بلغ "اتفاق دايتون" سنته الخامسة، لكن السلام في البوسنة لا يزال اصغر سناً واكثر هشاشة. فما كل وقف للحرب سلاماً: هذا تمييز سبق ان أكّدته علوم السياسة والديبلوماسية ليجد في البوسنة اوضح تجلّياته على الارض. فالاتفاق الذي رعته الولاياتالمتحدة من خلال وسيطها ريتشارد هولبروك، جاء مرسّخاً لما فرزته حرب دامت 43 شهراً، فقسّمت البلاد كيانين متساويين تقريباً: احدهما صربي الجمهورية الصربية والآخر مسلم - كرواتي الاتحاد الفيديرالي البوسني. وهذه النتيجة حين وصفها الرئيس البوسني يومها علي عزت بيغوفيتش قال: "ربما ليس حلاً عادلاً لتحقيق السلام، إلا أنه أفضل من الاستمرار في الحرب". والحقيقة، ان الاتفاق، على رغم انه يتكون من وثيقة رئيسية و11 ملحقاً ومئة خريطة وخريطتين انتج وضعاً وصفه بيغوفيتش بعد عام على تنفيذه، بأنه "لا يزال في حال هدنة ولم يصل الى مرحلة السلام المنشود"، موضحاً أنه "لا يمكن السلام ان يحل في بلد لا تتوافر حرية التنقل في كل أجزائه ولا يُسمح لمواطنيه اللاجئين بالعودة الى ديارهم". وشخّص الوضع بأنه "يمر في مرحلة صراع عنيف بين قوتين متضادتين، احداهما ساخطة تبذل كل ما في وسعها لتحقيق مآربها في تقسيم البلاد، والأخرى تمثل المقاومة العاملة من أجل اندماج البوسنة - الهرسك وتعميم النهج الديموقراطي فيها". ولم ينس انتقاد القائمين على تنفيذ اتفاق دايتون. هذه العودة الى ما قاله بيغوفيتش قبل اربع سنوات، أكدت ان "ما أشبه اليوم بالأمس". فتنفيذ بنود الاتفاق ظل اقرب الى اسكات للمدافع وفصل بين المتقاتلين. لهذا فهو لم يحل دون نفوذ القوى العرقية المتشددة، الصربية والكرواتية، حتى في الانتخابات التي جرت الشهر الماضي ووصفها السياسي البوسني حارث سيلايجيتش بأنها "رسخت الأمر الواقع في تجزئه الجمهورية البوسنية كيانات ومناطق عرقية"، وانها "لا تدعم مؤسسات الدولة المشتركة". في حين لا يزال أكثر من مليون بوسني، غالبيتهم من المسلمين، مشردين بعيداً عن ديارهم. وبرزت مخاطر فوز العرقيين، عندما اعلن الكروات، بتأييد من قطاعات واسعة في زغرب، انهم يطالبون بإنهاء وحدتهم مع المسلمين في كيان واحد، ويريدون كياناً مستقلاً لهم وبهم على غرار الصرب. فيما أكد الصرب، بدعم من بلغراد والرئيس اليوغوسلافي فويسلاف كوشتونيتسا، انهم يرفضون أي تغيير في اتفاق دايتون يمس كيانهم ووضعهم الخاص. ومع ان المسلمين أعطوا أصواتهم للتغيير وازاحة "حزب العمل الديموقراطي" عن السلطة، فإن ذلك جاء منسجماً مع ما أراده الغربيون القيّمون على شؤون البوسنة الذين وعدوا، في مقابل ذلك، بتصحيح الوضع وانهاء تبعات الحرب وتوجيه البلاد نحو الوحدة. إلا أن أملهم خاب عندما اصطدم بواقع "التحدي" الصربي والكرواتي. وهذا مجتمعاً قد يعيد الى الصدارة خطر تفكك البوسنة. والحقيقة ان المسلمين كانوا الطرف الخاسر، سواء خلال الحرب أو بعدها، لأنهم لم يصنعوا اطاراً ذاتياً واضحاً لوضعهم الخاص بعد انهيار يوغوسلافيا السابقة. فاعتمدوا كلياً على الولاياتالمتحدة التي يحمّلها الوسيط الدولي السابق في البلقان ثورفالد شتولتنبرغ نروجي مسؤولية التأخر في إحلال السلام، بحسب ما ورد في كتابه "الأيام الألف" 400 صفحة الذي يتناول عمله مع الوسيط الأوروبي البريطاني اللورد ديفيد اوين. ومما يستخلصه الوسيط انه "كان في الامكان انهاء القتال في أواخر 1993 لو أن واشنطن أعطت دعمها للمفاوضات وساندت الاتفاقات السلمية التي تم التوصل اليها". واعتبر المراقبون عند ابرام الاتفاق انه جاء في توقيت متعمد "ليكون انتصاراً للرئيس بيل كلينتون في بداية تنافسه الانتخابي يومذاك مع الجمهوريين". حتى الاحتفال الذي أقيم قبل أيام، في قاعدة "رايت باترسون" العسكرية القريبة من مدينة دايتون في ولاية اوهايو الأميركية، حيث جرت مفاوضات الاتفاق، جاء مجرد ذكرى، أو "حفلة تأبينية" باردة كما وصفه صحافيون في البلقان. فلم يحضر من موقعيه غير هولبروك، بينما رحل الرئيس الكرواتي توجمان وخُلع الرئيس الصربي ميلوشيفيتش وآثر بيغوفيتش الاستقالة. اما الذين شاركوا في الاحتفال من المسلمين والصرب والكروات وأهل الجبل الأسود والبان كوسوفو، فانهم تشاجروا وتبادلوا الاتهامات، وغادروا القاعدة العسكرية بنتيجة "عدم الاتفاق حتى على اتفاق دايتون". وفي المقابل يُخشى، بحسب ما يشير مراقبون غربيون، ان يدبّ الفتور في الاهتمام الاميركي بالبوسنة. فما اعلنه المرشح جورج بوش من نيّته تخفيف الالتزام الاميركي بها، اذا ما فاز في الرئاسة، يندرج في السياق هذا. وحتى بين الاوروبيين بدأ الكلام يتكاثر حول الفساد والمحسوبيات، وعدم تقدم البوسنيين باتجاه المصالحة الوطنية. وهذا قد يعني، بالنسبة الى الناتو عموماً، ابقاء القوات هناك الى ان يقضي الله أمراً. واذا صح هذا التقدير اندفعت الامور الى ما هو اسوأ مما دفع اليه الاهتمام الغربي المنقوص. فاذا صدّقنا اصحاب السيناريوات القائلة بأن تحسن العلاقات الغربية مع بلغراد، بعد اطاحة ميلوشيفيتش، قد تعيد فتح ملف كوسوفو، بتنا امام اسباب جدية للقلق في البلقان وعليه. فهل تدور الدورة مجدداً على المسلمين وتنهار علاقتهم بالغرب، بعدما كان قد بدا ان الغرب حليفهم في هذه الرقعة وحدها من سائر الكون!؟