اتصلت بقائد ميداني فلسطيني في غزة لأسأله عن سير الانتفاضة، وفوجئت به يتحول نحو الاقتصاد الفلسطيني فيشتم ويعتذر، ثم يشتم ويعتذر، ويستغفر ربّه، ثم يقول ان الاسرائيليين لم يقدروا عليه ولكن العرب سيجعلونه "يفقع". وقال الرجل انه غير معني بما يصل الى السلطة الوطنية من دعم مالي او لا يصل، الا انه يعرف ان المواطنين لم يتلقوا شيئاً يمكّنهم من الاستمرار في الانتفاضة بما ان الحديث عن العرب والمسلمين، فيجب تسجيل ان المملكة العربية السعودية دفعت 30 مليون دولار وصلت فعلاً، وان الرئيس صدام حسين أوصل الى كل من أسر الشهداء، عن طريق جبهة التحرير العربية، عشرة آلاف دولار، او خمسة آلاف، كذلك سمعنا عن سلفة عاجلة بمئة مليون دولار ننتظر مع الفلسطينيين ان تصل اليهم. المسؤول هذا قال ان الانتفاضة ستستمر "حتى نخلص من الاحتلال" وهي قد تهدأ يوماً، وترتفع وتيرتها يوماً آخر، الا انها ستستمر. واضاف ان الاسرائيليين يتحدثون عن مدى سيطرة الرئيس عرفات على الشارع الفلسطيني لمجرد تحويل الانظار عن حقيقة الخلاف بين الحكومة الاسرائيلية والجيش، فقد وقعت حوادث عدة من نوع قتل رجال الشرطة الفلسطينية في جنين، اظهرت ان هناك في الجيش الاسرائيلي قادة يتصرفون بعقلية "رعاة البقر" ويعتقدون انهم يستطيعون فرض الموقف الاسرائيلي بالقوة. القائد الميداني الفلسطيني قال "لن نبكي امام العنف الاسرائيلي، وسنرد وسنصمد"، واضاف ان ذلك لن يكون بفضل الدعم العربي الذي لم ينل الفلسطينيون منه حتى الآن سوى "السمعة"، فبعض المواطنين يعتقد فعلاً ان السلطة الوطنية تلقت بليون دولار، ويسأل كيف صُرفت هذه الاموال. شخصياً أغلب حسن الظن، وأرجح ان الدول التي تعهدت بالدفع ستدفع، وان المشكلة هي في الجهل او التقصير، لا سوء النية. ولا اجد سوى الجهل والتقصير تفسيراً، وانا اسمع عن لجان ستشكل وآلية ستوضع، كأن الدنيا، بمن فيها ابطال الانتفاضة والجيش الاسرائيلي، ستأخذ اجازة الى ان يتدبّر العرب أمرهم. وحتى لو افترضنا جدلاً ان الامور حُسمت اليوم، فإن فهم المطلوب، اذا حكمنا على المعلومات المتوافرة، يظل خاطئاً لان المطلوب هذا ليس بناء اقتصاد بلد عادي كبلدان الناس، وانما دعم اقتصاد حرب… يعني ليس المطلوب الآن انشاء شبكة للمجاري، او بناء مصانع، وانما تمكين الشعب الفلسطيني من الاستمرار في الانتفاضة حتى تنسحب اسرائيل من ارضه. بكلام آخر وبمثل يغني عن شرح او مثلين، دمّر او اصيب 320 منزلاً في بيت ساحور وحدها، وهناك 12.500 جريح حتى الآن منهم حوالى سبعة آلاف بحاجة الى أسرّة في المستشفيات، اي الى ثلاثة او اربعة مستشفيات كبيرة، وهذا غير متوافر في اي بلد عربي كبير او مستقر، ناهيك عن توافره تحت الاحتلال الاسرائيلي. الخطأ يتضاعف مرة لاننا في شهر الصوم الكريم، ويتضاعف مرة اخرى لأن الذين ساندوا انتفاضة الاقصى حتى اليوم هم الاوروبيون والاميركيون، وهذا شيء اكيد على غرابته وأشرحه بهدوء للقارئ حتى يزول اي غموض. معظم دخل السلطة الوطنية الفلسطينية هو من حصتها من الجمارك والضرائب التي تحولها اليها اسرائيل لأنها تجمع حصّة الفلسطينيين مع حصتها، وكانت هذه بحدود 25 مليون دولار في نهاية كل شهر وثلاثة الى اربعة ملايين دولار كل اسبوعين، توقفت كلها منذ بدء الانتفاضة، اي انه لم يبق عند السلطة ما تدفع به مرتبات الموظفين ورجال الشرطة، وهؤلاء لا يستطيعون بالتالي شراء الطعام لأسرهم. ونستطيع ان نقول بثقة انه لا يوجد جوع حتى الآن، الا انه لا يوجد شيء آخر، غير الموت. والعون الوحيد خارج الاستثناء الذي سجلته في الفقرة الثانية من زاوية اليوم جاء من الاتحاد الاوروبي على شكل 28 مليون يورو، اتبعها اخيراً بعشرة ملايين يورو، ثم من البنك الدولي الذي قدّم للفلسطينيين منحة بمبلغ 12 مليون دولار، امرها عجيب فعلاً لأن البنك يملك اموالاً هي حصص الدول المشاركة فيه، وهو يقرض هذه الاموال بالفائدة، الا انه في الموضوع الفلسطيني تبرع من ماله الخاص. وأقدّر ان القارئ العربي المسلم يقرأ في رمضان ويستغرب، وقد استغربت مثله، وتحققت من معلوماتي باتصالات مع رام اللهوغزة، ودمشق حيث اجتمع وزراء الخارجية العرب، وواشنطن حيث مقر البنك الدولي. واستطيع ان أزيد عليها معلومة اكيدة اخرى هي ان الاتحاد الاوروبي رصد 90 مليون يورو اخرى لدعم الاقتصاد الفلسطيني. ويركز الدعم الاجنبي على "التشغيل الطارئ"، اي ايجاد اعمال بديلة للفلسطينيين الذين منعوا من العمل في اسرائيل، او تعطّل عملهم داخل الاراضي الفلسطينية، لتأمين دخل محدود لهم، فلا تجوع أسرهم. ماذا أزيد؟ الدعم الشعبي العربي والاسلامي لأبطال الانتفاضة، كان هائلاً، جعل الواحد منها يفخر بانتمائه، ومع ذلك يموت اطفال الانتفاضة وحدهم في رمضان. وهكذا أترك القارئ مع صورة فارس عودة يقف في وسط الطريق ويرمي دبابة اسرائيلية بحجر في أول الشهر الماضي، ويستشهد بعد ذلك بتسعة ايام فقط. ولكن ارجو القارئ الا يتوقف عند فارس بل يكمل معي ليسمع أمه السيدة انعام عودة تقول: أنا فخورة بأن يُقال عن ابني انه بطل وقف في وجه دبابة… إلا أنني عندما أرى زملاءه من المدرسة، لا أملك سوى ان أبكي… أخشى ان يكون فارس مات من أجل لا شيء… ان تعود الأمور الى سابق عهدها، وان كل ما حدث هو انني فقدت ولدي...