مع مرور ثلاث سنوات على توقيع اتفاق انهاء الحرب البوسنية في كل من مدينة دايتون الاميركية والعاصمة الفرنسية باريس، دخلت البوسنة - الهرسك مرحلة جديدة باتجاه اقتراب كيانيها: المسلم - الكرواتي من زغرب والصربي من بلغراد. جميل روفائيل يعقب: لقد اندلعت الحرب البوسنية في نيسان ابريل 1992 نتيجة ما اسفر عنه انهيار يوغوسلافيا السابقة من تشكيل دول جديدة على اسس عرقية، وظهور ثلاث جهات مصيرية، اثنتان منها وهي الكرواتية والصربية عملت على تقسيم هذه الجمهورية، بينما كافح الطرف الثالث المسلم البوشناقي من اجل وحدتها واستقلالها، واستمرت هذه الحال حتى توقيع "اتفاقية السلام" في باريس في 14/12/1995 والتي كان اعلن التوصل اليها في مدينة دايتون في 21/11/1995 بعد مفاوضات مضنية استمرت 20 يوماً شارك فيها زعماء الاطراف البوسنية وصربيا وكرواتيا وممثلون عن مجموعة الاتصال الدولية، مورست خلالها ضغوط شديدة على المتصارعين حتى اسفرت عن وقف القتال بلا غالب او مغلوب، تاركة الكثير من الامور المختلف عليها من دون حسم، وهو ما جعل الحصيلة توصف بأنها "حقنت الدماء ولكنها لم تحل المشاكل التي اريقت من اجلها" فيما قال عنه الرئيس المسلم علي عزت بيغوفيتش "ربما لا يكون عادلاً لتحقيق السلام الا انه افضل من الاستمرار بالحرب". وازاء هذا الاتفاق الذي تباينت التفسيرات في شأن بنوده، دخلت الاطراف البوسنية في نزاع المقاطعة بينها لتحقيق الاهداف التي عجزت عن بلوغها في الحرب، ما جعل التنفيذ يقتصر على ما قام به الوجود العسكري بقيادة الحلف الاطلسي من فصل القوات المتحاربة ووضع حدود تقسيم البوسنة الى كيانين متساويين تقريباً وتوفير المجال للمسؤولين الدوليين باصدار اوامر تفرض قرارات بخصوص قضايا لا تتجاوز النواحي الشكلية مثل العلم الوطني وشعار البلاد والعملة النقدية وارقام السيارات ومؤازرة "الزعماء المعتدلين" والمثول امام محكمة جرائم الحرب في لاهاي، والتي ظلت بعيدة عن التنفيذ الواقعي لأن الذين تعنيهم اعتبروها "قسرية لم يؤخذ رأيهم فيها". وفي المقابل فان البوسنة انقسمت عملياً الى ثلاثة اجزاء، احدها يشمل نصف اراضيها وسمي "الجمهورية الصربية" وتحكم به الصرب الموالون لبلغراد، والنصف الآخر اطلق عليه "الاتحاد الفيديرالي" الذي ضم نظرياً منطقتي المسلمين والكروات اللتين خاضتا صراعاً مريراً بين محاولة هيمنة الغالبية المسلمة على كل الاتحاد وتهديد الاقلية الكرواتية المدعومة من زغرب بتشكيل كيان خاص بها على غرار ما حصل الصرب عليه، وهو ما جعل التطرف العرقي متفاقماً والانتخابات تجري لمصلحة المتشددين بينما بقي الدمار على حاله واستمرت معاناة السكان الاقتصادية وانتشرت الجرائم المنظمة وتهريب المخدرات والاتجار بالاسلحة، وظلت المخاوف مخيمة من عودة الحرب في حال انسحاب الوجود العسكري الدولي، وحال هذا الاضطراب دون عودة حوالي نصف سكان الجمهورية الى ديارهم التي نزحوا عنها، واستقر قرار الكثيرين منهم، وخصوصاً المسلمون، على ايجاد ملجأ دائم في ارجاء العالم والتخلي نهائياً عن الرجوع الى بلادهم. واتجهت القرارات الدولية التي تتحكم بالمستقبل البوسني نحو ارضاء الطرفين الصربي والكرواتي على اساس اعتبار ان اي حل لا يحقق تطلعاتهما القومية المتوارثة سيبقي الحال متأججة ويكون من الصعب توفير الحماية للمسلمين المحاطين من كل الجهات بخصومهم الألداء الكروات والصرب، وهكذا وقع الخيار على ارتباط الكيانين: الاتحاد الفيديرالي بكرواتيا والصربي بيوغوسلافيا صربيا وهو ما اطلق عليه "العلاقات الخاصة". وبسبب عدم وجود معارضة لهذه العلاقات داخل الكيان الصربي، فان الجهود الدولية تركزت على اقامة مفاوضات بين كرواتيا والاتحاد الفيديرالي الذي لم يبد طرفه المسلم حماساً لها على الرغم من الضغوط الدولية والكرواتية الشديدة التي تعرض لها، حتى تم في 22 من الشهر الماضي بمساع من الوسيط الاميركي جاك كلاين، التوقيع في زغرب على اتفاق التكامل بين الاتحاد الفيديرالي وكرواتيا في المجالات العسكرية والثقافية والتشريعية والامنية والاقتصادية والجمركية والصناعية والاجتماعية والسياحية والاعلامية، وأكد المراقبون ان الوفد المسلم الذي ترأسه عضو هيئة الرئاسة البوسنية علي عزت بيغوفيتش لم يكن مرتاحاً له. وشارك رئيس هيئة الرئاسة البوسنية جيفكو راديتش وهو صربي من زعماء الحزب الاشتراكي الذي يقوده الرئيس سلوبودان ميلوشيفيتش الكروات والمسؤولين الدوليين الثناء على الاتفاق الذي اعتبروه "حدثاً تاريخياً يمثل اهم وثيقة تم توقيعها بعد اتفاق دايتون" واعرب الوسيط جاك كلاين عن تطلعاته "نحو ابرام اتفاق مماثل بين الجمهورية الصربية البوسنية والاتحاد اليوغوسلافي" لكن اطرافاً صربية وكرواتية ذات النزعة البوسنية الاستقلالية انضمت الى المسلمين في عدم رضاها عن الاتفاق، وهو ما عبّر عنه عضو هيئة الرئاسة البوسنية السابق ستيبان كليوتش كرواتي بقوله "ان اتفاقات العلاقات الخاصة تعطي الفرصة للتدخل الشرعي في شؤون دولة البوسنة - الهرسك الى حد القضاء على وجود شعب خاص بها". وبرر المسؤولون الدوليون مؤازرتهم للعلاقات الخاصة بأنها "ستجعل البوسنة حلقة ربط بين كرواتيا ويوغوسلافيا وتبعد شبح عودة الحرب في الوقت الذي تضمن بقاء جمهورية البوسنة - الهرسك دولة ذات سيادة وان كان ذلك بارتباطات ضعيفة بين اعراقها الثلاثة". ولا يشك المراقبون في ان تحقيق اهداف الصرب والكروات في البوسنة يقضي على مخاوف عودة الحرب، على رغم ان ذلك يتم على حساب وحدة هذه البلاد ونزوع مسلميها نحو الهوية القومية لهم من اجل تجاوز صفة الطائفية الدينية التي تضعهم عرقياً اما في خانة الصرب او الكروات، وهو ما يجعلهم اقلية عقائدية. ومع كل هذه التطورات، فقد يكون الامل في الحفاظ على التميز القومي للمسلمين البوسنيين من الملامح التي ظهرت لدى البعض من المسلمين انفسهم بالعودة الى مشروع الوسيطين السابقين الاوروبي اللورد ديفيد اوين والدولي ثورفالد شتولتنبرغ الذي يقسم البوسنة - الهرسك الى ثلاث جمهوريات مسلمة وصربية وكرواتية مرتبطة باتحاد فيديرالي عاصمته ساراييفو التي تكون مدينة مفتوحة للجميع. وكان المسلمون رفضوا اثناء الحرب هذا المشروع باعتباره يقضي على وحدة البوسنة، الا ان المشكلة الراهنة ان "جمهورية المسلمين" لا يمكن ان تحصل على 33 في المئة من الاراضي البوسنية التي كانت مقررة لها في المشروع، بسبب التحكم الصربي - الكرواتي الحالي بأكثر من 75 في المئة من الاراضي، لكن الحصول على ما يمكن الاحتفاظ به هو افضل من لا شيء، عملاً بنصيحة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات للرئيس علي عزت بيغوفيتش حين التقيا عام 1993 والتي جاء فيها "خذ ما يمكنك من البوسنة، لانه لا فائدة من ان يكون لك شعب ولكنه من دون ارض".