في 24 ايلول سبتمبر 2000 توفي يهودا عميحاي، أبرز شعراء العبرية في اسرائيل. وكما يليق بشاعر لا ينتمي الى جيل المحاربين فقط، بل أيضاً الى النخبة العسكرية الخاصة في قوات الهاغاناه، المعروفة بالبالماخ حضر جنازته كبار رجال السياسة في اسرائيل، إيهود باراك، رئيس الوزراء، مثلاً، فضلاً عن عسكريين وكتّاب اسرائيليين آخرين. كان يهودا عميحاي شاعر الإجماع في اسرائيل، أو "شاعر إسرائيل القومي" كما لم يكن يحب أن يسمى. وعلى رغم اسهامه الواسع في حركة التجديد الأدبي في اسرائيل من خلال رواياته وقصصه القصيرة التي كتبها منذ مطلع الخمسينات، فإن يهودا عميحاي المولود في المانيا عام 1924 والذي هاجر الى فلسطين مع عائلته في 1936 معروف على نطاق واسع بأنه أهم شاعر اسرائيلي يكتب باللغة العبرية. وفي شعره تبرز ملامح التجديد التي لم تقتصر على الأشكال الجديدة التي أدخلها على الشعر العبري متأثراً بشعراء أوروبا الكبار من أمثال هولدرين وريلكه في ألمانيا وإليوت وأودن في بريطانيا، بل وفي المضامين الوجودية التي طبعت كثيراً من أعماله. والروح القلق الذي يتبدى في قصائده، وهو قلق يتناقض في صورة خاصة مع صورة الشاعر التي برز بها لأول مرة في أواخر الأربعينات باعتباره كاتباً ينتمي الى جيل البالماخ، ذلك الجيل الذي ضم كتاباً وشعراء أوغلوا في تسييس الأدب وضيقوا مجال الرؤية الأدبية لتصبح في حجم طموحاتهم السياسية المتمثلة في إقامة الدولة اليهودية، وسعى بعضهم الى عسكرة الأدب من خلال تصوير الاسرائيلي كشخصية شجاعة باسلة أسطورية القوة لا تعرف الى الفشل سبيلاً. ومن أبرز شعراء هذا الجيل: ناتان أولترمان وبنيامين جلاي وأمير جلبوع وشلومو تاني وحاييم غوري وأفنر ترينن وأبا كوفنر. تميز هذا الجيل عن الجيل السابق عليه من الشعراء الاسرائيليين من أمثال أبراهام شلوفسكي وليا غولدبرغ وأوري غرينبرغ، في أنهم واصلوا الابتعاد عن النموذج الشعري الذي رسخه حاييم نحمان بياليك، والذي دمج الدعاوى القومية بالدعاوى التوراتية، مقدماً بذلك نموذجاً مختلفاً عن النموذج الأدبي الذي كان قدمه من قبل آحاد هاعام الذي ينتمي الى ما يمكن أن يسمى الصهيونية الروحية. وفي مقابل ابتعادهم عن بياليك كان أدباء البالماخ يقتربون من النماذج الأوروبية في الشعر كالشاعر ديلان توماس الذي أخذ منه عميحاي استخدامه لمصطلحات غير المكتملة والتلاعب بالألفاظ والمراوغة والتوهج الشعري. وترى الناقدة الأميركية جنيفر كلارفو أن عميحاي بالغ في تأثره بريلكه وخصوصاً مراثيه الى درجة تضمين قصائده بعض التشبيهات التفصيلية للشاعر الألماني الكبير، كما تأثر عميحاي أيضاً بالشاعر إليوت. على رغم أن هذا الأخير ومعه إزرا باوند يعتبر في اسرائيل شاعراً عنصرياً ومعادياً للسامية. شعره يعج بالأسماء والأماكن والأحداث والرموز التوراتية. ولا شك في أن عميحاي باستخدامه هذه الرموز التوراتية كان يعي تماماً انه بذلك إنما يقيم صلة مع القارئ الأوروبي تحديداً، الذي تشكل التوراة أحد المصادر الرئيسية لثقافته. لكن الجديد في هذا الشعر هو أنه كتب بالعبرية، لغة التوراة الأصلية القديمة، وهذا ما جعل بعض النقاد الأوروبيين ينظر بإعجاب ودهشة الى هذه الخاصية. أما هدف عميحاي الآخر من حرصه على الإصرار على حشو قصائده بالرموز والإشارات التوراتية فهو إقامة جسر بين الحياة في اسرائيل الجديدة، وبين ثقافة كان قيام اسرائيل في جزء أساسي منه انطلاقاً من أساطيرها. يقول في قصيدة "الملك شاؤول وأنا": أعطوه الاصبع كله، لكنه أخذ اليد كلها/ أعطوني اليد كلها، لكني لم آخذ حتى الإصبع الصغير./ وفيما كان قلبي/ يتحسس مشاعره الأولى/ كان هو يتدرب على قتال الثيران./ كانت نبضات قلبي مثل قطرات / تتساقط من صنبور ماء/ أما نبضاته فكانت مثل/ ضربات المطارق في بناء جديد./ كان أخي الأكبر/ وكنت أستخدم ملابسه. في هذه القصيدة يغوص عميحاي عميقاً في التاريخ الى عهد الملك شاؤول أول ملوك بني اسرائيل، ليقيم مقارنة بينه وبين الشاعر نفسه، لكنها مقارنة تستدعي ضمناً عدداً من المقارنات الأخرى بين اليهودي القديم، يهودي التوراة، وبين اليهودي الجديد، يهودي اسرائيل. في هذه المقارنة يبدو الملك شاؤول طموحاً "يأخذ اليد كلها إذا قدم له الإصبع"، وقوياً "يتدرب على قتل الثيران"، وقلبه من فرط قوته ينبض بضربات كالمطارق. أما اليهودي الجديد/ الشاعر فهو لا يحصل حتى على الإصبع الصغير إذا قدمت له اليد كلها. وفيما شاؤول يتدرب على قتل الثيران ينقاد الشاعر نحو مشاعره الأولى ليتحسسها. انه الأخ الأصغر لشاؤول العظيم. والعلاقة بينهما كما وصفتها القصيدة لا تتيح لليهودي الجديد/ الشاعر أكثر من استخدام ملابس أخيه الأكبر بعد أن يلقيها الأخير جانباً. كما ان هذه القصيدة تحمل مقابلة بين اسرائيل الجديدة واسرائيل التوراتية القديمة، وهي من أكثر الموضوعات شيوعاً في الأدب الاسرائيلي. تبدو اسرائيل القديمة طموحة، قوية، صناعتها البطش والقتل والتدمير. بينما اسرائيل الجديدة متواضعة الهدف، رقيقة المشاعر، وصورتها هي صورة مواطنها الجديد الذي يمثل جوهر شعبه، فهو متواضع، إنساني رقيق المشاعر حتى وهو يدخل لأول مرة مدينة احتلها بقوة السلاح مثل القدس: "في يوم الغفران في العام السابع والستين/ ارتديت بذلة سوداء/ ومضيت الى القدس القديمة/ وقفت للحظة، أمام واجهة دكان لعربي/ قرب باب العامود/ يبيع الأزرار والسحابات والأبازيم.../ قلت له إن أبي كان/ يملك دكاناً مثل دكانه/ يبيع الأزرار والخيوط/ وسردت له في سري/ أخبار عشرات السنين". هذه هي صورة القدس التي احتلتها اسرائيل عام 67 عند عميحاي، مدينة هادئة ساكنة لا أثر فيها للضحايا ولا لأعمال القتل وسفك الدماء ولا لأعمال التدمير التي نفذت بوحشية مرعبة، ولا لفجيعة الفلسطيني المهزوم، الذي تحول في القصيدة الى عربي باهت الملامح جالس في دكانه يبيع الخيوط والسحابات والأبازيم. وأهم من ذلك ان الدكان، وليس صاحبه العربي، يشبه دكاناً امتلكه يوماً والد الشاعر، الذي مثل العربي، كان يبيع الخيوط والسحابات والأبازيم، وذلك في ايحاء فج بأن دكان العربي هي نفسها دكان أبيه، وبذلك يتحول اليهودي الجديد/ الشاعر المحتل الى ضحية، ويجرد الفلسطيني/ العربي من كونه ضحية للاحتلال ويتحول الى مغتصب لدكان والد الشاعر، أي أن فعل الاحتلال على ما فيه من قبح وبشاعة ولا انسانية، يصبح ناقصاً حتى تعود دكان العربي الى "صاحبها الأصلي" الذي امتلكها يوماً ما في تاريخ يمتد "عشرات السنين" لا يتردد الشاعر في أن يسرد على العربي سيرتها. والبوابة الأوسع التي توصل الباحث الى صلب شخصية عميحاي الأدبية هي حقيقة كونه "بالماخيا"، أي انه في الأصل وقبل أي شيء جندي يكتب الشعر. يقول: "بين سن الثامنة عشرة والخامسة والعشرين وجدتني أدخل حربين، الحرب العالمية الثانية وحرب الاستقلال". و"حرب الاستقلال" هي حرب اغتصاب فلسطين في 1948، ويعتبرها عميحاي "حرباً عادلة". غير ان متابعة أدب عميحاي تشير الى أن تحولاً مهماً طرأ على شعره وفكره عبر السنين، ولكن في الوقت الذي تطور شعره في صورة ايجابية "بفضل" ابتعاده التدريجي عن اليقين الذي ظل يطبع شعره حتى أواسط الخمسينات، فإن فكره السياسي والايديولوجي لم يتطور بالدرجة نفسها التي تطور بها شعره. جاء التحول في شعر عميحاي مع افتراقه عن رفاقه البالماخيين الذين كانت أشعارهم أسلحة يوظفونها في "معاركهم" الأدبية. وربما كان المثال الأبرز على نمط الكتابة "البالماخية" إن جاز التعبير ما جاء في قصيدة "المسامير" لناتان آلترمان وهو من أشهر شعراء جيل البالماخ، وكثيراً ما يذكر اسمه الى جانب اسم عميحاي "بها نقوي الجدار/ وبها نشيد المباني/ وبها يغرسون أفكار القتل/ لمحو الانسان". "المسامير" المقصودة هنا هي تلك التي كان الفلسطينيون يلقونها تحت عجلات عربات القوات الصهيونية في الثورة الفلسطينية الكبرى 1936/ 1939. ويلخص عميحاي افتراقه بقوله إنه انتقل من الكتابة عن "نحن" الى الكتابة عن "أنا". فيكتب في قصيدة شهيرة عن القدس: "على السطح في المدينة القديمة/ غسيل منشور في شمس العصر المتأخرة/ بياضات امرأة هي عدوتي/ ومنشفة رجل هو عدوي/ ليجفف بها العرق عن جفونه./ في سماء المدينة القديمة/ طائرة ورقية/ في طرفها الآخر/ طفل لا أراه/ بسبب الجدار،/ لقد رفعنا أعلاماً كثيرة/ لقد رفعوا أعلاماً كثيرة/ لجعلنا نعتقد انهم سعداء/ لجعلهم يعتقدون اننا سعداء". ومع اندلاع انتفاضة الحجارة في فلسطين في العام 1987 يجلس عميحاي ليكتب عن انعدام اليقين، وعن اختلاط الأوراق، وعما يعتبره حرب الجميع ضد الجميع: "انهم يقذفون الحجارة/ انهم يقذفونني بالحجارة/ في 1936 وفي 1938/ وفي 1948 وفي 1988./ ساميون يقذفون لا ساميين/ ولا ساميون يقذفون لا ساميين/ أشرار يقذفون وأخيار يقذفون/ آثمون يقذفون وخاطئون يقذفون". لا حدود واضحة لدى عميحاي في هذه القصيدة، والقلق الذي يبدو انه يساور روحه تحول الى شك في كل شيء، وأسفر عن ارتباك قبل أن ينتهي الى عجز عن تمييز الشيء من نقيضه، وبدا عميحاي بلا حيلة أمام طوفان الحجارة الذي تمخضت عنه الانتفاضة الفلسطينية. لكن هذا كله لم يترجم الى موقف سياسي واضح من الشعب الفلسطيني وقضيته لدى البالماخي القديم، ففي بداية الانتفاضة الفلسطينية الأولى 1987 ارتفع صوت عميحاي مع غيره من أدباء إسرائيل ومثقفيها، يطالب "بتخليص اسرائيل من نفسها" كما جاء في رسالة الى الحكومة الاسرائيلية. غير أن انتقاده لحكومات بلاده لم يصل الحد الذي وصل اليه أدباء آخرون من جيله يزهار سيميلانسكي، أو عاموس كينان، ولا هو وصل الى الحد الذي ذهب اليه أدباء اسرائيل "الشباب" عاموس عوز أو أ.ب. يهوشوا وذلك على رغم اشتراكه معهما في تأييد حزب العمل الاسرائيلي. وذكرت مجلة "لقاء" التي يشارك في اصدارها كتاب وأدباء فلسطينيون ويهود من دعاة السلام في اسرائيل، انه قال يوماً في اجتماع لجمعية الكتّاب الاسرائيليين "إنني لا أشعر بأي عطف تجاه الذين يريدون إلقائي في البحر"، وأضاف عميحاي كما تقول المجلة "الشعب الفلسطيني هو العدو الحقيقي لإسرائيل... وحتى الاسرائيليين الأكثر فاشية... لم يصل تطرفهم الى حد تطرف الفلسطينيين". قبل اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة بأيام رحل عميحاي، وكان لافتاً في الجنازة حضور مستشار الأمن القومي الاسرائيلي الميجور جنرال عوزي دايان بلباسه العسكري وقال كلمة جاء فيها "إن عميحاي كان شاعراً وبالماخياً وانسانياً ثورياً". وقال باراك الذي خدم هو الآخر في وحدة عسكرية خاصة مثل عميحاي، في كلمة الرثاء التي ألقاها على قبره "إن عميحاي كان يرفض خلال حياته أن يناديه أحد بالشاعر القومي لإسرائيل، لكننا الآن بعد رحيله يمكننا أن نناديه باللقب الذي يستحقه". أما يوسي ساريد، رئيس حزب ميرتس اليساري فقال "إن عميحاي كان رئيس أركان حرب استقلال اللغة العبرية. لقد بقي حتى آخر أيام حياته إبناً بارّاً للمؤسسة العسكرية الاسرائيلية". * كاتب أردني.