رغم ضعف القرارات التي اتخذتها قمة القاهرة الأخيرة إزاء الاعتداء الإسرائيلي على شعب فلسطين، يظل أهم ما أسفرت عنه هو تأكيد قدرة النظام الإقليمي العربي على التمسك في مواجهة أزماته. ومع ذلك لم يلق هذا الإنجاز تقديراً يذكر، حتى من الذين نظروا إلى نصف الكوب الذي ملأته القمة. فالإحياء الجديد للنظام العربي، عبر إقرار دورية انعقاد القمة، هو أهم ما في هذا الجزء من الكوب على الإطلاق. ويكفي تذكر أن هذا الإحياء لم يكن متصوراً لدى معظم العرب قبل عشر سنوات عندما انتهت قمة آب اغسطس 1990 - في القاهرة أيضاً - بانقسام كان هو الأكبر، وإن لم يكن الأخطر في تاريخ النظام العربي. وعلى مدى سنوات بعدها، غلب التشاؤم على معظم التوقعات المتعلقة بمستقبل هذا النظام. وسادت شكوك عميقة في إمكان اقالته من عثرته. ولكن ها هو النظام العربي ينهض اليوم مجدداً ويستعيد قدراً لا بأس به من العافية، وينجح في إقرار آلية الانعقاد الدوري لقمته، على نحو يمكن أن يساعد على خلق قواعد أفضل لإدارة العلاقات بين أعضائه. ولذلك يجوز النظر إلى قمة القاهرة 2000 باعتبارها نقطة تحول جديدة في مسار النظام العربي الذي شهد أربع تحولات أساسية منذ تأسيسه. وكان بعض هذه التحولات ايجابياً، من منظور التعاون والعمل العربي المشترك، كما حدث بعد حرب 1967 وفي منتصف الثمانينات. كما كان بعضها سلبياً في بداية الستينات ثم في مطلع التسعينات. فلقد ظلت تفاعلات النظام العربي تجمع بين التعاون والصراع بمعدلات طبيعية منذ انشاء جامعة الدول العربية العام 1945 وحتى أواخر الخمسينات عندما تكرس الانقسام بين ما أطلق عليه دول ثورية ودول محافظة. واقترن ذلك الانقسام بما اعتبره الكاتب الاميركي مالكولم كير "حرباً باردة عربية". ولم يكن هذا مجرد عنوان لكتاب ذاع صيته حينئذ، وإنما السمة الأهم لتفاعلات النظام العربي في أكثر مراحله انقساماً. والمفارقة هي أن هذه المرحلة شهدت بدء مؤتمرات القمة العربية في كانون الثاني يناير 1964، غير أن حدة الصراع حالت دون الانعقاد الدوري، ومنعت عقد القمة الرابعة في موعدها الذي كان مقرر العام 1966، فلم تعقد إلا بعد هزيمة 1967 التي أيقظت الدول العربية، وبخاصة تلك التي أغرتها شعبية زعمائها بممارسة ضغوط هائلة على دول أخرى، فكانت قمة الخرطوم في آب اغسطس 1967 نقطة تحول في اتجاه تغليب التعاون الذي بلغ أعلى ذروة له في حرب تشرين الأول اكتوبر 1973. وظل هذا النمط التعاوني غالباً إلى أن ذهب الرئيس الراحل أنور السادات الى القدسالمحتلة في تشرين الثاني نوفمبر 1997. فكانت هذه بداية نقطة تحول، إذ قررت غالبية الدول العربية مقاطعة مصر ونقل مقر الجامعة إلى تونس عقب توقيع معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية في آذار مارس 1979. ولأن مصر ليست دولة عادية في النظام العربي، فقد كان صعباص أن يحتفظ هذا النظام بتماسكه، خصوصاً وأن الحرب العراقية - الإيرانية خلّفت انقساماً آخر في هذا النظام، الأمر الذي أدى إلى تدهور شديد كان أبرز مظاهره العجز عن التحرك ضد أول حصار إسرائيلي لعاصمة عربية إبان الاعتداء الواسع على لبنان العام 1982. وفقط منذ 1985، بدأ النظام العربي يلملم أطرافه عبر جهود للمصالحة أسفرت عن الحد من التدهور الذي أصابه. ولكن ما أن بدأ النظام ينتقل الى حال من الانتعشا النسبي في نهاية الثمانينات، حتى نزل الغزو العراقي للكويت عليه نزول الصاعقة التي شطرته إلى قسمين تقريباً شارك إحداهما في حرب دولية للمرة الأولى ضد دولة عربية من أجل إنقاذ دولة عربية أخرى. ودلالة ذلك أن تذبذب النظام العربي بين النمطين الصراعي والتعاوني أمر معتاد في تاريخه. وهو لا يختلف في ذكل عن أي نظام اقليمي آخر لأنه بتباين معدلات التفاعلات التعاونية والصراعية من وقت إلى آخر يعتبر سمة من سمات النظم الاقليمية. غير أن النظام العربي يختلف في جانبين يضفيان عليه طابعاً خاصاً، أولهما أنه يقوم على قيم عليا وأسس معنوية أكثر مما يستند على مصالح حقيقية. فالأساس الذي يبني عليه مفهوم النظام الإقليمي هو المصالح في المقام الأول. والمصدر الرئيس الذي جاء منه هذا المفهوم هو نظرية التكامل بين الدول ومدخل التفاعل. وكل منهما يرتبط بالمصالح التي تدفع الدول إلى أن تتكامل من ناحية، وتحكم التفاعلات بينها من ناحية أخرى. ولا يخلو أي نظام إقليمي من عناصر معنوية قيمية، وخصوصاً تلك التي ترتبط بالهوية. ولكنها تأتي عادة في مرتبة تالية للعناصر المادية التي تلعب الدور الأول في تحديد مصالح الدولة العضو في نظام إقليمي ما. ولكن ما يميز النظام العربي عن غيره هو أن عناصره المعنوية تفوق في أهميتها العناصر المادية. فقد فشل هذا النظام على مدى أكثر من نصف قرن في بناء قاعدة مصالح اقتصادية مشتركة. واخفق مرات في تحقيق حد أدنى من التكامل الاقتصادي. وتكرر إحباط مشاريعه للسوق المشتركة أو منطقة التجارة الحرة. ولذلك لم يجمع أعضاء النظام العربي مصالح على الأرض بقدر ما ربطت بينهم قيم مثل الاستقلال والتحرر الوطني والانتماء العربي. وساهمت القضية الفلسطينية بأكبر دور في الحفاظ على هذه القيم العليا ظاهرة حيناً وكامنة أحياناً. ولعبت، بذلك، دوراً محورياً في الحد من أثر عوامل الهدم الناجمة عن ضعف أو حتى غياب المصالح المشتركة. أما الجانب الثاني الذي يختلف فيه النظام العربي عن غيره فهو أنه لا يعبر عن الإقليم الذي يوجد فيه كاملاً. صحيح أنه يمثل القسم الأكبر منه، ولكن تظل خارجه دولتان من أكبر دول المنطقة وأكثرها عراقة، وهما إيران وتركيا، فضلاً عنت إسرائيل التي سعت إلى اختراقه حرباً ثم سلماً. ولذلك يواجه النظام العربي، خصوصاً منذ بدء عملية السلامة، مشكلة تتعلق بإمكان نشوء ترتيبات اقليمية جديدة في المستقبل. ويرتبط حضور هذه المشكلة زيادة ونقصاً بحال النظام العربي نفسه. فكلما قلَّ تماسكه وتفاقمت صراعاته، أطلَّ شبح الشرق أوسيطة برأسه مثيراً مخاوف أو هواجس. وهذا ما حدث خلال العقد الماضي عندما تزامن إحتدام أزمة النظام العربي عقب الغزو العراقي للكويت مع انطلاق عملية السلام التي اشتملت على مسار إقليمي، واقترنت بعقد مؤتمرات للتعاون بدا في منتصف التسعينات أنها قد تضع أول إطار تنظيمي لنظام شرق أوسطي. غير أن المخاوف من مثل هذا النظام البديل انطوت على مبالغات حتى في أشد لحظات الضعف التي مرّ بها النظام العربي. ولا يعود ذلك إلى الصعوبات التي واجهت عملية السلام، وإنما إلى قدرة النظام العربي على معالجة اختلالاته قبل أن تقود إلى تصدعه. فليس ممكناً أن يحدث مثل هذا التصدع ما دام هناك قدرٌ معقول من التفاهم بين الدول الثلاث التي تمثل قلب النظام، وهي السعودية ومصر وسورية، فهذا القلب هو الذي حفظ تماسك النظام في أشد المحن، وهو الذي أدى الخلل الذي أصابه في مطلع الستينات إلى أكبر كارثة للعرب العام 1967. ويجدر التنويه إلى أن تعبير "قلب النظام" هنا يضيق عن المعنى المستخدم في دراسات النظم الاقليمية التي تمّيز بين دول القلب ودول الهامش وفق معيار كثافة ودرجة التفاعلات. وهذا المعيار يفرض ادخال دول عربية أخرى إلى قلب النظام. ولكن المعنى المستخدم هنا هو القلب الذي يتوقف عليه استمرار النظام أو تصدعه، نهوضه أو تدهوره. وبهذا المعنى نجد دولاً ثلاثاً تحدد طبيعة العلاقات بينها حيال النظام العربي، فقد بدأ التدهور الأول لهذا النظام عندما تصاعد الصراع بين مصر والسعودية بشأن موضوع اليمن، وبين مصر وسورية عقب اتفلاق الوحدة الاندماجية، فكانت تلك الفترة هي أسوأ مراحل النظام العربي على الاطلاق. وانتهى ذلك التدهور عندما تممت المصالحة بين مصر والسعودية، ثم بين سورية وكليتهما عندما أاد الرئيس حافظ الأسد الاستقرار الى بلاده وأطاح العام 1970 بالحكم الراديكالي الذي خلق توتراً شديداً في المنطقة. وأصاب التدهور النظام العربي مجدداً عندما دبَّ الخلاف بين مصر وكل من السعودية وسورية على كامب ديفيد، ثم بين السعودية وسورية على الحرب العراقية - الإىرانية في أواخر السبعينات. ولذلك فحين تردَّت أوضاع النظام العربي عقب أزمة الكويت، لم يكن التدهور شديد الخطر بخلاف ما ظنّه معظم العرب بسبب وجود تفاهم بين مصر والسعودية وسورية، ولأنه لا العراق ولا الكويت في قلب النظام. فما دام هذا القلب سليماً، يظل ممكنا تجاوز أزمات النظام العربي واستعادة حيويته. وهذا هو ما حدث حين وصلت المفاوضات الى قضية القدس وتجسَّد الخطر واضحاً وانتفض الشعب الفلسطيني. فكان أن عُقدت على الفور القمة التي ظلت مستعصية منذ نحو ثلاث سنوات. وتم اقرار آلية الانعقاد الدوري، بل واضافتها كملحق إلى ميثاق الجامعة الذي بقي الاقتراب منه محظوراً منذ أن بدأت الدعوة إلى تعديله واضافة نص يفرض عقد القمة دورياً منذ أكثر من عقدين. وليس مفهوماً كيف نغفل أهمية هذا التطور الذي ربما يجوز القول إنه يَجبُّ الخلاف المشروع على قرارات القمة الأخيرة. فالمهم أنه صار في الإمكان للمرة الأولى أن ننتظر القمة في موعد معلوم لتضيف ما قد يكون ناقصاً في سابقتها أو تُصلح ما قد يكون خطأً فيها. والأهم هو أن نتمسك بهذا الانجاز ولا نسمح بتبديده إذا شاءت دولة أو زخرى تعطيل عقد القمة في موعدها. * كاتب مصري، رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي".