من المؤكد ان لدى المحطات التلفزيونية، أرضية أم فضائية، من الأسباب الوجيهة - والبديهية قد يقول البعض - ما يجعلها تركز نشاطها كلها، انتاجاً وبرمجة وبثاً، على شهر رمضان المبارك. وهذا ما تفعله منذ وجودها تقريباً، وما يثبت نجاحه وفاعليته عاماً بعد عام. إذ حتى يومنا هذا، لو حاولنا أن نحصي أنجح البرامج، وأقصى مستويات ردود الفعل الجماهيرية عليها، لتبين لنا، بما لا يدع مجالاً لأدنى شك، أن الأنجح هو البرامج الرمضانية، أكانت مسلسلات أم "فوازير" أم سهرات خاصة. إلا ان الإقرار بهذا الواقع وبجدواه المعنوية والاقتصادية - بالنسبة الى المحطات التي ما قامت أصلاً إلا لكي تحقق هذه الجدوى، مادياً بالنسبة الى فضائيات ومحطات القطاع الخاص، ومعنوياً تعبوياً بالنسبة الى المحطات الرسمية - ينبغي ألا يحول بيننا وبين التساؤل عن حصة الشهود الأخرى، تلك الشهور التي تشكل أكثر من تسعين في المئة من زمن كل عام، والتي قد لا تبدو أحياناً - تلفزيونياً - أكثر من طفل يتيم دُعي الى مائدة لا تطاول يداه أطعمتها. والسؤال الذي يُطرح هنا هو التالي: ماذا عن تلك الشهور غير الرمضانية، هل يختفي فيها الجمهور باحثاً عن وسائل ترفيه أخرى غير التلفزة؟ هل يقرأ فيها مثلاً، هل يرتاد دور السينما؟ صالات المسرح؟ نوادي التسلية، أم ماذا؟ من يراقب الدينامية التي يتحرك بها القائمون على البرمجة ومنفذو البرامج، طوال الأشهر السبعة أو الثمانية السابقة على الشهر الفضيل، وكل منهم يحاول أن ينجز أكبر مقدار من البرامج لكي تعرض خلال شهر الصيام هذا، يحق له أن يدهش وأن يتساءل: ترى كيف يمكن ساعات تلي الإفطار، كل يوم ولثلاثين يوماً فقط، أن تستوعب كل هذا الكم من الساعات المصورة، خصوصاً على شكل مسلسلات. ثم حين يلاحظ خلال الشهر المبارك كيف ان مسلسلاً واحداً فقط يعرض على سبع شاشات أو أقل أو أكثر - كما هي حال بعض المسلسلات المعروفة الآن - يتساءل: أين "طار" الباقي كله؟ أين ذهبت كل تلك الساعات التي صوّرت أصلاً لتعرض خلال الشهر الأكثر نجاحاً؟ نعرف طبعاً ان خيبة كبيرة تصيب، عادة، أصحاب المسلسلات التي لا يقيِّض لها أن يتم اختيارها، وهي إذ تعرض في الشهور العادية تُعد غير ناجحة بما فيه الكفاية، وان اقبل الجمهور العريض على مشاهدتها. من هنا ينبع التساؤل عمن وضع، أساساً، هذا النوع من القواعد. ولماذا هذا التركيز الانتاجي على مدة زمنية، قد تكون مهمة وقادرة على تحقيق أعلى درجات النجاح والجماهيرية، ولكن من المؤكد انها غير قادرة على الاستيعاب الزمني لكل ما ينتج برسمها، ومن أجل جمهورها. ترى أليس في هذا كله خطأ ما؟ أوليس فيه شيء من التمديد المسبق لمعايير نجاح لا تعود ذات علاقة بنوعية العمل المنتج وبقدرته على المنافسة، انطلاقاً من امكاناته الذاتية، بل تصبح - أي تلك المعايير - مرتبطة بمزاجات محددة وسط وضعية يُعرف معها مسبقاً ان "النجاح" - أي الاقبال - خلالها مضمون لأعمال معينة، ما يجعل الحاجة الى الإبداع الحقيقي منتفبة تقريباً؟ فالتنافس هنا يكون شبه غائب، في حد ذاته، وبالتالي يصبح الانتاج نفسه متحققاً على مقاييس محددة مسبقاً، على قاعدة اعادة انتاج ما سبق أن حقق نجاحاً فرض أصلاً على الجمهور. واعادة الانتاج هذه تجعل ما يعرض هذا العام شبيهاً بما عرض العام الفائت، وشكلاً مسبقاً لما سيعرض العام التالي. وانطلاقاً من هذا لا تعود ثمة مفاجآت فنية حقيقية، ولا يعود مطلوباً من الفنانين أن يبدعوا ما هو جديد، لأن المسألة تجعل البرامج والمسلسلات أكثر شبهاً ب"قمر الدين" و"شوربة العدس" و"الفتوش" ومكسرات رمضان الأخرى، يقبل الناس عليها بحكم العادة، ولأن ليس ثمة بديل منها. ولسنا في حاجة الى أن نقول ما يمكن أن يصير ابداعٌ فنيٌ يكتفي بأن يكون نسخة من لذائذ رمضان الغذائية، لا أكثر.