تدل مراجعة متأنية للازمات السياسية والعسكرية التي عصفت بالمنطقة، وخصوصاً منذ بدء مفاوضات التسوية، على ان اسرائيل تصرّ على ان يتعامل العرب معها على انها قوة عظمى، وعلى ان تتعامل هي مع العرب بناء على هشاشة ومزاجية وتوازنات وضعها الداخلي، تماماً كما تتعامل الولاياتالمتحدة الاميركية مع العالم. ولكن ازمة المفاوضات وما تتخللها من انفلات اسرائيلي تجاه العنف والارهاب، تؤكد مرة اخرى ان الصراع العربي - الاسرائيلي لا يمكن حلّه اذا ما استمرت اسرائيل بالتصرف كأميركا ثانية في المنطقة، وان اسرائيل نفسها لن تتحمل طويلاً لعب دور واشنطن في محيطها العربي. وكان العرب والفلسطينيون اكدوا في اكثر من مناسبة ان القضية الفلسطينية هي القضية المركزية في الصراع، في حين اعتبرت سورية اخيراً ان انسحاباً اسرائيلياً كاملاً من الجولان وجنوب لبنان سيؤدي الى سلام وتنافس شريف في المنطقة. ولكن المصريين، وبعد اكثر من عشرين عاماً على اتفاق السلام مع اسرائيل، بدأوا يعون ان السلام لا يمكن تحقيقه من دون ان تتحول اسرائيل دولة "عادية" في المنطقة، على حد ما جاء على لسان وزير الخارجية عمرو موسى. وعملياً، فانه لا حل للصراع من دون حل "المشكلة الاسرائيلية" في المنطقة والتي تنعكس من خلال تقمص اسرائيل دور اميركا في المنطقة. والغارات الاسرائيلية على لبنان هذا الاسبوع في ظل الجمود في "العملية السلمية" وعلى خلفية التوتر السياسي داخل اسرائيل، تذكّر بأن السلام والاستقرار لن يسودا المنطقة اذا استمرت اسرائيل في التعامل مع جيرانها على اساس انها قارة - جزيرة نائية عن العالم تستطيع ان تفعل ما تشاء وتقول ما تشاء ومن دون ان تتحمل تبعات تصرفاتها. فكيف تطالب بتطبيع العلاقات مع الشعب اللبناني وهي ترهبه يومياً، وتطالب بوقف "الارهاب" ضدها في حين ان ممارساتها الارهابية باتت لا تحصى، وتطالب بنزع سلاح الآخرين في حين تطور اسلحتها النووية وصواريخها المضادة للصواريخ، وتضرب المرافق المدنية وتهدد بأنها "ستحرق ارض" الذين سيردون على ارهابها، كما صرّح الوزير الاسرائيلي ديفيد ليفي؟ من ناحيتها تستطيع الامبراطورية الاميركية في عالم القطب الواحد، على الاقل بعد انتهاء الحرب الباردة، ان تضرب هنا وهناك وان تتراجع عن اتفاقية الحد من انتشار الاسلحة النووية، وان تضع لنفسها لائحة بأسماء الدول "الارهابية"، فهي قوة عظمى اقتصادية وعسكرية تحيط بها المحيطات وتحمل حق الفيتو في مجلس الامن. اما اسرائيل، التي لا بد ان تعيش عاجلاً ام آجلاً في منطقة عربية، وتحديداً في وطن ما زال الملايين من سكانه الاصليين يعيشون فيه ومن حوله، فلا تستطيع التصرف طويلاً كما لو كانت وحدها او مفترضة ان العرب تابعون لها. كانت اسرائيل قد اقنعت بعض العرب، واكثر الغرب، بأن افضل وسيلة للحصول على تنازلات سياسية منها يجب ان تنطلق من فهم توازناتها الداخلية والتمييز بين قواها السياسية المتصارعة والمتنافسة ودعم الجناح المعتدل فيها عن طريق تطبيع العلاقات واطلاق التصريحات المعسولة والمطمئنة للرأي العام الاسرائيلي، على نحو يسمح بدوره للمؤسسة الحاكمة ان تقدم التنازلات المطلوبة. وكان أحد المعلّقين قد دعا العرب الى دعم احدى شخصيتي رابين المنفصم الشخصية، مقابل شخصيته المتطرفة، وهو ما حدا ببعض المشككين في طبيعة الدوافع الانسانية الى الادعاء بأن الغارات على لبنان ستساعد على التقدم في "عملية السلام"، لأنها ستشبع دموية الاسرائيليين وتعوض عن الصور التي شاهدوها على شاشات التلفزيون. ولكن الذي برهنه حزب الله مناقض لذلك تماماً، بمعنى ان هزيمة اسرائيل في لبنان هي التي اجبرت اسرائيل على السعي الى اتفاق يضمن انسحابات كاملة من الاراضي العربية. والرأي العام الاسرائيلي مقتنع بضرورة الانسحاب والتوصل الى سلام مع سورية ولبنان. كما اشارت استطلاعات الرأي العام قبل الأزمة الاخيرة، نتيجة لنجاح المقاومة اللبنانية. ان اقتصاد اسرائيل وقوتها العسكرية وموقعها الجغرافي لا يمكن مقارنتها بقوة اميركا الاقتصادية والعسكرية وموقعها ومكانتها في العالم، ولذلك لا بد لها في اسوأ الاحوال، ان تتصرف بحجم عمالتها لحليفتها لا ان تتمثل بتصرفاتها، اذا ما رغبت بالتوصل الى اتفاقات سلام مع جيرانها، لأنها، بعكس اميركا، مضطرة للعيش مع العرب ضمن نظام اقليمي جديد. اما العرب، وقد نالوا ما نالوه من الهيمنة الاميركية، فلن يتحملوا اميركا ثانية بينهم، وهذا هو سر تتابع الأزمات في ظل مفاوضات السلام.