لبثت فكرة الكتابة عن اللقاء بآني كنفاني مرجأة الى ان عثرت على الصورة التي تجمعهما، هي وغسان، في ما بدا لي حفلة عشاء او حفلة خطوبة. صورة بالاسود والابيض، تعود الى قبل ثلاثين عاماً او اكثر. كانت آني قد اعارتني إياها بغية استخدامها وإعادتها اليها في أقرب فرصة. غير ان الصورة اختفت، واختفت معها فكرة الكتابة في زحمة المشاغل الكثيرة. كنّا التقينا في مقهى في كوبنهاغن قبل قرابة عام. وحينما نقلت نظري ما بين صاحبة الصورة وهذه السيدة الستينيّة الجالسة امامي، بدا لي ان الابتسامة الكبيرة على وجهها هي كل ما بقي من اثر تلك السنين البعيدة. ولم يكن الغرض من اللقاء اجراء حوار معها او الحصول على معلومات يمكن الانتفاع بها في معرفة حياة واعمال غسان. لم ادوّن ملاحظات ولم ألحّ في الاستفسار حول ما افادتني به فيرسب في ذاكرتي. ولعل هذا هو السبب الفعليّ في تأجيل الكتابة. اما اختفاء الصورة بين طيات الاوراق التي عدت بها، فكان ذريعة ملائمة لهذا التأجيل. كان اللقاء استجابة لفضول وباعثاً له في وقت واحد. حينما اخبرتني آني ان غسان كان يحمل الجنسية اللبنانية، داخلني شعور بالنصر. لم يصدر هذا الشعور عن اكتشاف مفارقة انطوت عليها حياة غسان. فشأن ايّ امرىء عاش ظروفاً مشابهة، كان لا بد لسيرة غسان من ان تنطوي على خبرات متضاربة ومفارقات. لقد اقتضى على غسان الحصول على الجنسية اللبنانية كيّ يحق له تسلم مهام رئاسة تحرير صحيفة لبنانية، وهو الحق الذي كان، ولا يزال على ما اظن، محظوراً على الفلسطينيين، بحسب القانون اللبناني. ولم يكن غسان غافلاً، او مغفلاً لحقائق كهذه. فكثيراً ما تتكرر الإحالة، في قصصه ورواياته على الاقل، الى تلك الامور التي تحدث من دون تدبير مسبق، الى ذكريات وخيالات تظهر، او حوادث تقع من دون سابق انذار، بما يكشف عن صعوبة إخضاع الطارىء والعابر الى ما قد يُميله الاجماع على صفة واحدة جوهريّة، او صورة في غاية الانسجام والتآلف. كان غسان يكتب بغزارة، خصوصاً في الاعوام الاخيرة من حياته، وكان يحاول اتمام كل ما شرع فيه. وما هذا، على ما اخبرتني آني، الاّ لانه كان يتحسب حلول الموت في اية لحظة. لا اغتيالاً، وإن كان هذا وارداً على الدوام، ولكن بنتيجة داء "السكري" الذي اوهن قواه. وكان غسان لبناني الجنسيّة ومتزوجاً من سيدة دنماركية. وكان لقائي بآني وليد مصادفة تدعو الى العجب. ان تلتقي سيدة دنماركية في كوبنهاغن، امر لا غرابة فيه، ولكن ان تكون فلسطينياً، ولد ونشأ في لبنان، وتلتقي بعد ذلك آني كنفاني في العاصمة الدنماركية، من دون اي مكان آخر، فإن المفارقة لن تغيب عن ناظريك. لقد صرفت آني جلّ العقود الثلاثة، او الاربعة الماضية، من حياتها في لبنان، تقيم في بيروت وتتردد على المخيمات الفلسطينية حيث تنتشر مراكز وبرامج "مؤسسة غسان كنفاني الثقافية" التي تُشرف عليها وتديرها. وكانت قد أنشأت هذه المؤسسة بعد عامين على اغتيال غسان. في البدء اقتصر نشاطها على نشر الاعمال الكاملة للمؤلف الراحل وترجمتها الى لغات اجنبية، ثم ما لبث مدار نشاطها ان اتسع ليشمل إقامة حضانات اطفال ومراكز تأهيل المعوقين ومكتبات ونواد فنيّة للاولاد دون السادسة عشرة. اعطتني آني كراساً يُعرّف بالنشاطات المتداولة، وأرتني صوراً حديثة الالتقاط لمراكز وسيارات تابعة للمؤسسة. كان الكراس حافلاً بصور اطفال لم تكن وجوههم غريبة عني، اما الصور فبدت لي كأنها أخذت في اماكن مررت بها مرات لا تحصى. وعجبت في سريّ كيف انني لم أرها هناك في لبنان، في مدرسة ما في مخيم "عين الحلوة" او بالقرب من احدى سيارات المؤسسة في شوارع مخيم "الرشيدية". وحسبت أنني لا بد رأيتها هناك، غير ان صورتها لم ترسخ في ذاكرتي. وكنت ألفت رؤية نساء اوروبيات متطوعات للعمل في المؤسسات الفلسطينية. كان في ملبسهن البسيط ومظهرهن المجرد من الزينة وسلوكهن العفوي ما يجعلهن مع انقضاء الايام والاعوام جزءاً من الصورة المألوفة التي احاطت بمن عاش في المخيمات او تردّد عليها. ولئن سألت آني عما حدا بها الى ان تربط مصيرها بالفلسطينيين، فلم يكن السؤال نابعاً من غرابة او ندرة ما أقدمت عليه، وانما لاننا التقينا في كوبنهاغن. وما لم يحصل هذا اللقاء في هذه المدينة، لربما ما كان السؤال ورد الى خاطري. لم تكن الايام القليلة التي قضيتها في كوبنهاغن كافية لتكوين فكرة جديدة عن ابناء هذه البلاد، بيد انها عملت على تعزيز الانطباع المسبق الذي حملته معي من لندن. وبحسب هذا الانطباع، فإن الدنماركيين، شأنهم في ذلك شأن جلّ ابناء الشمال الاوروبيّ، لا يريدون معرفة ما لا يعرفون من الامور التي تقع خارج مدار حياتهم. ولم يكن هذا الانطباع أدقّ أو أغنى من صورة نمطية او كليشيه ينطبق على الانكليز انفسهم. ولكن، من خلال رده فعل الدنماركيين تجاه المهاجرين واللاجئين، وهو رده الفعل الوحيد الذي تسنى لي استشفافه من سلوكهم وكلامهم، بدا لي ان اشدّ ما يثير قلق هؤلاء الناس هو اضطرارهم الى التعرف الى ما لا ينتمي الى مدار حياتهم اليوميّ. كان وفود اللاجئين مصدر قلق متعاظم في حياتهم. اخبرتني آني انها لم تكن في البداية قد سمعت بالفلسطينيين. كانت، من دون شك، تعرف بوجود الاسرائيليين، أما الفلسطينيون فلم تكتشف وجودهم الاّ بعدما سافرت الى ايطاليا في مطلع الستينات وتعرفت بالصدفة الى نفر من الطلاب العرب. لمست في صوت آني وهي تقول انها كانت تعرف بوجود الاسرائيليين ولم تكن سمعت بالفلسطينيين، ما يشي برغبة في التشديد على الفارق ما بين معرفة الاولين، معرفةً بما هو طبيعي ومألوف، والجهل بالآخرين، جهلاً بما هو غير موجود. ورجّحت انها من خلال التشديد على فارق كهذا، بل من خلال استخدامها لمفردتي "عرفت" و"لم اسمع" على التوالي، تحاول تنبيه السامع الى اكتشافها المبكر لما حظي به الاسرائيليون من تعاطف في بلادها قياساً بالتعتيم الاعلامي والسياسيّ الذي احاط بالوجود الفلسطيني. ربما شاءت ان تخبرني، وعلى وجه غير مباشر، ان اكتشافها انعدام العدل هذا، هو ما حدا بها الى الذهاب الى لبنان، هناك حيث التقت غسان واقترنت به ورهنت مستقبلها الآتي بمصير الفلسطينيين. قالت ان اهلها تحفّظوا على قرار ذهابها الى لبنان، غير انهم لم يسعوا الى تقييد حريتها في الاختيار. وكدت اسألها ما اذا كانت الآن، بعد انقضاء كل هذه الاعوام، راضية تمام الرضا عن السبيل الذي اختارته؟ ولا ريب في أن انطباعيّ المسبق عن الدنماركيين، ووجودنا في كوبنهاغن، هو ما اثار فضولي لمعرفة اذا ما كان الندم قد انتابها مرة. وما اذا كان الشك قد خامرها بصحة هجرها لعالمها الآمن هذا والتحاقها بالفلسطينيين. ولقد داخلني احساس بالذنب لانني اعتبرت لقائي هذه السيدة محض لقاء بأرملة كاتب يقع من نفسي موقع الايقونة. فالفضول للتعرف على أرملة غسان كنفاني وحده جعلني اسعى الى لقاء آني، ولا بد ان كثيرين غيري التقوها على هذا الاساس. أما ما اخبرتني به عن حياتها المبكرة، عن ابنها فائز وابنتها فائزة، اللذين كانت الاشارة اليهما تضيء وجهها اعتزازاً، ما اخبرتني به من نشاط وانجازات المؤسسة التي تشرف عليها، ما كان ليخفف وطأة احساسي بالذنب. بدا لي كل هذا وثيق الصلة بغسان، وان السيدة آني المستقلة عن تركة الكاتب الراحل انما تنزوي في ركن مظلم. تمنيت لو انني استطيع رؤية آني المستقلة هذه، لو ان بمقدوري منحها حقّ الكلام، غير انني لم اجد الى ذلك سبيلاً. وكدت في لحظة ان اسألها عما احست به حيال ما كان يُذاع من امر مغامرات غسان العاطفيّة؟ مثلاً، عما كانت ردة فعلها حينما نُشرت رسائله الى غادة السمان؟ لكنني سرعان ما ايقنت ان اسئلة كهذه ليست الاّ من باب التطفل الذي لا يُغتفر. كانت آني امامي سيدة في الستين من العمر، هادئة واثقة بالنفس. وشأن جلّ الدنماركيين الذين تحدثت إليهم، بدت منسجمة مع نفسها قانعة بحياتها بما يستبعد الكلام على ما يثير التذمر او ينكأ الجراح. ولم يكن في كلامها او سلوكها ما يندّ عن إنتظار فرصة، لم تسنح بعد، في الحديث عن نفسها في معزل عن سيرة غسان، عن المؤسسة التي انشأتها باسمه، عن ابنها وابنتها، وعن حياتها مع الفلسطينيين. عندما تطرقنا الى الحديث عن روايات وقصص غسان، ابدت حرصاً على الدفاع عن "فنيّة" كتابات غسان، غير ان دفاعها هذا ما كان ليصدر عن رغبة في الاختلاف عن الرؤية المتواضع عليها. بدت لي على يقين لا يتزعزع بأن كتابات غسان لهي التعبير الاصدق عن التزامه السياسي. اما محاولتي إثارة اهتمامها بإمكان قراءة اعماله في ضوء ضرب من السياسة مختلف، فإنها لم تلق عندها إقبالاً يشجع على المضي في هذه المحاولة. وكنت اخبرتها أن ما استوقفني خلال قراءة متأخرة لرواية "عائد الى حيفا" هو اقرار هذا العمل بالاضطهاد الذي تعرض له اليهود على يد النازية. فمثل هذا الاقرار غالباً ما يأتي في عموم الكتابات العربية مصحوباً بنزعة استخفاف او كوسيلة لادانة اخلاقية للسياسة الاسرائيلية، اما في الرواية المذكورة فإنه يأتي كإقرار بحقيقة لا جدال فيها. وافقتني آني الرأي غير انها بادرت الى القول ان غسان كان يؤمن أن المرء لا يمكن ان يكتب جيداً عن الآخر ما لم يعرفه جيداً. شعرت أن هذا الرد ليس سوى كليشيه فارغة المحتوى. فأية معرفة للآخر هي التي قصدها غسان؟ ولاي غرض؟ وفكّرت وانا انظر الى الصورة التي تجمعها بغسان، ان معرفة الآخر الاوثق صلة بنا، في هذا الوقت، هي تلك المعرفة التي سعت إليها هذه المرأة الشابة التي أراها في الصورة. فقبل ما يزيد عن ثلاثة عقود ونصف العقد عمدت هذه المرأة الى اختراق اسوار التعتيم التي ضُربت حول الوجود الفلسطيني فعرفت ما ظل مجهولاً او مستنكراً عند جُلّ ابناء بلدها. وعلى منوالها، هناك من الدنماركيين اليوم، وخلافاً لرأي الغالبية، من يُقبل على المهاجرين واللاجئين ساعياً الى معرفة للآخر تبدد الخوف منه وتمهد السبيل الى الاقرار بوجوده. * كاتب فلسطيني مقيم في لندن.