاً. و"الكلمة" التي كان يقبض سعيد عقل ثمنها بالليرة اللبنانية أصبح ثمنها من "السفير" دولاراً. وكلّما زاد سعيد عقل من كلماته - أياً كان حجمها - ازدادت "دولاراته"!