بعد يومين من الغارات الاسرائيلية المدمرة على اهداف مدنية لبنانية يبرز أمران يجمع عليهما الاسرائيليون: الأول تحميل سورية المسؤولية كاملة او جزئية، والثاني الادراك ان الغارات لا تفيد شيئاً. وإذا كان لنا ان نصدق ما نسمع من اسرائيل ونقرأ، فهناك اجماع على أمر ثالث هو الانسحاب من لبنان في موعد اقصاه تموز يوليو القادم، مع العلم ان رئيس الوزراء ايهود باراك قال ان القوات الاسرائيلية قد تنسحب قبل ذلك. قبل اسابيع فقط كان رئيس الأركان الاسرائيلي شاؤول موفاز يصرح بأن الجيش الاسرائيلي حقق ما عجز عنه أي جيش نظامي قبله، وهو الانتصار في حرب ضد جيش غير نظامي. غير ان الجنرال موفاز اضطر الى بلع كلماته الأسبوع الماضي، فبعد خمسة اشهر من الهدوء جعلت الاسرائيليين يعتقدون انهم "انتصروا"، جاءت ثلاث ضربات متتالية لتردهم الى نقطة الصفر، وليعود الحديث عن انسحاب من طرف واحد، سواء عقد اتفاق سلام مع سورية او لم يعقد. وكان الاسرائيليون تحملوا قتل الرجل الثاني في جيش لبنانالجنوبي، عقل هاشم، وانقسموا في شأن ضربة انتقامية بعد مقتل ثلاثة من جنودهم، وهم لا يزالون يشيعون جنازة حليفهم. غير ان الوزراء الذين دعوا الى ضبط النفس بعد الضربة الثانية، عادوا فأيدوا الغارات الانتقامية عندما جاءت الضربة الثالثة. ولم يكف هنا ان جندياً قتل وجرح سبعة آخرون، اصابات ثلاثة منهم خطرة جداً، وإنما زاد من غليان الرأي العام الاسرائيلي انه رأى على التلفزيون للمرة الأولى مشاهد نقل المصابين الى المستشفيات، والدم في كل مكان، فاضطر رئيس الوزراء الى التخلي عن حذره السابق وتحفظه. المنطق يقول ان الرد العملي على الضربة الاخيرة من المقاومة هو الانسحاب لا غارة انتقامية، شنّ مثلها الف في السابق من دون ان تحقق أي نتيجة. والغريب في الأمر ان الصحافة الاسرائيلية، في اليومين الأخيرين، اجمعت على ان العمليات الانتقامية لا تفيد، ومع ذلك يبدو ان الاسرائيليين عاجزون عن اتخاذ قرار آخر، او القرار المنطقي الوحيد أي الانسحاب. في غرابة ذلك، ان الاسرائيليين، حكومة وصحافة، اجمعوا على تحميل سورية وإيران قبلها المسؤولية، وأرسل وزير الخارجية ديفيد ليفي عدة رسائل الى دمشق بهذا المعنى عبر وسطاء دوليين، ثم ضربوا منشآت مدنية لبنانية. بل ان قادة الجيش الاسرائيلي قالوا صراحة ان ضرب لبنان اشارة الى سورية. وهنا نعود الى تفاخر موفاز الفارغ، فاذا كان ثبت ان اسرائيل لم تربح الحرب ضد جيش غير نظامي "للمرة الأولى في تاريخ الحروب"، فقد فصلت الغارات الأخيرة بشكل لا يقبل أي جدل بين الارهابي وغير الارهابي. مقاتلو حزب الله هاجموا مواقع عسكرية في أرض محتلة، وقتلوا جنوداً، وهو عمل يشمله تفاهم نيسان لسنة 1996 الذي وقّعته اسرائيل نفسها. اما القوات الاسرائيلية فأغارت على محطات كهرباء للبنانيين المدنيين خارج منطقة القتال المشمولة بالتفاهم، فأصبح الجيش "النظامي" بذلك ارهابياً، وتحول "الارهابيون" كما تصرّ اسرائيل على تسميتهم الى اكثر الجنود نظاماً او انضباطاً. اسرائيل تتخبط، وسياستها ازاء جنوبلبنان "عربية" في توجهها، فهي مجرد رد فعل خالٍ من أي محتوى استراتيجي على المدى القريب او البعيد. وفي حين كانت الصحف الاسرائيلية يوم الأحد تنقل عن المسؤولين وتحلل من عندها كيف قرر باراك عدم الضرب، وتعطي الأسباب، عادت بعد 48 ساعة لتعطي أسباباً اخرى للضرب. وهكذا فبعد ان قررت ان باراك لن يأمر بضربة لأن الرئيس الأسد لن يقبل انذاراً، ولأنه قد يستعمل الانذار لتحميل اسرائيل مسؤولية فشل المفاوضات، عادت يوم الثلثاء لتحدّ من مسؤولية سورية فتقول ان مقاتلي حزب الله لم يضربوا كاتيوشا عبر الحدود ربما ردوا بالضرب هذه المرة، وان موقفهم هذا لا بد ان يكون تحت ضغط سوري، لذلك فسورية لم ترتكب خطأ طالما ان عمليات المقاومة داخل الشريط المحتل، وبالتالي فالضربة الاسرائيلية الاخيرة لن تؤثر في استئناف المفاوضات بين سورية واسرائيل. والواقع ان الجيش الاسرائيلي يتصرف كخاسر، فالصحف الاسرائيلية اوضحت امس ان الغارات كانت "محدودة" وان قادة الجيش ارادوا ضربة اشد وأوسع ما يعني ان مصير السلام لا يهمهم. هل ترد المقاومة على الغارات الاسرائيلية بكاتيوشا عبر الحدود، وترد اسرائيل على الرد، ونعود الى دوامة العمليات الانتقامية المتبادلة؟ وجدت دائماً ان من الأفضل ان نكتب عن الاحداث بعد وقوعها كمؤرخين، بدل استباقها كالمنجمين. وبما ان الاسرائيليين يقولون الشيء وعكسه هذه الأيام، فالتكهن بما سيأتي يصبح مغامرة مزدوجة، لذلك كل ما يمكن ان نسجل بعد انفجار الاحداث الأخيرة هو ان الاسرائيليين يصرون على انهم سينسحبون في تموز او قبله. الا اننا نسجل ذلك على ذمتهم، وهي واسعة.