بدا الشاعر سعيد عقل في الصورة التي التقطت له خلال احتفاء البطريركية المارونية به، كما لم يبدُ مرّة. كان يجلس على كرسي المقعدين، رأسه محنيّ الى الأمام وعيناه تكادان لا تبصران ما يجري امامه. هذا التكريم أقيم احتفاء ب «الابن البار» الذي بلغ العام المئة، وشاركت في إحيائه احدى الجامعات المسيحية في لبنان، وليس الجامعة اللبنانية التي توصف عادة ب «الوطنية». أعادت البطريركية المارونية شاعر «قدموس» الى مسقطه الطائفي الذي ما كان ليغادره أصلاً، ولو بالروح. ولعله كان سعيداً بهذه العودة، أو «الاعادة» في ختام عمره المديد، وإن لم يتسنّ له أن يطل مرفوع الجبين، عالي النبرة، كما دأب على أن يطل. أحنت الشيخوخة رأس سعيد عقل الذي لم ُيحنِ رأسه إلا أمام خالقه، هو الذي لم «يزعّله» يوماً، مثلما قال مراراً، وكان جراء هذه الطمأنينة يغفو بسرعة كلما وضع رأسه على المخدة. لم يكن هذا الاحتفال مستهجناً، فشاعر «رندلى»، على خلاف جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني، لم يكن على خلاف مع طائفته المارونية ولا مع مسيحيته المستقيمة. ولم تتواجه نزعته اللبنانية «الخرافية» مع انتمائه الماروني يوماً، بل هي حافظت على هذا الانتماء لتتجلى أكثر فأكثر، في حال من الانعزال والانكفاء على الذات والماضي. ولعل مسيحية سعيد عقل المترفعة عن العالم وشجونه جعلت منه شاعر الفرح، شاعر الهناءة، شاعراً يعادي اليأس والقنوط ويهجو الشر والضعف والانهزام. وهذا الايمان القوي والمتعالي، جعله يسمح لنفسه بأن يدعو كل لبناني الى قتل فلسطيني غداة اندلاع الحرب الاهلية عام 1975. أصاب الشاعر أنسي الحاج عندما كتب عشية الاحتفال بمئوية سعيد عقل مارونياً، قائلاً: «أكبر شاعر عربي تحتفل به طائفته، لا قراء العربية». الطائفة المارونية اذاً هي التي احتفت بشاعرها، وليس اتحاد الكتاب اللبنانيين - على سبيل المثل - ولا الجامعة اللبنانية ولا وزارة الثقافة ولا... ليس كل اللبنانيين يحبون سعيد عقل. الكثيرون منهم يكرهونه، شخصاً على الاقل، لا شاعراً. هؤلاء يحبون سعيد عقل شاعر العربية، شاعر الفصاحة والبيان، الشاعر الذي كاد يكون عباسياً صرفاً في قصائد المناسبات والمدن (دمشق والقدس ومكة...)، الشاعر الذي تضج قصائد كثيرة له بالسيوف، سيوف الفتح والسؤدد... لكن محبي سعيد عقل، هم أقل قرائه. انهم مأخوذون بشخصه و «فكره» السياسي ومواقفه الدونكيشوتية، وغلوائه القومية التي جعلته يتوهم الخرافة اللبنانية ويدعو الى لبننة العالم في تمام الثقة واليقين. كان سعيد عقل ولا يزال الشاعر الاقل مبيعاً في لبنان والعالم العربي. وبضعة من دواوينه لا تزال على رفوف المكتبات منذ عقود. وحتى الآن لم تُجمع أعماله الكاملة في طبعة محترمة تليق به شاعراً عربياً كبيراً نجح في إحياء اللغة وتنقيتها وبلورتها. ولولا تعصبه القومي وشوفينيته اللبنانية لغزا شعره العالم العربي. فهو من سلالة العصر العباسي، مع ميل الى لطافة الشعر الاندلسي وانفتاح على النهضة التي كان من رواد منقلبها الثاني الممهدين لعصر الحداثة. وإن كان سعيد عقل صاحب «مدرسة» فريدة في الشعر العربي الكلاسيكي الجديد، فإنّ هذه المدرسة دخلت «متحف» الشعر من بابه الواسع. دفع سعيد عقل ثمن تعصبه «اللبنانوي» وتعنته السياسي وحقده غير المبرر على العرب، وكان هذا الثمن باهظاً له ولشعره. وقد غاب عن باله أن شعره العربي الفصيح هو الذي صنع مجده، لا شعره العامي ولا أفكاره التوهيمية ولا ادعاءاته التي لا حد لها. عاد سعيد عقل الى طائفته. هل خرج سعيد عقل يوماً من طائفته وعنها حتى يعود اليها؟ ليت الاحتفال الذي اقامته بكركي كان بعيداً من أضواء الإعلام، فالصورة التي أطل بها شاعر لبنان (أو ما تبقى منه)، مقعداً ومحني الرأس، لا تليق بهذا الشاعر فعلاً، هذا الشاعر الذي أراد أن يكون دونكيشوت لبنان في زمن يفتقد «طواحين» الهواء.