لا يكفي الرئيس الأميركي المنتخب جورج دبليون بوش أن يواجه انتقاصاً مبهماً في شرعية فوزه، على رغم الإجماع المعلن على الإقرار بحتمية الخضوع لمجريات العملية الانتخابية التي اوصلته إلى سدة الرئاسة، بل عليه أيضاً أن يعالج التنافس القائم بين الجناحين المحافظ والمعتدل في حزبه الجمهوري، ليخرج بحكومة قادرة على تحقيق وعوده الانتخابية. وعلى رغم الاتهامات التي تعرض لها بوش خلال حملته الانتخابية بالإفراط في مجاملة المحافظين، فإنه في واقع الحال أقرب من حيث الخلفية الشخصية والممارسة السياسية إلى الخط المعتدل في حزبه. ولا بد من التنبيه هنا أن صفة "المحافظة" تطلق ضمن الحزب الجمهوري على أكثر من اتجاه. فإزاء المواضيع المالية والاقتصادية، يصنف معظم الناشطين الجمهوريين أنفسهم في خانة المحافظة. وقوام المحافظة في هذه الحال الإصرار على تقليص الدور الاقتصادي للدولة وتخفيض العبء الضريبي وتسليم الدورة الاقتصادية لحركة السوق، على أساس الاطمئنان المبدئي لسلامة هذه الحركة إذ يختار المجتمع عبرها الاتجاه المناسب لتحقيق صالحه، وعلى أساس الريبة الثابتة من البرامج الحكومية التي تنتقل بالحكم من موقع العناية بالمجتمع إلى موضع الوصاية عليه. أما إزاء جملة من المسائل الاجتماعية، ولا سيما منها الإجهاض والمثلية و"العمل الإيجابي" أي برامج تصحيح الغبن التاريخي الذي تعرضت له الأقليات العرقية والأفارقة الأميركون بوجه خاص فإن الاجماع الجمهوري يتلاشى وتظهر معال انقسام واضح بين خط المحافظين الاجتماعيين المطالبين بدور حاسم للحكم للوصول إلى حظر الإجهاض ومنع الحركة المثلية من تحقيق المكاسب التشريعية أو القضائية وتطويق برامج "العمل الإيجابي" للوصول بها إلى خاتمتها، وخط "المعتدلين" الذين يميلون إلى عدم التعرض للتطورات الاجتماعية التي تختصرها هذه العناوين. والواقع أن الانقسام بين هذه الخطين يكشف بحسب الطبيعة التحالفية في الحزب الجمهوري بين فئات تلتقي على معظم قضايا الاقتصاد الجوهرية، ولكنها تختلف في منطلقاتها الفكرية وفي انتشارها المناطقي والمجتمعي. وبعد أن جاء اختيار كولن باول لوزارة الخارجية وكريستين تود - ويتمان لوكالة حماية البيئة، وكلاهما يجاهر بتأييد حق المرأة بالإجهاض، كان لا بد لجورج بوش من اختيار يطمئن المحافظين الاجتماعيين الى أنه لم يتخلَّ عنهم، فلا يتخلون بدورهم عنه. ولا شكل أن اختيار جون أشكروفت لتولي وزارة العدل كفيل بأن يحقق هذا الاطمئنان، ذلك ان جون أشكروفت يجسد، في حياته الخاصة، ونشاطه العام على حد سواء، المقومات النموذجية للخط المحافظ الاجتماعي. ولد جون آشكروفت عام 1942، ونشأ في ولاية ميسوري، في الغرب الأوسط الأميركي، أحد أهم معاقل المحافظين الاجتماعيين. وبعد دراسة جامعية أولية في جامعة ييل العريقة، انتسب أشكروفت الى كلية الحقوق في مدينة شيكاغو عام 1964، وتخرج مها عام 1967، ليعود إلى ولاية ميسوري، حيث عمل في حقل المحاماة وتولّى مهاماً تعليمية. وكانت بداية خدمته العامة في ولايته عام 1973، حين جرى اختياره لمنصب المشرف على المحاسبة للولاية، ثم تدرج في الفوز بالمناصب، من مساعد المدعي العام 1989. وفي العام 1994، تخلى أشكروفت عن الحاكمية وفاز في معركته الانتخابية لتمثيل ولاية ميسوري في مجلس الشيوخ بالكونغر. على أنه، وعلى رغم البروزي الذي حققه في منصبه هذا، كأحد أبرز الوجوه المحافظة، لم يتمكن من تجديد الفوز في الانتخابات التي جرت في تشرين الثاني نوفمبر الماضي، بل خسر في مواجهة فريده في التاريخ الانتخابي الأميركي. فقد كان خصمه الديموقراطي حاكم الولاية جيبئذٍ مل كارناهان. إلا أن كارناهان لقي حتفه في حادثة سقوط طائرته قبل بضعة أسابيع من موعد الانتخابات. ولكن هذه الحادثة وقعت بعد انقضاء مهلة تعديل قوائم الترشيح، فكان لا بد من أن يخوض أشكروفت معركة التجديد لمنصبه في مجلس الشيوخ في مواجهة رجل ميت. وكان أن تفوق الميت على الحي، وفاز مل كارناهان بالمنصب. ووفق القوانين السارية في الولاية التي تجيز لحاكم الولاية اختيار من يملأ المنصب الشاغر بالوكالة، فقد اختار الحاكم الحالي وهو كان إلى أمس قريب نائب كارناهان في الحاكمية زوجة كارناهان لتصبح عضو مجلس الشيوخ عن الولاية. وكان على جون أشكروفت أن يعترف بالهزيمة، ويرضى بقرار فصله من الخدمة العامة. وكان أشكروفت، طوال أعوام توليه المسؤوليات العامة، قد التزم نهجاً ثابتاً ينضوي في إطار الخط المحافظ. فقد تمكن خلال حاكميته لولاية ميسوري من تجنب أي عجز في الموازنات السنوية المتالية، على حساب الحد من بعض البرامج الخدماتية. وفي مجلس الشيوخ، حيث شارك في اللجان المعنية بالشؤون القضائية، وشؤون التجارة والعلم والنقل، والشؤون الخارجية، تميز أشكروفت بنشاطه الهادف إلى تخفيف الضرائب وفصل ميزانية برنامج الضمان الاجتماعي عن سائر الأموال العامة. وفي حين أنه بقي على معارضته الصارمة لأي دور للسلطات في الحد من انتشار الأسلحة، باعتبار ذلك تطفلاً على حق الفرد باقتنائها، فإنه، كما سائر المحافظين الاجتماعيين، لم يرَ أي تناقض بين الحرية الشخصية التي يصرّ عليها للفرد، وبين السعي إلى إسقاط حق الإجهاض. ويرى خصوم المحافظين في هذين الموقفين تناقضاً صارخاً، أما المحافظون الاجتماعيون، فينطلقون من اعتبار الجنين منذ ابتداء تكونه، فرداً كامل الحقوق، فالإجهاض بنظرهم هو حرمان هذا الفرد من حقه بالحياة. والواقع أن المحافظين الاجتماعيين يدركون مدى استتباب القناعة في المجتمع الأميركي باعتبار ان الإجهاض حق بديهي وإن مكروهاً للمرأة وتعبير عن حريتها في ان تتصرف بجسدها. لذلك، فالأسلوب الذي يعتمده المحافظون لتعديل الوضع القائم بما يتوافق مع تصورهم للمسألة، يعتمد على التدرجية. وقد بذل المحافظون في هذا السياق جهوداً بالغة لحظر العمليات الجراحية التي تستدعي إجهاض الجنين في الثلث الأخير من الحمل. وعلى رغم أن حكومة الرئيس كلينتون قد تمكنت من عرقلة هذه الجهود، مؤيدة بذلك وجهة النظر التي تعتبر المسألة من اختصاص الأطباء لا المشترعين، فقد كان لأشكروفت دور بارر في إبقاء هذه القضية نصب أعين الجمهور الذي يتعاطف معها. وكما معظم المحافظين الاجتماعيين، فإن أشكروفت ينطلق في معارضته للإجهاض من اعتبارات دينية. ويجاهر أشكروفت بانتمائه وأسرته إلى إحدى الكنائس الإنجيلية المتشددة، كما يفاخر بالتزامه القيم العائلية التقليدية. بل إن مؤلفاته هو كتاب في الحكم والدروس التي استمدها من والده. وبناء على هذه القيم، فإن أشكروفت يعتبر المثلية الجنسية حالاً خاطئة فاسدة، وهو قد ثابر على التصدي لجهود الحركة المثلية في الولاياتالمتحدة إلى اعتبار المثليين أقلية محددة عرضة للتمييز والاضطهار، وهو يرفض رفضاً قاطعاً سن التشريعات الكفيلة بضمان حمايتهم كمجوعة، تمثلاً بالقوانين السارية التي تجعل من الاعتداء على الفرد لانتمائه إلى إحدى الأقليات العرقية والدينية جريمة مضاعفة. وقد نال أشكروفت لمواقفه هذه التأييد من جهات تتراوح من المحافظة إلى التشدد والتطرف. وعلى رغم محاولاته تصحيح الصورة السلبية التي تشكلت عنه لدى عمرم المجهور نتيجة بعض هذا التأييد، فإن العداء له في الأوساط التقدمية تفاقم إثر اعتراضه على تعيين أحد القضاة الأفارقة الأميركيين. وفي أن الاعتبارات العقائدية والسياسية كانت على الأرجح هي المؤثرة في اعتراضه هذا، فإن الاتهامات بالعنصرية المبطنة قد تصاعدت خلالا الحملة الانتخابية. أما في ما يتعدى القضايا الاجتماعية، فإن أشكروفت كان خلال توليه حاكمية ولاية ميسوري من أنصار الامن الفاعل الوقائي في مكافحة انتشار المخدرات تحديداً، أي الإمساك بزمام المبادرة وليس اعتماد رد الفعل للتصدي لانتاج المخدرات وتسويقها. ومن جهة أخرى، فإن أشكروفت كان من أشد المنتقدين لوزارة العدل في مسعاها إلى مقاضاة شركة انتاج البرمجيات مايكروسوفت، معتبراً أن هذا المسعى يؤدي إلى إنهاك الاقتصاد. واليوم، وبعد أن أوشك أشكروفت أن يطوي صفحة الخدمة العامة، يجد نفسه مدعواً من جديد إلى النشاط السياسي في واشنطن، من موقع تنفيذي لا اشتراعي. أما درة الفعل الى عودته من عداد الأموات السياسيين، فجاءت سريعة من بعض القيادات الأفريقية الأميركية، ولا سيما الجمعية الوطنية لترقي الشعب الملون، إذ اعتبرت أن اختيار بوش له يكشف حقيقة حكومة بوش العتيدة التي تمارس الغزل الكلامي مع الأقليات إنما تضع في موقع المسؤولية التنفيذية من يعمل على تقويض ما تحقق من مكاست واعتراض الجديد منها. وليس في سجل أشكروفت ما يمكن لهذه القيادات الركون اليه للاقتناع بأنه لا مبرر لمخاولها. والواقع ان اسلوب أشكروفت في الامن الوقائي قد لا يكون نذير شؤم في ما يتعلق برفع المضايقات التي يتعرض لها العرب، المواطنين والمقيمين على حد سواء، في الولاياتالمتحدة، من استهداف انتقائي للتحقيق والتمحيص قبيل الرحلات الجوية، أو من الاحتجاز المزمن على اساس ادلة سرية تحرمهم من حقهم الدستوري في الدفاع عن النفس إزاء التهم الموجهة اليهم. وكان الرئيس المنتخب جورج دبليو بوش قد أثار هذه القضايا بارتباك وخلط نموذجيين خلال الحملة الانتخابية. فهل تتناقض وعوده بإنصاف العرب الأميركيين مع المنحى الوقائي لوزير العدل لديه؟