كان العام 1966 في ما أذكر. هرعنا يومها إلى قاعة «سينما النصر» في مدينة غزة لحضور ندوة أدبية عقدت على هامش مؤتمر لاتحاد كتاب فلسطين، كان يعقد في المدينة. كانت المفاجأة أجمل من مؤتمر يعقد وينتخب هيئة مسؤولة للاتحاد وينفضُ كأن شيئاً لم يكن. أعلن عريف الندوة دعوته «الكاتب الشاب» غسان كنفاني. شاب بالغ الوسامة ناحل وفي مقتبل العمر صعد المنبر ليتحدث بلهجة تمزج الحلم بالواقع في مناخ كان أقرب للحلم: أخبرنا عن شعر جميل جاءه من «هناك»، من «الجهة الأخرى» التي صارت «غامضة»، ومحجوبة عن أخبار الإذاعات والصحف لأنها صارت جزءاً من الكيان الذي نشأ على أنقاضنا. أخبرنا غسان كنفاني يومها أنه سيقرأ قصائد «وصلته» لعدد من شعراء الجليل، وراح يردّد أسماء محمود درويش، توفيق زياد، سميح القاسم، فوزي الأسمر وغيرهم ثم ليبدأ القراءة: «يحكون في بلادنا يحكون في شجن عن صاحبي الذي مضى وعاد في كفن». فيما بعد سأعرف أن تلك المفاجأة الرائعة كانت جزءاً من جهد بذله غسان كنفاني لتقديم شعراء جليل فلسطين للقارئ العربي في كتاب لعلَه النافذة الأولى والأجمل التي أطلَ منها شعراء كانوا منسيين ومنفيين خارج أسوار كتبنا وصحفنا ووعينا. حتى هزيمة الخامس من حزيران (يونيو) 1967 لم أكن قرأت قصصاً لغسان، وكانت معرفتي الوحيدة بأدبه هي قراءة روايته الأشهر ( وفي رأيي الأهم ) «رجال في الشمس» التي قدمتها الإذاعة الأشهر والأوسع انتشاراً في الستينات «صوت العرب» كتمثيلية مسلسلة. رجال في الشمس نشرت يوم كان غسان لم يبلغ بعد منتصف العشرينات من عمره القصير زمنيا، والعريض بما قدم من روايات ومجموعات قصصية. واحدة من أهم معالم رحلته الأدبية والصحافية بل والسياسية كانت بالتأكيد تلك الانشغالات الكبرى بالشأن الوطني الفلسطيني العام من خلال التزامه المباشر وما ترتب عليه من مهمات، ولكن أيضاً من خلال كدّه على كتابة نصوص قصصية في صورة مستمرّة. يذكر أصدقاء غسان في تلك الأيام مواظبته على ارتياد «مقهى الفاروق» وسط العاصمة السورية دمشق، ويذكر فضل النقيب أنه كان يكتب كثيراً ويمزّق ما يكتب في طموح لما هو أجمل وأكثر حيوية في التعبير عن بعض ما يريد. محنة غسان كنفاني كانت تحيطه من الاتجاهات كلّها: اللجوء أولاً وهي المحنة العامة الكبرى، ثم بالذات إصابته منذ الصغر بداء سكَري الأطفال. يتذكر فضل شرورو أن غسان كان يضطر لحقن نفسه بالأنسولين بين وقت وآخر، وأنه سقط بإغماءة أثناء حضورهما مؤتمراً لاتحاد الصحافيين العرب في القاهرة عام 1966. سأظلُ أتذكر بإعجاب ما رواه غسان عن لهفته لمعرفة رأي الراحل د. إحسان عباس في روايته «رجال في الشمس»، حين كان شيخ النقاد يسير متعجلاً وغسان يمشي خلفه لسماع كلماته. كتب غسان قصة الفلسطينيين الذين أجبروا على الرحيل عن وطنهم عام النكبة، وكتب اميل حبيبي في «المتشائل» حكاية الذين بقوا في وطنهم بعد النكبة. قلت ذلك مرة من خلال تقديم حوار أجريته مع حبيبي لمجلة «الحرية» عام 1987 وهاتفني بعدها الراحل حبيبي ليؤكد لي فرحه بتلك الجملة، قبل أن يضيف أن هناك «الثالث» الذي برع في رفع أدب قضية فلسطين إلى مستوى «الفن الرفيع» كما قال يومها في وصف أدب جبرا إبراهيم جبرا. بين دمشق والكويت وبيروت امتدت رحلة غسان الأدبية والصحافية كاتباً وصحافياً ورئيساً لتحرير «الحرية» و»ملحق فلسطين» في المحرّر اللبنانية، ثم مؤسساً ورئيساً لتحرير مجلة «الهدف» التي ظلَ على رأس عمله فيها حتى لحظة انفجار سيارته أمام منزله في ضاحية «الحازمية» قرب بيروت صباح الثامن من تموز ( يوليو) 1972. بين الأدب والسياسة حياة غسان كنفاني الخاطفة ( 1936- 1972 ) جمعت بين الأدب كتابة روائية وقصصية والكتابة الصحافية الغزيرة ، وبين الالتزام بالعمل السياسي المباشر بما يرتبه من انشغالات لا تحصى، ولكن الأهم بما يثقل كاهل الإبداع ويحدُ من انطلاقه الحر. عن ذلك أجاب الكاتب الشهيد في حوار أجرته معه إذاعة اسكندنافية في أيام حياته الأخيرة. كان الصحافي يسأله إذا كان يتفق مع من يقولون إن أبطال رواياته متقدمون في وعيهم عنه بالقول: أنا في العمل السياسي أدافع عن الحزب الذي أنتمي له، لكنني في الأدب الروائي والقصصي أطلق لأبطال قصصي ورواياتي حرية أن يعبروا عن مواقفهم دون تحفظ. حين أعود اليوم إلى بداياته القصصية أرى وعي غسان المبكر لحقيقة امتزاج أقنومين بالغي الأهمية في تصويره الحاد والجارح لحياة الفلسطينيين بعد النكبة، تراجيديا النكبة ذاتها بما هي مأساة كبرى، ثم المصائر الفردية البالغة البؤس للشعب كأفراد وكجماعة على حد سواء. لعلَ كثيراً من هذا الوعي المبكر سيفرض لاحقاً رؤى غسان السياسية والفكرية في أدبه الروائي بدءاً من عمله الروائي الأول والأهم «رجال في الشمس»، وسأتوقف – كغيري – أمام تلك الصورة البالغة الحساسية والرَهافة التي قدمها للقيادة الفلسطينية التي كانت عام النكبة، ممثَلة في شخصية «أبي الخيزران» سائق الشاحنة الذي ينقل أبطال الرواية الثلاثة في خزان سيارته ليجدهم قد فارقوا الحياة في الصحراء اللاهبة. هو وعي سيظلُ مع غسان كنفاني المثقف وابن الطبقة الوسطي ( والده محام منذ عشرينات القرن الفائت والذي أرسل ابنه غسان إلى مدرسة الفرير في يافا ) ولعلَه سيكون حاضراً ببلاغة جارحة وتعبيرية آسرة في أحد أجمل فصول روايته «أم سعد» التي كتبها بعد هزيمة 1967 وصعود المقاومة الفلسطينية وإقبال الشباب الفلسطينيين على التطوع والانخراط في العمل الفدائي. إنه الفصل الذي حمل عنواناً لافتاً «خيمة عن خيمة تفرق» والذي أعدُه إلى اليوم واحداً من أجمل ما كتب من نثر فلسطيني تألق بعد ذلك في كل كتب الشاعر الراحل محمود درويش النثرية وبالذات كتابه الجميل والبليغ «في حضرة الغياب» كان غسان يقرأ جيداً، يتابع الأدباء الشباب، فلاحظ موهبة الكاتب محمود الريماوي الذي أصبح في ما بعد أحد أبرز كتاب القصة الفلسطينيين فأوكل له مسؤولية القسم الثقافي في مجلته «الهدف»، وانتبه لقصائد الشاعر أحمد دحبور فكتب عنه مقالة في المجلة ما لبث دحبور أن نقل مقاطع منها على غلاف مجموعته الشعرية الثالثة الجميلة والمتميزة حقاً «طائر الوحدات». يروي المخرج السينمائي العراقي قاسم حول وقد عمل طويلاً مع غسان كنفاني مسؤولاً عن قسم السينما في إعلام الجبهة الشعبية أن الكاتب الشهيد جاء إليه بمقالة للدكتور إدوارد سعيد كتب عليها بخط يده للقراءة وإبداء الرأي. يروي حول دهشته من ذلك هو الذي يعرف أن غسان لم يكن مجرَد رئيس تحرير بل كان أديباً وكاتباً، فكيف له أن يوكل للعاملين في القسم الثقافي قرار نشر أو عدم نشر مقالة لمفكر بحجم إدوارد سعيد. مع ذلك سيعرف قاسم حول لاحقاً أن غسان كنفاني أراد بذلك التصرُف احترام مسؤوليات رؤساء الأقسام واحترام العمل الصحافي وتكريس المؤسسة. جاء غسان إلى حياة الشتات بلغة عربية ركيكة بسبب تعليمه في «الفرير»، لكنه بسبب ذلك وبالرغم منه كدّ تماماً في تعلُم اللغة العربية فامتشق أجمل تعبيراتها وصار واحداً من كتابها الأكثر جاذبية. كاتب جمع التراجيديا الإنسانية إلى حسّ شعبي يعي روح البسطاء والمهمَشين فظلَ رفيق أيامهم ولم يغب عنهم رغم انفجار جسده في ذلك الصباح الدامي.