بدأ الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش يواجه المتابع في السنوات الاخيرة. فقد بات يقرأ اليوم قراءة نقدية فظة يتميز فيها الشعر عن الشاعر والشاعر عن القضية التي التصقت به وهي القضية الفلسطينية. والمقصود من مثل هذه القراءة تقييم الشاعر تقييما موضوعيا بحثا من اجل وضعه في مكانه الصحيح على خريطة الشعر العربي في القرن العشرين. ولم يكن هذا هو حال محمود درويش مع نقاده ومع قرائه ايضا منذ غادر وطنه فلسطينالمحتلة الى الاتحاد السوفياتي ثم الى مصر ولبنان لاحقا. لقد نظر اليه يومها مظاهرة ثقافية ووطنية وكشاعر فلسطيني وعربي كبير واكتسب لاحقا حصانة معنوية وسياسية جعلته ايقونة العمل الفلسطيني وقد تولى مسؤوليات ومهام فلسطينية شتى منها تعيينه وزيرا للثقافة وكتابته، كما قيل اتفاق اوسلو ونظر اليه كمرجع فلسطيني ذي شأن. وكل هذا جعله احيانا بمنأى عن النقد الذي يخضع له الشعراء عادة هذا ان لم نقل انه كان محميا عن النقد نظرا لتعذر الفصل لسبب او لآخر بينه وبين اللقب الذي غلب عليه وهو «شاعر القضية الفلسطينية». على ان الواقع هو ان محمود درويش لم يسلم من تلقي السهام القاسية حتى وهو بيننا فعندما قبل في عام 1986م دعوة صدام حسين لزيارة العراق حين اعلنت بغداد مقرا للامانة العامة للادباء العرب وزارها تلبية لهذه الدعوة وجه اليه المفكر والباحث العراقي هادي العلوي على صفحات مجلة «البديل» الصادرة عن رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديموقراطيين العراقيين، رسالة مفتوحة تحت عنوان «إلى محمود درويش» ورد فيها في جملة ما ورد: "الالتزام في الثقافة سياسي واخلاقي، وغاية ما يطلب من المثقف هو ان لا يخلع نفسه اي ان لا يتنازل عن سلطته للحاكم وانت يا محمود درويش تنازلت عن سلطتك ليس لحاكم وانما لبلطجي وذهبت في هذا الى مدى بعيد حتى لقيت مجرما عاديا من جهاز الامن وزيرا للشعراء وحضرت الى مدينة منكوبة بكثرة اراملها وقلة رجالها ووقفت فوق اكوام الجثث لتمجد بلطجيا يعيش على دماء البشر مهلا ايها الشقيق عن شتم اخوانك الاحرار صن حكمتك. ان الشاعر الكبير قد يعقل عن حساسيته في لحظة ما، لكن يستهل ان يفقدها عد الى مكانك ايها الشاعر الكبير فقد غرروا بك". دشن كثيرون من الفلسطينيين مثقفين وسياسيين حروبا عليه فبسبب التصاقه بأبو عمار وسائر الفلسطينيين الرسميين رسم الفنان الفلسطيني ناجي العلي رسما كاريكتاتوريا له ووضع تحته عبارة: «محمود خيبتنا الاخيرة» وبسبب عدم «صلابته الوطنية» في بعض المراحل واعلانه في شعره كما في نشره، ايمانه او اعترافه بالكيان الاسرائيلي وقف قطاع كبير من الفلسطينيين موقفا سلبيا حادا منه صامتا حينا وناطقا حينا اخر والى اليوم مازال هؤلاء الفلسطينيون شديدي التحفظ تجاه مواقفه الاسرائيلية هذه. وقد وصل الامر ببعض هؤلاء الفلسطينيين الى مطاردته بعنف في دراسات كتبوها حول بعض جوانب ضعفه او سيرته من هؤلاء الباحث احمد اشقر الذي نشر كتابا عنوانه «التوراتيات في شعر محمود درويش من المقاومة الى التسوية« هدف منه الى ادانة موقف درويش السياسي وبالتالي ادانة درويش نفسه لانه تحول في رأي الباحث من المقاومة الى التسوية وصار شعره يعبر عن هذا التحول. وفي نيسان 2012م نشر الشاعر الفلسطيني موسى حوامدة مقالا بعنوان محمود درويش والتوراة ذكر فيه ان الأثر التوراتي في شعر محمود درويش قد استوقفه وتساءل: «هل كان درويش يعتبر التوراة احد مصادره الشعرية» وقال حوامدة عن درويش ان القدرة «اثرت فيه وعليه الى درجة الاستلاب» ثم تساءل مرة اخرى»: «هل وقع (درويش) تحت سطوة الادب العبري، والتوراة بالتحديد؟» وقال «ان درويش نقل مقاطع كاملة من التوراة باعتبارها من تأليفه، اي من دون اشارة الى المصدر، لا من قريب ولا من بعيد» وجاء بمقاطع من «جدارية محمود درويش» وقارنها بنصوص التوراة دعما لرأيه. ونقل حوامدة عن القس متري الراهب مفاده ان درويش كان متعلقا بسفر الجامعة في التوراة وكان ملما بالعهدين القديم والجديد الى درجة ان الراهب وصفه بأنه كان «لاهوتيا».. وختم حوامدة مقاله بالقول: ان الاثر التوراتي في شعر درويش لا يحتاج الى دليل فقد قال هو نفسه ذات يوم «لقد قرأت التوراة بالعبرية، واحيت ركاكة بعض الترجمات العربية». ولم يعدم محمود درويش من دافع عن توراتياته هذه فالباحث العراقي سامي مهدي ذكر في معرض تقنية لما قاله عنه موسى حوامدة (في كتابه آفاق نقدية) ان من يقرأ شعر درويش قراءة شاملة فاحصة لا يجد فيه هذا التأثر الذي وصفه حوامدة فمرجعية محمود درويش الثقافية مرجعية عربية، وليست توراتية ومصادره الثقافية عديدة وغزيرة ومتنوعة عربية واجنبية قديمة وحديثة وهذا ما تدل عليه عامة كتاباته وخاصة شعره وما فيه من تناصات واحالات ورموز واشارات كثيرة قريبة وبعيدة ولاسيما في طوره الشعري الاخير وما التوراة الا مصدر واحد من جملة مصادره التي لا تحصى وقد سجلت اكثر من اربعين تضمينا واحالة واشارة الى نصوص ورموز وأسماء عربية واجنبية في (جداريته) وحدها. وهذا مما يدل على سعة ثقافته وبعد افقه حتى ليبدو القول بأن التوراة اثرت على درويش الى درجة الاستلاب ضربا من التعسف. ولم يشر سامي مهدي الى توراتيات كثيرة اخرى في شعر محمود قبل (الجدارية) وبعدها ولا الى النفس التسووي المبثوث لا في قصائد منفردة منعزلة بل في دواوين مثل ديوان (حالة حصار) الذي تطغى عليه الروح الحوارية مع الاسرائيليين وتوبيخهم على الرعونة والهمجية اللتين يواجهون بها الفلسطينيين الساعين الى اقامة دولتهم على جزء من الضفة الغربية والقدس ثمة اكثر من نص في هذا الديوان يخاطب فيه الشاعر قائلا اسرائيليا على ما يرتكبه من مظالم تجاه «بلاد على اهبة الفجر» ويقصد بها الدولة الفلسطينية التي كان كثيرون يتوقعون في تلك الفترة (بدايات 2002م) ولادتها وعطل اليهود هذه الولادة من هذه النصوص هذا النص الذي يوبخ به الشاعر قائلا اسرائيليا: لو تركت الجنين ثلاثين يوما، اذن لتغيرت الاحتمالات قد ينتهي الاحتلال ولا يتذكر ذاك الرضيع زمان الحصار، فيكبر طفلا معافى ويصبح شابا ويدرس في معهد واحد مع احدى بناتك تاريخ اسيا القديم وقد يقعان معا في شباك الغرام وقد ينجبان ابنه (وتكون يهودية بالولادة) ماذا فعلت اذا؟ صارت ابنتك الان ارملة والحفيدة صارت يتيمة ماذا فعلت باسرتك الشاردة وكيف اصبت ثلاث حمام بالطقة الواحدة هذا هو الشعر «التسووي» الذي اخذه عليه خصومه والذي يدعو الى التفاهم والتقاسم في فلسطين وهو شعر يتعارض تماما مع الموقف الذي ينبغي ان يقف الفلسطيني من غزاة اغتصبوا ارضه وبلاده وشردوا من شردوا من اهلها في الآفاق وفرضوا على من تبقى منهم فوق ارض فلسطين نظاما شبيها بنظام الذمة والعبودية الذي كان معروفا في القرون الوسطى محمود درويش في مثل هذا الشعر يبحث عن تسوية مع عدو شعبه ويدعوه للتفاهم والتعايش. بالطبع لمحمود درويش شعر اخر صاف كل الصفاء في فلسطينيته وعروبته، لا تنقصه ذرة من الفلسطينية والعروبة في هذا الشعر يعتبر محمود درويش الاسرائيليين «عابرين في كلام عابر» وزائلين طال الزمان ام قصر. فكيف نفسر هذا التناقض الواضح في موقفه من هؤلاء الغزاة؟ الواقع ان حالة الاستلاب التي اشار اليها الباحثان الفلسطينيان احمد اشقر وموسى حوامدة عليها ادلة كثيرة سواء في شعر محمود او في مواقف سياسية وثقافية كثيرة له من اسرائيل. لقد تحدث هذان الباحثان عن «سطوة» ربما خضع لها الشاعر زمن نشأته في فلسطين تجاه هؤلاء الغزاة وما يملكونه من قدرات وامكانات لاستمالة خصومهم والى هذه «السطوة» يمكن ان نضاف الرهبة او الرعب الذين لم يشف منها والوصول بالتالي الى فلسطينية خالصة ملتزمة فقط بفلسطين العربية كما هي مستقرة في التراث الفلسطينية والعربية ويبدو ان سنواته الطويلة في «راكاح» الحزب الشيوعي الاسرائيلي وتأثير مرشده الروحي اميل حبيبي وهو رمز راكاحي تهود تهودا تاما في سنواته الاخيرة مسؤولان الى حد بعيد من استقرار نظرة خوف او مراعاة او عدم قطع صلة له باليهود كانت تطل احيانا في شعره او مواقفه وقد زار اسرائيل في سنواته الاخيرة وحضر حفلا في حيفا سئل خلاله عن «راكاح» فاجاب بكل فخر: «راكاح حزبي» ومن يكون «راكاح» حزبه لا يمكن ان تكون فلسطينه هي فلسطين العربية المعروفة، بل فلسطين مطالب نقابية وعمالية وما الى ذلك. والغريب ان صديقه وزميله في «راكاح» الشاعر سميح القاسم كان ايضا من دعاة التسوية مع الاسرائيليين مستندا الى ما لا يحصى من الحجج منها المجتمع الاندلسي الذي تعايش فيه العرب مع اليهود ويبدو ان «الراكاحيين» كلهم من هذا النوع حتى ولو ظهرت في اشعارهم احيانا مواقف حادة الوطنية. قد يقول قائل ان هذه النزعة التسووية التي يأخذونها عليه لها اسم اخر هو «النزعة الانسانية» فمحمود درويش شاعر انساني النزعة على غرار شعراء عالميين كثيرين مثله. ولا يمكن لمثل هذا الشاعر ان يدعو الى رمي اليهود في البحر، كما كان يدعو أحمد الشقيري او سواه من الزعماء العرب في الماضي. فمثل هذه الدعوة تجيب عطف العالم عن قضيته. إن معالجة مثل هذه الجوانب الدقيقة والحساسة في سيرة الشاعر الكبير محمود درويش وشعره تتطلب نقدا جريئا وموضوعيا في آن. لقد أفرزت السنوات الاخيرة نقادا كثيرين تعاملوا مع محمود درويش تعاملا نقديا فظا او خشنا لعله النقد الامثل الذي يحتاجه الشاعر الكبير بعد مرحلة «الدراسات الاخوانية» التي تناولته محمود درويش بحاجة الى قراءة لشعره من دونه ومن دون القابه، فيها يتميز الشعر عن الشاعر ويتميز الشاعر عن القضية ويتحرر البحث من المشاعر. قراءة تضعه حيث ينبغي ان يكون في النصاب الشعري وفي التاريخ الادبي والثقافي العربي المعاصر.