حين تُلقي عليك التحية ببساطتها المُلفتة وهدوئها الرصين، ربما يخيل اليك أنك في حضرة امرأة عانت أوقاتاً عصيبة وتألمت، فضعفت لشدة عذاباتها. إلا أنك عندما تتعرف اليها لا بدَّ أن تلحظ في نظراتها الواثقة، وأن تلمس من نبرة صوتها قوةً وجرأةً أكيدتين. ولا بدَّ أن تشعر بعنفوانها وعزة نفسها حين تُحدثك عن معنى المعاناة والتضحية لأجل القضية. وكأن أم علي الديراني زوجة الأسير مصطفى الديراني، المسؤول العسكري السابق للمقاومة المؤمنة والذي خطفته اسرائيل عام 1994 وما زال في الأسر حتى اليوم، وكأنها قد شربت من كأس زوجها المفعم بالعزيمة والمجالدة، والمكابرة حتى أصبحت صورةً مطابقة عنه في أفكارها وسلوكها. وهي تأبى أن تصوّر مأساة الأسرى وكأنها قضية استجداء أو استعطاف الرأي العام العالمي لاطلاقهم بداعي الشفقة، بل تُصرّ بقوة ايمانها ورجائها ان الظلم لا بد أن ينجلي، وأن الحق لا بد أن ينتصر. أم علي الديراني، في العقد الرابع من العمر، تراها وفي غياب الحاج مصطفى وبعد مرور ست سنوات ونيف على اختطافه، تنعم اليوم بالأمل والرجاء ان النهار الذي سترى فيه زوجها ورفاقه الأسرى محررين هو آتٍ قريباً. وهي تقول انه "قبل اختطاف الجنود الإسرائيليين أخيراً كان شعور اليأس يحبطنا، أما الآن فأملنا كبير بتحرير سائر الأسرى العرب معاً، لأننا في خندق واحد وفي سبيل قضية واحدة". إلا ان هذا التفاؤل التي تعيشه أم علي اليوم لم يمحُ من ذاكرتها ذكرياتٍ موجعة وآلاماً ترسمت في أعماقها فرافقتها سنوات طوال، حتى باتت تشكل لديها اضطرابات نفسية، من الصعب أن تزيل الأيام عواملها وتأثيراتها. وتقول انها لا تتمنى لأحد أن يعاني هذه الحالات الصعبة التي مرَّت بها. الليل طويلٌ وشاق لأم علي، فهو يُشعلُ هواجسها ويثير مخاوفها ويؤجج صراعاتها الداخلية. وعندما يهبط الظلام تصبح أم علي أسيرة القلق داخل جدران منزلها. فالعتمة تهدد مخيلتها بالأفكار السود. وهي تؤكد انها لم تعرف النوم في السنين الأولى على اختطاف الحاج وقد عانت من مشكلة الأَرق المزمن، وحتى إذا خلدت الى النوم بعد جهدٍ جهيد كانت تغفو لتعود وترى كوابيس مزعجة الى حدٍ ان الأحلام السود أصبحت رفيقها المعتاد فقررت أن تلجأ الى عالم دين ليساعدها على تخطي مرحلة اللااستقرار النفسي. وتقول: "كنت أتصور مشاهد العنف التعذيب التي يتعرض لها زوجي مراراً. ولم تكن هذه الصور تفارق مخيلتي حتى انني كنت أشعر معه وهو يتألم وهو يتعرض للإهانات، كانت الأفكار التي تراودني مؤلمة جداً. حتى ان الضغط النفسي المتواصل الذي تعرضت له أنهك قواي وجعلني أشعر بأنني مشلولة. إلاّ أنني لم أجد الراحة سوى في الصلاة وقراءة القرآن وهذا ما أقوم به دوماً عندما أكون مضطربة نفسياً". ولكن إذا وجدت أم علي سبيلاً للتخلص نوعاً ما من أفكارها السود فكيف تعاملت مع الأخبار التي ترددت في آذار مارس الماضي حول مسألة اغتصاب زوجها على يد المحققين الإسرائيليين في السجن؟ وكيف ردَّت على أسئلة أولادها الخمسة المحرجة حول هذه المسألة؟ تؤكد أم علي: "ان شيوع هذا الخبر الذي لم تتأكد صحته حتى اليوم أعادنا أنا وأولادي الى أجواء الرعب والى لحظات حادثة الاختطاف التي شهدتها أنا وابنتَي، وكم حاولت بكل قواي أن أُنسيهم هذه الحادثة المرة، فابنتي "طيبة" ضربها الإسرائيليون في تلك الليلة على رأسها، وعانت من نزيفٍ داخلي حاد وهي تحتفظ بذكريات أليمة جراء ذلك. وحتى اليوم "طيبة" واختها الصغرى "سارة" لا يمكنهما ان تتنقلا في المنزل ليلاً من غرفة الى أخرى من دون أن أرافقهما". وتتابع أم علي القول: "تأثرت كثيراً بهذا الخبر المؤسف واللاانساني وتألمت خصوصاً لأن الأولاد عرفوا بتفاصيل الأمور. ثم فكرت بالطريقة الأفضل لمساعدة زوجي في الأسر والتحقق من صحة هذه الأخبار التي قد يراد منها الضغط لدفعنا الى الاستسلام لمطالب اسرائيل. بأي حال أثار ذلك جواً من البلبلة داخل منزلنا الذي تحوَّل الى مجلس عزاء وبكاء عشية عيد الأضحى. وقد طُبِعت مجدداً مخيلة أولادي بتلك الصور البشعة والعنيفة. حتى أن "طيبة" ولدى سؤالها في المدرسة عن كيفية تمضية عطلة الأعياد خلال امتحان باللغة الانكليزية أجابت: What a Sad and bad Day، أي: يا له من يوم حزين ومجنون!! نعم هذه الأخبار سلبت منها بهجة العيد وأعادتني شخصياً الى دوامة الحزن". ومن يراقب أُم علي كيف تتحدث الى ابنها البكر "علي" وأخيه الأصغر "محمد" يرى في هذه المرأة قدراً كافياً من الحكمة في التعامل مع شباب بعمر يعتبر دقيقاً وصعباً، وهي تقول: "أنا حريصة جداً في الحفاظ على الأَمانة وتسليمها كما أخذتها من زوجي. وكم كانت المسؤولية صعبة بالنسبة إليّ إذ أريد أن يجد الحاج أولاده، عندما يعود كما يُحِب، بالصورة التي أرادها لهم وهي الالتزام الديني الإسلامي والجهاد وضرورة تحصيل العلم". وتتابع أُم علي: "انعكست هذه المحنة على نفسية أولادي الشباب. فابني البكر لا يكفُّ عن طرح الأسئلة ملحاً حول مصير والده، وكان يستفيق ليلاً وهو يبكي ويقول انه مشتاق الى والده. يُظهر ردود فعل مؤلمة وانفعالات حادة، ما كان ينعكس سلباً عليّ. فالشباب ليس لديهم نعمة الصبر وحكمة الأم لاستيعاب الظلم وكم كانت محاولاتي كثيرة لاقناعه بضرورة الصبر. أما أخوه الأصغر فهو مرهف الحسّ وهو يلجأ دوماً الى كتابة نصوص حنين الى والده وهو يبكي بمجرد التفكير به". وكيف تفسر أُم علي غياب الوالد عن أولاده وكيف تردُّ على السؤال المعتاد متى يعود البابا؟ فتقول: "أحاول دوماً تهدئة خواطرهم وبث روح الأمل لديهم. وأحرص من باب الأمانة أن أبقي الحاج موجوداً في تفاصيل حياتهم. فمثلاً عندما نجلس لتناول الطعام نبقي كرسياً فارغة له. كما أراقب تصرفاتهم لأَطلعَ على مخاوفهم. فمثلاً وجدت في أَحد الأيام في مفكرة "سارة" صوراً لوالدها، رسمت بجانبها عيونها والدموع فيها ثم كتبت اليه: "أنا أنادي البابا وأنت لا تسمعني أنا أحب أن أناديك يا بابا وان شاء الله بتجي بالسلامة". سلمت هذه الرسالة الى الصليب الأحمر في محاولة لإيصالها الى الحاج في السجن، ولكن ويا للأسف لم يصل شيء، فالحاج هو الوحيد الذي مُنِعت عنه زيارات الصليب الأحمر وتبادل الرسائل. وحتى اليوم لا أعرف شيئاً عنه منذ العام 1994 إلا عندما ظهر على التلفزيوني منذ فترة في المحكمة الإسرائيلية، فاطمأنت الى ابتسامته وقرأت في كلامه "نحن دائماً على حق والحمدلله" رسائل كثيرة تعبر عن صبره وعنفوانه". منذ ست سنوات ونيّف لم تعرف أُم علي عن زوجها الا معلومةً واحدة وغير أكيدة عبر أحد الأسرى المحررين في سجن الصرفند، وهي أنه يتناول وجبة واحدة في اليوم، وهو منقطع عن أكل اللحوم ومكتفٍ بأكل البطاطا والبيض والخضار والفاكهة. حنين الى الوالد الأسير آلام وعذابات تحيط بك يا والدي وأنت في أسرك بعيداً عن الأهل والأحبة جسداً، ولكنك قريب منهم روحاً ووجداناً. إنك يا والدي الطيب صنعت المجد والعزة لأمتنا، كنت وما زلت القدوة لكل مجاهد آمن بالشهادة ولكل عابد آمن بالله وما زلت القوي والأقوى في هذا الكون، إنك قويٌ بإيمانك وعزيمتك. فالجراح التي في جسدك تشهد على هذا القول، لأنها عايشت مسيرتك الجهادية التي على رغم هذه الجراحات تابعت مسيرتك التي كانت تؤدي الى أربعة طرق: الأول وهو الفوز الكبير بالشهادة. الثاني وهو الجرح، فرع من الشهادة. الثالث وهو عذاب الروح وحجز الحرية. الرابع والأخير وهو الذي وعدنا به الله، النصر. لكن الله أرادك أن تكون جريحاً، من ثم أرادك ان تكون أسيراً. ولكنك أيضاً ذقت طعم النصر وأنت في أسرك. أخيراً لا يسعني القول إلا كما قال الشاعر: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر محمد الديراني