عندما شهدت أسعار النفط انخفاضاً في الاعوام الماضية، عانى الاقتصاد القطري كغيره من اقتصادات دول الخليج من آثار هذا التدهور. لكن السياسة الاقتصادية القطرية نجحت من خلال "خطط مدروسة" في إعادة الاستقرار للوضع الاقتصادي لدرجة جعلت صندوق النقد الدولي "يثني في تقرير له على ما قامت به الدولة من تعزيز استراتيجية التنمية لديها بسياسة مالية ونقدية حكيمة". جاء هذا الكلام على لسان وزير المال والاقتصاد والتجارة يوسف حسين كمال في بيان كان اصدره في نهاية آذار مارس الماضي لمناسبة اصدار نائب أمير الدولة ولي العهد الشيخ جاسم بن حمد آل ثاني قراراً باعتماد الموازنة التي تدخل الآن مرحلتها النهائية. كان تعبير وزير المال عن "ارتياحه للوضع الاقتصادي آنذاك" في محله إذ أن بلاده استطاعت من خلال خطوات محددة أن تعيد أسباب المنعة مجدداً للاقتصاد بعدما احتكمت الى موازنات استهدفت تحقيق عدد من الأهداف في وقت واحد، وكان احتساب الموازنة الحالية على أساس 15 دولاراً للبرميل أحد الدلائل على ايجابية التخطيط الذي اثمر نتائج اقتصادية مهمة في ظل ارتفاع اسعار النفط عن المعدل الذي اعتمدته الموازنة وكان النهج نفسه جرى اتباعه في الموازنة السابقة التي اعتمدت 10 دولارات لبرميل النفط. ولوحظ ان كل هذا أدى الى "انتعاش اقتصادي" ملحوظ من مظاهره حالياً، حسب مصادر رفيعة المستوى تحدثت الى "الحياة"، ارتفاع معدل النمو "بنسبة كبيرة" السنة الجارية بالمقارنة مع العام الماضي و"انخفاض عجز الموازنة بالمقارنة ايضاً بما كان موجوداً قبل إقرار الموازنة التي يجري العمل بها حالياً وكانت قطر نجحت في خفض العجز الى 2.783 بليون ريال قطري وكان يبلغ قبل ذلك عام 1999 نحو 3.602 بليون ريال وهكذا استطاعت الدوحة "احتواء عجز موازنة 99-2000" في ظل ارتفاع اسعار النفط. لكن السياسات التي اتبعت وركزت على المشاريع الرئيسية خصوصاً مشاريع البنية الأساسية كالطرق والمجاري والماء والكهرباء والمشاريع الاجتماعية فضلاً عن "اعداد الموازنة الحالية على أساس التقدير المتحفظ للواردات وتنويع مصادر الدخل" أدى الى دخول الاقتصاد القطري مرحلة جديدة يُتوقع أن تتضح ملامحها عندما يتم الاعلان عن موازنة 2001 - 2002 التي سيبدأ العمل بها في أول نيسان ابريل المقبل كما درجت العادة في الاعوام الماضية. وقالت مصادر اقتصادية رفيعة المستوى ل"الحياة": "ان الوضع الاقتصادي جيد حالياً"، وأفاد ان هناك اتجاهاً يركز على التوسع في الانفاق على مشاريع البنية التحتية والخدمات، ويؤشر هذا الى ان السياسة الاقتصادية التي اتبعت في الاعوام الماضية بدأت تظهر ثمارها بشكل أوضح حالياً خصوصاً ان "هناك فائضاً مالياً في موازنة 2000 - 2001" وهذا معناه ان أرقام الموازنة المقبلة ستكشف ارتفاع الايرادات. ومع توقع ان تواصل قطر سياستها الهادفة الى "التخلص" من العجز في الموازنة فإن برامج التخصيص تتصدر أولويات المرحلة بعدما كان تخصيص مؤسسة الاتصالات كيوتل في وقت سابق أول حدث في هذا المجال. برامج التخصيص وعلمت "الحياة" من مصدر موثوق به "ان برامج التخصيص ستستمر في الفترة المقبلة" ويُتوقع ان يتم تخصيص البريد يتبع لوزارة المواصلات حالياً وبعض الخدمات التي تقدمها حالياً وزارة الشؤون البلدية مشاريع النظافة وستشمل الخطط في هذا الميدان "تخصيص الموانئ في المستقبل القريب". وفي خطوة هي الأولى من نوعها وتعكس دلالات اقتصادية مهمة جاء "القانون رقم 13 للسنة 2000 بتنظيم استثمار رأس المال الأجنبي في النشاط الاقتصادي" الذي أصدره نائب الأمير ولي العهد في 16 تشرين الأول اكتوبر الماضي، ومنح هذا القانون المستثمرين الأجانب امتيازات وتسهيلات واسعة اذ اجاز للمستثمر الأجنبي امتلاك ما يصل الى مئة في المئة من رأس مال المشروع في مجالات الزراعة والصناعة والصحة والتعليم والسياحة وتنمية واستغلال الموارد الطبيعية أو الطاقة أو التعدين. راجع ص 17 وقدم هذا القانون حوافز عدة الى المستثمرين الأجانب ابتداء من تخصيص الأرض اللازمة لاقامة المشروع بايجار لمدة لا تزيد على 50 سنة قابلة للتجديد الى اعفاء المال من ضريبة الدخل لمدة عشر سنوات والاعفاء الجمركي للواردات من الآلات والمعدات اضافة الى التأكيد على أن الاستثمارات الأجنبية لا تخضع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لنزع الملكية أو لأي اجراء ذي أثر مماثل ما لم يكن ذلك للمنفعة العامة وبطريقة غير تمييزية ولقاء تعويض سريع ومناسب كما اجاز القانون حل أي نزاع بين المستثمر الأجنبي والغير بواسطة هيئة تحكيم محلية أو دولية. وكشف مصدر واسع الاطلاع ل"الحياة" ان وزارة المال تلقت استفسارات عدة من مستثمرين اجانب بعد صدور هذا القانون وعلم ان مكاتب استثمار اجنبية كبرى قررت فتح مكاتب في الدوحة ويُتوقع صدور تراخيص لها قريباً. وقال المصدر الحكومي إن قطر من الدول السباقة في جذب الاستثمارات الأجنبية خصوصاً في مجال الصناعات الهيدروكربونية التي استطاعت الدوحة ان تستقطب لها شركاء اجانب. وتشكل الشراكة القطرية مع كبرى شركات النفط والغاز احدى أبرز معالم السياسة الاقتصادية والنفطية خصوصاً ان دخول قطر منذ اعوام نادي مصدري الغاز بصفتها تضم احتياطات كبيرة اعطى دفعة قوية للاقتصاد القطري ويُتوقع ان تظهر نتائج ذلك بشكل أوضح خلال السنوات القليلة المقبلة. ورأى مصدر اقتصادي حكومي ان "السياسة الاقتصادية المفتوحة لبلاده والاجراءات البسيطة أدت الى ارتفاع قيمة الاستثمارات الأجنبية في الاعوام الخمسة الماضية إذ تجاوزت 26 بليون دولار . ولفت ان الباب مفتوح الآن للاستثمار في مجالات عدة من بينها السياحة، ويذكر أن قطر قررت تشكيل هيئة للسياحة في اطار سياسة انفتاح يُتوقع ان تتضح بصماتها أيضاً السنة المقبلة. ولوحظ ان قطر شهدت في السنة 2000 بناء فنادق جديدة وكان أحدثها فندق "انتركونتيننتال" وهناك فنادق أخرى سيتم افتتاحها في وقت لاحق وسيدعم كل هذا خطط الانفتاح الاقتصادي والسياسي ايضاً. وشهدت السنة تعزيزاً لدور مؤسسات النفط والغاز وكان من أبرز الخطى في هذا المجال سعي الدوحة لفتح أسواق جديدة للغاز اذ قاد وزير الطاقة والصناعة تحركاً في هذا المجال استناداً الى سياسة أمير الدولة الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني التي تركز على "تنويع مصادر الدخل". ويأتي في هذا الاطار ما لوحظ من اهتمام وتركيز على ما وصفه وزير الطاقة ب"تكاتف وتعاون القطاع الخاص مع القطاع العام في مجال الصناعات الصغيرة والمتوسطة"، وذلك لدى افتتاحه "ندوة فرص الاستثمار الصناعي في دولة قطر" التي عُقدت في شباط فبراير الماضي، حيث لفت الى أن القانون الصناعي الجديد يقدم "تسهيلات واعفاءات للمستثمرين". ولوحظ ان العام 2000 شهد نشاطاً كثيفاً في مجال تطوير احتياطات الغاز في حقل الشمال وهو مشروع عملاق يعد من أبرز الانجازات الاقتصادية الضخمة التي حققتها قطر في هذه المرحلة ويذكر على سبيل المثال ان المؤسسة العامة القطرية كانت وقعت "اتفاق التطوير والمشاركة لمشروع الاستغلال المعزز للغاز" مع شركة "اكسون موبيل الشرق الأوسط لتسويق الغاز المحدودة" التابعة ل"اكسون موبيل" وذلك في ايار مايو الماضي، وسيؤدي هذا الاتفاق حسب المصادر الرسمية الى "تطوير كميات اضافية من غاز حقل الشمال لتلبية حاجة السوق المحلية وتصدير الغاز بواسطة الأنابيب الى دول المنطقة". وسينتج هذا المشروع الغاز من حقل الشمال بطاقة اسمية تبلغ 1750 مليون قدم مكعبة من الغاز يومياً للسوق المحلية والتصدير الى جانب البروبان والبيوتان والايثان كلقيم للمشاريع البتروكيماوية المستقبلية في قطر. وسيبدأ هذا المشروع في سنة 2003 بكلفة تراوح بين 1100 - 1200 مليون دولار وكان وزير الطاقة قال "ان هذا المشروع يجسد التنفيذ المستمر لاستراتيجية قطر في تطوير قاعدتها الصناعية"، وهذا هو المشروع الرابع لتطوير احتياطات غاز حقل الشمال. ومثلما سعت قطر في السنة 2000 لدعم مسيرة البناء الاقتصادي فإنها اعلنت "جائزة الأمير للجودة" في خطوة تعكس توجهاً صناعياً يقوم على مرتكزات محددة ومدروسة ويُتوقع ان يتم التطبيق الفعلي للجائزة في وقت لاحق. اما على صعيد العمل المشترك فكان انعقاد القمة الاسلامية في قطر في 12 تشرين الثاني نوفمبر الماضي فرصة بادرت خلالها الدوحة للدعوة لانشاء سوق اسلامية مشتركة ويعكس هذا ايضاً توجهاً يحمل في طياته رؤية تدعم العمل الاقتصادي الخليجي والعربي المشترك. وكان اتفاق الدوحة ودمشق في تموز يوليو الماضي على اقامة منطقة تجارية حرة بينهما بخطوات تدريجية تبدأ من أول كانون الثاني يناير 2001، خطوة تعكس حيوية التواصل الاقتصادي القطري مع دول المنطقة في عالم لا يؤمن إلا بالكيانات الاقتصادية القوية المؤثرة في خريطة المصالح الاقليمية والدولية.