لا أعتقد أن كاتباً هجا الجوائز الأدبية مثلما فعل الكاتب النمسوي الكبير توماس برنهارد (1931 - 1989). حتى جان بول سارتر الذي رفض جائزة نوبل عام 1964 لم يبلغ في نقده فكرة الجوائز، شأو هذا الكاتب الساخر حتى من نفسه. لكنّ سارتر ما لبث أن طالب الأكاديمية السويدية بعد فترة ب «المبلغ» المالي دون اللقب، فرفضت الأكاديمية. توماس برنهارد لم يخفِ يوماً ان ما دفعه الى قبول الجوائز هو قيمتها المادية. وفي كتابه البديع الذي صدر بعد وفاته وعنوانه «جوائزي الأدبية» يسرد حكايته الغريبة مع الجوائز التي حصل عليها رغماً عنه، متهكماً من نفسه أولاً ثم من الجوائز. الكتاب الصغير هذا الذي صدر للمرة الأولى العام الماضي في المانيا وهذا العام في ترجمته الفرنسية، قد لا يجرؤ أحد على كتابة ما يماثله بسخريته المرة وعبثيته، حتى ان القارئ قد يسأل نفسه: لماذا قبل برنهارد تلك الجوائز ما دام يحتقرها الى هذا الحدّ؟ لكنّ الكاتب يجيب على هذا السؤال الذي طرحه هو أيضاً على نفسه، قائلاً انه غالباً ما كان عاجزاً عن أن يقول: لا ويضيف: «كل هذا كان مقززاً لكنني كنت أنا أكثر مَن يتقزز من نفسه». ويعترف علانية: «كنت أكره أولئك الذين يمنحون الجوائز لكنني كنت أحصل على مالهم». تُرى هل سعى توماس برنهارد الى تبرئة نفسه من هذا «الإثم» بعدما أيقن في أعوامه الأخيرة، أنه أساء الى نفسه في قبول الجوائز؟ ولعله لم ينسَ أصدقاءه الكتّاب الذين نفاهم النظام مثل هيرمان بروك والياس كانتي أو الذين دفع بهم النظام الى الفقر المدقع والجوع مثل روبرت موزيل؟ كتب برنهارد نصوص هذا الكتاب الساخر عام 1980، وشاءه ربما أشبه ب «الوصية» التي لم تخل من النقد القاسي الموجّه الى «الروحية» النمسوية الرسمية التي ظلت سائدة حتى أيامه الأخيرة. كان يشعر برنهارد انه كلما فاز بجائزة ازداد كراهية لنفسه، فالجائزة في نظره تنتقص من قيمة الفائز بها، لا سيما إذا كانت رسمية. ويعرب عن الألم الذي كان يساوره لحظة تلقيها، «الألم القائم على تخوم الذل» كما يعبّر، واصفاً الجائزة ب «المسخرة» أو «حفلة النفاق» التي كان هو «المستفيد منها وضحيتها في آن». أما ذروة السخرية فتتجلى في قوله: «الحصول على جائزة لا يعني إلا أن يتغوّط الفائز على نفسه لأنه نال أجراً لذلك». لا أعتقد أن كاتباً عربياً يجرؤ على وضع كتاب يماثل هذا الكتاب وعلى اعلان مثل هذا الموقف الصادم والساخر والحادّ في سخريته. ولئن حاول برنهارد في كتابه هذا أن يبرّر حصوله على الجوائز «المهينة» تلك، متذرّعاً برفضه أن يُتهم ب «الادعاء» والكبرياء أو العظمة، فهو لم يرحم نفسه ولم يوفّرها من التهم. هذا ما قد يضمره بعض الكتّاب العرب الذين فازوا بجوائز يعلمون تماماً أنها أساءت اليهم والى صدقيتهم الأدبية. وقد يظن هؤلاء أنهم على حقّ ما داموا يحتاجون الى «مال» الجائزة أكثر من احتياجهم الى قيمتها المعنوية. المال أولاً واللقب ثانياً أو «الدرع» والوسام. وقد يسأل هؤلاء: لماذا نرفض جائزة تكافئنا مادياً وتتوج مسارنا الطويل الحافل بالجهد والفقر؟ وهؤلاء لا يهمهم مصدر الجائزة ولا من يمنحها ولا كيف تمنح. ولا يهمهم أيضاً أن يكون مانحو الجائزة هم الذين يكافئون أنفسهم عبر أسماء الآخرين. أذكر كيف أعلن الروائي المصري صنع الله ابراهيم بجرأة رفضه أمام الجمهور جائزة الرواية التي منحته اياه وزارة الثقافة المصرية عام 2003. كان هذا الرفض شبه «الدونكيشوتي» حدثاً سياسياً أكثر مما كان أدبياً. وكان بمثابة صفعة للوزارة ومَن تمثل. لكن بعضهم سأل صنع الله ابراهيم عن قبوله جائزة خليجية سابقاً ورفضه جائزة مصرية. وليس المهم كيف أجاب صاحب «اللجنة» ولا إن كان أقنع سائليه. المهم أنه سجل مبادرة نادراً ونادراً جداً ما تحصل. مَن يرفض اليوم جائزة أياً كانت قيمتها المالية؟ ألا يعاني الكتّاب العرب اليوم أزمات مادية خانقة تدفعهم قسراً الى البحث عن مصدر «رزق»؟ هل من كاتب يستطيع القول انه يحيا من قلمه؟ حتى نزار قباني لم يكن يتغاضى عن أي جائزة تمنح له. وكذلك أحلام مستغانمي التي تعدّ الروائية الأكثر مبيعاً، تبحث عن أي جائزة تضاف الى رصيدها. لكنّ هناك جوائز تتخطى قيمتُها «المعنوية» قيمتَها المادية، والفائزون بها لا يهمهم إلا بُعدها «المعنوي» مهما احتدم الخلاف على مرجعها. عندما حاز الشاعر محمود درويش جائزة الرئاسة التونسية لم يسلم من نقد الأصدقاء وليس الخصوم وحدهم. وكان ردّه سياسياً بامتياز. فالجائزة كما أفاد حينذاك، لم تكن له بل للرمز الذي يمثله. وهناك جوائز تفوق قيمتُها «المادية» قيمتها «المعنوية». عندما فاز جابر عصفور بجائزة القذافي أعلنت عليه حرب شعواء. ولام الكثيرون أدونيس، الاسم الكبير، عندما وافق على قبول جائزة من ثري خليجي. المال يغري لا سيما إذا جاء في وقته أو في عزّ الحاجة اليه. والكتّاب هم فقراء في الغالب، بخاصة إذا كانوا مقتلعين أو منبوذين ولا أحد وراءهم، لا حزب ولا طائفة ولا قبيلة. حصل سعدي يوسف على جائزة العويس ولبس في حفلة التسليم وشاح الإمارات، وبعد بضعة أعوام هاجم الإمارات بعنف. ولعلّه حذا بهذا السلوك حذو توماس برنهارد لكنه لم يُعد المال الى أصحابه عندما سحبوا منه الجائزة. أما يحيّرني فهو إصرار الشاعر أنسي الحاج على رفض الجوائز. ومرّة عاهدته جهة تريد منحه جائزتها، أن يوافق على ترشيحه لها فقط، فرفض. أنسي الحاج ما زال «يعيش» من الصحافة، ومع ذلك لا تعنيه الجوائز. ومرّة وافق على قبول جائزة سعيد عقل في أواسط السبعينات وكانت جائزة «معنوية» لا قيمة مادية لها، فطالبه شعراء فلسطينيون برفضها، وقام سجال بينه وبينهم حولها، فالجائزة كانت شعرية صرفاً وسعيد عقل شاعر كبير على خلاف شخصه السياسيّ. لا ينتهي الكلام عن الجوائز، فهو كلام شائق ولا يخلو من الحماسة و «الإثارة». والموسم الراهن هو موسم الجوائز في الغرب كما في العالم العربي. والشهر المقبل تعود جائزة «نوبل» الى الواجهة، وكعادتنا كل عام سنسأل: هل يفوز أدونيس بها هذه السنة؟ والأمل كلّ الأمل أن يفوز بها شاعر «مهيار» فينفرج ويفرج أصدقاءه.