مهما تكن الأسباب المسفرة عن تقاعس الأوساط الإسلامية، شيعة وسنة، في دراسة "نظريات الدولة" في "الفقه السياسي الإسلامي" تنظيراً وتقعيداً وتقنيناً فإن هناك بعضاً من النقاط المشرقة والسطور اللامعة في الوسط العلماني الاسلامي التي حاول أصحابها الخوض في هذه المعركة الفكرية الخطيرة بغية التنظير العلمي لصيغة متناغمة مع الدين ومقتضيات العصر عبر قراءة جديدة لا تختفي فيها دراسة مقارنة للنظريات المطروحة على صعيد الفكر السياسي العالمي وفي الآن نفسه من دون التفريط بفحوى النص الديني بشيء. كما هو معلوم ايضاً فإن مقوّمات الاجتهاد الفقهي الذي تختفي فيه عناصر دينامية الدين والفكر الديني وحركيته الشاملة في الحياة البشرية تختلف أسسها وقواعدها من مذهب إسلامي الى آخر على رغم وجود نقاط مشتركة تلتقي فيها الطوائف والفرق الدينية. فعلى سبيل المثال ولا الحصر يلحظ ان نظرية الغيبة والترقب لظهور المهدي لدى الشيعة والمحاولة من بعض الفقهاء السنة في الانفتاح على السلاطين والابتعاد عن الممارسة السياسية لديهم قد أثرتا من جانبهما على تهمش الفكر السياسي الإسلامي لفترات كبيرة من التأريخ الإسلامي. رغم ان بعض العلماء المنظّرين الفقهاء قد خاضوا المعركة الفكرية وجاهدوا في قراءة جديدة للنصوص الاسلامية نتيجة وعي معاصر وإيمان بتمكن الدين في توجيه الحياة وهداية المجتمع والفرد نحو الاتجاهات العامة الصحيحة وذلك كله من دون ان تتخلى الشيعة عن قناعتها بضرورة الانتظار وبلا الممارسة العملية للسياسة لدى السنة لان ما لا يجب ان يغفل عنه قبل كل شيء هو بذل الجهد كله في سبيل إخراج نظريات سياسية على ضوء القواعد الاجتهادية والأسس المشتركة في استقراء واستفهام النص الديني بغية تقليل المسافة الشاسعة في ما بين ما يدّعيه الفقهاء والمفكرون الاسلاميون من ضرورة تسرية العملية الاسلموية في كافة مجالات الحياة وبين هذا العجز الكبير السائد على هذه الساحة في مواكبة الفقه السياسي الاسلامي للفكر السياسي المعاصر وبالذات الغربي منه. فإذاً، يختلف المجال التنظيري للفكر السياسي عن الممارسة السياسية. لا مجال للشك في ان العلامة النائيني يمثّل علماً من هذه الاعلام النادرة لممارسته العملية الاجتهادية آخذاً بعين الاعتبار كل متطلبات عصره وخاصة في ظل الملابسات الكثيرة المحدقة بما دعي في ايران آنئذ بحركة الدستور أو الثورة المشروطة. كما ان ما أنتجه قد يعدّ أول محاولة مكثفة لفقيه في هذا المستوى لمستوى معالجة إشكالية نظرية الدولة والحكم الدينيين في عصر الغيبة وللعمل أهمية بالغة مردّها الى السعي لمعالجة المعاناة المعاشة والإشكالية القائمة على أرض الواقع السياسي في ايران في تلك الحقبة الزمنية، وكذلك الى الجرأة والشجاعة الهائلتين فيه الى جانب التعميق والتأصيل في اعمال الاجتهاد وصنع الفكر السياسي وذلك يتضح بشكل كامل حينما يعتبر الاستبداد الديني أشد وأقسى من الاستبداد السياسي وأصعب معالجة. ومعلوم ان مثل هذا التحرّك الفكري والتحرر الاجتهادي كم كان ممكناً ان يكلّفه في ظل تلك الظروف السياسية القاسية القائمة وكذلك الجمود والانغلاق السائدين على منهج أغلب المجتهدين في الفكر الديني السياسي. ولعلّ الركيزة الكبرى في فكر النائيني السياسي هي ضرورة تأسيس الدولة الدينية المناهضة للاستبداد بكلا قسميه الديني وغير الديني، وخاصة ان هناك حضوراً كبيراً في كتاباته لإشكالية ما ينتج عن الممارسة السياسية لرجال الدين أحياناً. وهذا القلق نجده في طيات كتابه الاساس "تنبيه الأمة وتنزيه الملّة" فعلى سبيل المثال عندما يؤكد شرعية الرقابة العامة للأمة على السلطة من خلال قوله: "إن المحاسبة والمساءلة الكاملة تتحقق وتضمن عدم إطلاق صلاحيات السلطة ومنع تحوّل الولاية الى المالكية في حالة خضوع العناصر المتصدية المتمثلة بالقوة التنفيذية لرقابة ومساءلة مجلس النواب الذي هو ايضاً بدوره يخضع للرقابة العامة ومساءلة آحاد الأمة الاسلامية". وقلّ من هو عمل على ترسيخ الفكر السياسي الديني وتحمّس في بناء الحكم الديني وفي نفس الوقت ترك مثل هذه المساحة الكبيرة لافراد الأمة وفتح لهم كل هذا المجال الواسع لممارسة الدور في العمل السياسي وخاصة في تصحيح مسار الحركة السياسية والسلطة التنفيذية وهو الذي يقول: "إن كافة افراد الشعب بقدر ما لهم من هامش المشاركة والمساواة في القدرات والحقوق بقدر ما لهم كل الحرية والقدرة على اعمال حق المؤاخذة والمساءلة والاعتراض وهؤلاء لا يخضعون لرغبات شخصية للسلطان وغيره من السلطات الحاكمة وهذا النمط من الحكم مقيّد ومحدود وعادل ومشروط ومسؤول ودستوري.. والشعب الذي ينعم بهذه النعمة هو شعب رقيب وحرّ وحي". وان قسطاً كبيراً مما كتبه النائيني هو الذي يخصصه لتأكيد ضرورة الالتفات الى ان دينية الحكم أو صدور القرار السياسي من الجهات الدينية، بدعوات إسلامية فقهية، لا تكفي للابتعاد عن شرك الاستبداد الديني الذي بدوره سيكون أقسى وطأة من الاستبداد غير الديني وأصعب حلاً وذلك لما يحظى به هذا النمط من الحكم الاستبدادي من الغطاء الديني والشرعي الذي يجعل من الصعب للشارع الاسلامي ان يتوجه بالنقد الصريح والاعتراض نحوه خوفاً من الرمي بضدية الدين ومعارضة المقدسات. كما لا يمنعه كل ذلك للاندفاع والحماس نحو الحكم الديني ومسؤوليته الكبيرة، التي نتجت عنها نظرية علمية مكثفة في الفقه السياسي الاسلامي، من ان يحذر السلطة الدينية من فرض العقائد والقيم على الناس بالاخافة والارهاب، وباسم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، مستدلاً في قوله هذا بأن الله عز وجل هو الذي أعطى الناس حرية العقيدة وضرورة التلبية الاختيارية لأحكام الشريعة. ومع ان العلامة النائيني يظهر إعجاباً بنظام الحرية والديموقراطية الوافد من الممالك الغربية ولكن المفارقات الكبيرة تجعل من الصعب ان تلتقي الحرية الاسلامية مع ما يسمى بالليبرالية والديموقراطية، من ناحية الخلفيات الفلسفية والفلسفات الوجودية لها، من جهة، وكون الشريعة الاسلامية الركيزة الكبرى للممارسة السياسية كمرجعية أولى للتشريع السياسي، من جهة ثانية. وهذا برهان على ان الميرزا النائيني، رغم صمته على هذه المفارقات الكبيرة، انفتح على ذلك الهامش الواسع من الحرية الذي حظي به الانسان الغربي دون الاعتراف بالليبرالية، أو الديموقراطية الغربية، كنظريات سياسية وطرائق للممارسة للعمل السياسي، والا ما معنى قوله: "وعلى كل فان فلسفة السلطنة الاسلامية بل في كافة الديانات والشرائع مردها الى "الأمانة" و"الولاية" و"الرعاية" لافراد الامة المشتركين في حقوقهم الاجتماعية دون الاعتراف بأي ميزة للمتصدي والمسؤول منهم على باقي الناس، ووضع حدّ لتحوّل السلطة الاسلامية والدينية الى الاستبدادية والحكم بناءً على أساس الاشتهاءات والرغبات، وهذا كله من البديهيات والضروريات الاسلامية بل الدينية عموماً..."، وهي ثابتة على ما ظهر في التحوّل عن الخلافة. وحاول عدد من الذين لا يطيقون وجود أكثر من نظرية سياسية في الفقه الاسلامي ليعملوا على مصادرة الفكر السياسي النائيني لحساب نظريات خاصة صُنعت أسسها في فترة ما بعد حياة النائيني بعقود من الزمن دون القصد منا للحط من قيمة أي نظرية قديمة أو حديثة. فتارة جاهدوا لتكييف نظريات العلامة النائيني على التي ينتمون اليها ويقتنعون بها، رغم مشقة هذا العمل الصعب لتعسّر وبل تعذّر ذلك الناتج من الافتراقات الجوهرية العالقة فيما بينهما، واخرى من خلال العمل على تأكيد ان الشيخ النائيني، على اساس "ما لا يدرك كله لا يترك كله"، نظّر للفكر السياسي بينما ما نجده في كتابه "تنبيه الامة وتنزيه الملّة" لا يشكل كل ما كان يعتقده بل هو ما كان يراه الشيخ قريباً من التحقق. بعيداً عن كل هذه الاحتمالات الصعبة والتبريرات فان الشيخ، كما يبدو من كتاباته، لم ينظّر لممارسة سياسية يحتل الفقيه العالم فيها، بالضرورة مركز العمل التنفيذي، وللشعب المسلم حريته الكاملة في تصحيح الحركة السياسية وفي الرقابة المستمرة والدقيقة على من على الحكم، وذلك من خلال نواب ووكلاء علماء بحقيقة الشريعة وواقع الحياة ينتقيهم الشعب ويسميهم "هيئة الرقابة"، وهي متكونة من شريحة من فقهاء الامة تسهر على تطبيق الدستور الاسلامي والقانون الاساسي. ولكي لا تتمخض حركة النواب والوكلاء عن استبداد برلماني، كما يسميه، فيصبح "الحامي حرامياً"، فان الرقابة العامة وحساسية الشارع من الأمة بكل طبقاتها وشرائحها ستظل القاعدة الثابتة في رأي النائيني، فيتحتم في ضوء وجهته هذه ان تمارس الامة الاسلامية عملية استنفار لكل طاقاتها كي تحيل أمر الرقابة والإشراف الى نخبة صالحة مؤمنة، الى جانب كونهم مختصين ومتمكنين في حقولهم الخاصة بهم، وخاصة من الناحية الشرعية. * رئيس تحرير "مجلة الطيبة" الإيرانية، المتخصصة في شؤون التدريس الديني.