كثيرةٌ هي الأسئلة المطروحة الآن عن إمكان عقد قمة عربية في لحظة ينعدم فيها اليقين بشأن مستقبل أمتنا على وجه الإجمال، وليس فقط بخصوص مصير تلك الآلية التي سدّت فراغاً كبيراً في العمل العربي المشترك. وهذا فراغ لم ينتبه اليه مؤسسو جامعة الدول العربية لأنها اقيمت في الاربعينات قبل أن يتحول معظم الدول العربية الرئيسية صوب نظم حكم فردية. وفي مثل هذه النظم، يندر أن يكون القرار قابلاً للتنفيذ ما لم يصدر عن قمة هرم السلطة. ومن هنا الأهمية القصوى التي أكسبتها مؤتمرات القمة العربية، إلى الحد الذي دفع البعض إلى إطلاق تعبير "مؤسسة القمة" عليها، وشاع هذا التعبير في الاستخدام بدلاً من تعبير "آلية القمة" الذي يعتبر أكثر دقة. فليس هناك إطار تنظيمي أو مؤسسي محدد للقمة العربية لأنها لم تدمج في ميثاق الجامعة الذي تعثرت محاولات عدة لتعديله. كما لم تنجح حتى جهود بذلت غير مرة للتفاهم على عقدها بشكل منتظم أسوة بمنظمات اقليمية أخرى أقربها إليها منظمة الوحدة الافريقية. وكان آخر هذه الجهود وأكثرها إثماراً قبل شهور قليلة على أزمة الغزو العراقي للكويت في العام 1990، فقد حدث تفاهم أولي خلال قمة بغداد التي عقدت في ايار مايو من العام نفسه على أن تكون القمة سنوية. ولكن جاءت الأزمة التي لم يقتصر تأثيرها المدمر على تقويض ذلك التفاهم، وإنما امتد إلى خلق انقسام أكثر حدة مما حدث في الستينات وأطلق عليه في حينه "الحرب الباردة العربية". غير أن الدور التوحيدي أو على الأقل التجميعي للصراع العربي - الإسرائيلي لعب دوراً فائق الأهمية في العلاقات العربية حينئذ قبل أربعة عقود. فقط حظي بمكانة عليا وضعته فوق الخلافات والنزاعات البيئية مهما احتدمت. ولذلك لم يكن مثيراً للاستغراب أن تكون بداية اجتماعات القمة في ذروة الاستقطاب الثوري - المحافظ وما اقترن به من صراعات. ولكن عندما انفجرت أزمة الغزو العراقي للكويت وخلقت استقطاباً حولها، كان الصراع العربي - الإسرائيلي دخل مرحلة التسوية السلمية وأخذ يفقد المكانة العظمى التي كانت له. وهذا فضلاً عن أن أزمة 90 - 1991 كانت أكثر حدة من أزمات الستينات لأنها انطوت على ابتلاع دولة عربية رغم أن الاستقطاب الذي خلفته كان أقل حدة وتصلباً مقارنة بانقسام الستينات. وعندما عقدت قمة آب أغسطس 1990 الطارئة عقب الغزو، بدا لبعض العرب - وربما لكثير منهم - أنه سيكون صعباً عقد اجتماعات قمة أخرى قبل أن تلتئم جراح أزمة الخليج الثانية، خصوصاً أن الصراع العربي - الإسرائيلي لم يعد مثلما كان عليه من قبل. وصارت عملية تسويته مصدراً للتباعد والفرقة لا عاملاً للتقارب والتجميع. غير أن هذا الاعتقاد تحداه النجاح في عقد قمة طارئة في القاهرة في حزيران يونيو 1996 بفعل تطور ذي صلة بعملية التسوية، وهو نتائج الانتخابات الإسرائيلية في ايار مايو 1996 التي رفعت اليمين بزعامة بنيامين نتانياهو الى السلطة. ويبدو أن عقد تلك القمة أعاد إلى بعض العرب التفاؤل بأن يبقى الصراع العربي - الإسرائيلي بمثابة رافعة أساسية للعمل المشترك على أعلى مستوى له، حتى في زمن تسوية هذا الصراع، وهذا التفاؤل هو الذي أخذ ينحسر في الفترة التالية لأنه لم يؤسس على اعتبارات موضوعية بمقدار ما كان تعبيراً عن آمال أو أمنيات. ففي زمن التسوية، لم يعد الصراع ضد إسرائيل هو نفسه الذي أتاح القفز فوق انقسام عربي حاد والاستجابة إلى دعوة مصر لعقد قمة القاهرة الأولى في كانون الثاني يناير 1964 لمواجهة المشروع الإسرائيلي لتحويل مجرى نهر الأردن على رغم أنها كانت مواجهة متأخرة. ومنذ ذلك الوقت ظل الصراع العربي - الإسرائيلي هو العمود الفقري للقمم العربية. كما كان هذا الصراع عاملاً مساعداً على تجاوز كثير من الخلافات والنزاعات العربية، أو تحييدها، كلما تطلّب الأمر عقد قمة. وعندما حدث ذلك في قمة القاهرة الأخيرة حزيران يونيو 1996، بدا لكثيرين أن هذه الخبرة التاريخية لا يزال لها أثرها. فقد أدى الاستفزاز العام الذي شعر به العرب عموماً تجاه برنامج اليمين الذي وصل للحكم في إسرائيل إلى اجتماعهم في قمة كانت تبدو بعيدة المنال بعد الانقسام الذي ترتب على حرب الخليج الثانية. ولكن لم ينتبه كثيرون إلى أن غياب العراق عن قمة القاهرة الأخيرة لم يحل دون إثارة خلافات حادة داخلها في شأن الصراع العربي - الإسرائيلي، وتحديداً على عملية السلام التي انطلقت عبر مؤتمر مدريد العام 1991، فقد تم التوصل إلى البيان الختامي للقمة بصعوبة بسبب الخلافات بين الدول العربية المشاركة في عملية السلام، وبخاصة بين سورية والسلطة الفلسطينية. وكان الدرس الأهم لهذه القمة هو أن القضية التي سهّلت عقد القمم العربية لفترة طويلة ستصبح هي نفسها العائق أمام آلية القمة في المستقبل. ورغم أن هذا الدرس لم يكن واضحاً تماماً بسبب عدم الشفافية في اجتماعات القمة العربية، إلا أنه لم يكن من الصعب استخلاصه، كما ظهرت مؤشرات تدل علىه في الفترة التالية اعتباراً من بداية العام 1998 عندما تجددت جهود عقد قمة عربية. وأخذ يتضح مع الوقت أن مشكلة العراق تراجعت الى المرتبة الثانية بين العوائق التي تعطل عقد قمة جديدة. وأصبح الخلاف على عملية السلام وكيفية التعامل معها والنزاعات العربية المرتبطة بها في مرتبة العائق الأول. وليس هذا امراً مفاجئاً ولا مثيراً للدهشة، فقد ظلت الخلافات والنزاعات بين العرب المشاركين في عملية السلام تتراكم طبقة فوق أخرى، منذ أن ثبت عجز اجتماعات التنسيق الرباعية التي بدأت عقب مؤتمر مدريد بين سورية ولبنان والأردن والفلسطينيين، ثم انضمت إليها مصر اعتباراً من تموز يوليو 1992. فلم تحقق تلك الاجتماعات أي تنسيق حقيقي، ولذلك كان من الضروري أن تنهار فور التوصل إلى أوسلو العام 1993 بمعزل عن الأطراف العربية المشاركة في الاجتماعات. وأدى ذلك الى تصاعد الشكوك المتبادلة وخصوصاً بين القيادتين السورية والفلسطينية. وإنهار آخر جسر للثقة، أو محاولة لبناء هذا الجسر، بين القيادتين. وأخذت العلاقات بينهما تسير من سيء إلى أسوأ. فالقيادة السورية تنظر الى القيادة الفلسطينية كما لو كانت أداة في يد إسرائيل وأميركا، والقيادة الفلسطينية ترى أنه لو كانت سورية وجدت سبيلاً الى تسوية مع إسرائيل لسبقت الفلسطينيين وما انتظرت أحداً. ولذلك فعندما تعثرت المفاوضات على المسار الفلسطيني في عهد نتانياهو، وبذلك جهود لعقد قمة عربية، لم تتحمس لها سورية حتى لا يتم اختزال هدف القمة في دعم القيادة الفلسطينية. والآن، رغم تحريك المسار التفاوضي السوري، لا يزال من الصعب عقد القمة حتى إذا كانت هناك مصلحة حقيقية في إيجاد تنسيق بين السوريين والفلسطينيين. فالخبرة القريبة تؤكد عدم جدية هذا التنسيق وغياب الوضوح والمصارحة. والعلاقة بين القيادتين وصلت إلى مستوى من التدهور يصعب في ظله الجمع بينهما في مؤتمر واحد. وإذا أضفنا الى ذلك تعقيدات المشكلة العراقية، يجوز القول إن عقد قمة عربية ليس وارداً في المدى المنظور، وإذا طال هذا المدى ربما نكون إزاء وضع جديد قد يؤدي إلى انتهاء عصر القمة العربية. ولا منجاة من هذا المصير إلا بتفكير جديد في موضوع القمة يحررها من الارتهان لعملية السلام ويتجاوز صيغة القمة التي تناقش كل شيء. والمثقفون العرب، لا السياسيون وحدهم، مدعوون إلى هذا التفكير الجديد، سعياً إلى صيغات للتعاون يتوقف عليها مستقبلنا وموقعنا في عالم يزداد تهميشنا فيه. * رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي".