أشدّ ما لفت إنتباهي الى مدى ضلوع الكتابة في تسويغ مباشرة العنف ودوامه، مخطوطة سيرة ذاتية بلغت متناولي قبل وقت غير بعيد. وهذه سيرة ما جرى لشاب فلسطينيّ قضى بضعة اعوام سجيناً سياسياً لدى نظام عربيّ ذائع الصيت بما يجري في اقبية وزنازين سجونه من فظاعات. وصاحب السيرة يصف، بل يُسهب في وصف، ما أُنزل به، وما شهده، من صنوف إساءة المعاملة تقشعر لذكرها الابدان وترتاع منها النفس. غير ان ما يتجنب الكاتب الإشارة إليه، الاّ في مناسبات قليلة وعابرة، هو ما احسّ به من ألم، او ما كان يدور في نفسه من مشاعر وبخلده من خيالات وخواطر، وفي النهاية، ما عنى الامر بالنسبة له كإنسان ذي ارادة وكرامة. والمرات القليلة التي ترد فيها اشارات من هذا القبيل هي في تلك التي تأتي على لسان الطبيبة البريطانية التي عالجته بعد خروجه من المعتقل. وعزوفٌ عن الافصاح كهذا قد يُعزى الى كبرياء رجل ينتمي الى ثقافة تزدري الإعراب عن المؤلم من المشاعر. بيد ان اختيار الكاتب السيرة الذاتية، دون غيرها من اشكال الكتابة، وسيلة لتسجيل ما عانى وشهد، يناقض مثل هذا الافتراض. فالسيرة الذاتية، خصوصاً اذا ما أُخبرت من موقع ضحية تعذيب، لا مناص لها من سلك سبيل البوح او الافضاء بما هو داخليّ او نفسيّ. ولكن، بما ان الكاتب يحاول مثل هذه السيرة، وفي الوقت نفسه يمتنع عن الافصاح، فمن المرجح انه، كضحية، شاء من خلال الكتابة التوكيد على حقه في المباشرة، او الانضواء في الفعل، بعدما كان محض كائن سلبيّ معدوم المشيئة. فمن خلال معاملته كموضوع للعنف فحسب، حال جلادوه دونه وان يكون فاعلاً. غير انه ما ان تسنى له الانعتاق من اسر جلاّديه، حتى سارع الى رهن دوره كفاعل بالدعوة الى ممارسة العنف ضد الآخرين، او في اقل تقدير، تبرير عنف مرجو بحقهم. ففي استنكافه عن الافضاء بما انطوت عليه دخيلته، والاستعاضة عن ذلك في الاسترسال في وصف ما اقترفه الآخرون بحقه، إسترسالاً لا مسوّغ له الاّ الرغبة في ادانتهم، ومن ثم الدعوة الى استخدام العنف ضدهم، ثمة ما يدل الى امتناع عن ممارسة حقه كفاعل حرّ، والمشاركة التامّة، وقد امسى في وسعه الفعل، والاستعاضة عن ذلك بالشكل المتطرف للفعل. وليس في هذا تبرير للعنف وحسب وانما تبرير لدوامه. فالاكتفاء بممارسة المتطرف من الفعل، وانما هو تكريس للمعادلة التي تقسم الناس الى محض كائنات سلبيّة عاجزة عن الفعل واخرى الى فاعلة فعلاً متطرفاً: الى هؤلاء الذين يمارسون العنف واولئك الذين يتلقونه ويكونون موضوعاً له. لا يتوجب على "الضحية" ان تغفر ما اوقعه بها "الجلاد"، وانما الخلوص الى ان الانعتاق من اسر هذه المعادلة لا يصير الاّ من خلال نقد إختزال الفعل او المشاركة في الفعل، في الشكل المتطرف منها، اي ممارسة العنف. فمن دون نقد كهذا، وعلى ما ألمعت حنة آرندت، وإن في سياق مختلف نسبياً، يدوم العنف دواماً يطيح بحيز الفعل والمشاركة، او ما هو متوافر منه، بما يُسقط ايّ صفة اخلاقية وسياسية للعنف وما يُبطل اي تعيين لفاعل العنف وموضوعه. فلا يعود التمييز ما بين ضحية وجلاد صالحاً، فالكل سواء. وقصارى ما يفرّق بينهم ان بعضهم قوي والبعض الآخر ضعيف. وكما نعلم، فليست القوة صفة مساوية للظلم وليس الضعف مبرراً للتظلم. فبذريعة الضعف، او العجز عن الفعل، وحده، تمضي السيرة المذكورة في ادانة العنف ثم تخلص الى تبريره. وهي شأنها في ذلك شأن الكتابة العربية التي تمضي على هذا المنوال، تميّز من دون شك، ما بين اشكال من العنف بعضها يستحق الادانة وبعضها يستوجب التبرير. فيُزدرى العنف الذي يكون اداة قهر وقمع واحتلال وتسلّط، ويسوّغ ذاك الذي يكون وسيلة لا تنفصل عن الثورة والمقاومة والاحتلال. بيد ان نسب صفة او شكل الى العنف بحيث يتعيّن معه حافزه او غرضه، لا يكفي وحده للادانة او التبرير ما لم يكن فعل النسبِ هذا صادر عن سلطة متفق على شرعيتها. فإذا ما انعدمت سلطة كهذه، لا تعود الصفة المنسوبة الاّ ذريعة لادانة العنف الذي يصدر عن غيرنا ضدنا. وفي مثل هذا الامر لا يصدق وصف للعنف الاّ ما يصدق على العنف السائد في حالة الطبيعة او "حالة حرب الجميع ضد الجميع" على حدّ عبارة توماس هوبز. ففي هذه الحالة السابقة على قيام الدولة واستواء المجتمع وفقاً لمؤسسات ثقافية وسياسية، يكون العنف عارياً ومجرداً من اية صفة اخلاقية او سياسية، ليس ذلك لانعدام الحافز او الغرض، وانما لانعدام العقد الذي بموجبه تنشأ الدولة وتستوي سيادتها التي يُناط بها امر تعيين ووصف وتأويل القول والسلوك والبت في الامور، وذلك بقسط من التدبر والحكمة كافٍ لضمان السلم والامن. وانه في مثل هذه الحال وحدها يصحّ التمييز ما بين المشروع وغير المشروع من العنف. والاهم من ذلك ان فعل المشاركة لا يعود مُدعماً او ملحقاً او مختزلاً الى استخدام العنف. ولا يحصل هذا لأن العنف يمسي من احتكار جهة واحدة، هي الدولة، وانما لان الانضواء في الفعل او المشاركة، أجاء ذلك من سبيل ممارسة حق الملكية الخاصة، ام حق العمل والكسب، ام حرية التعبير عن الرأي والاعتقاد، ام حرية ممارسة شعائر ومناسك مختلفة، انما يحصل كل هذا وغيره، من خلال مراعاة لجملة تقاليد واعراف وشرائع متواضع عليها تواضعاً يجعل استخدام العنف امراً غير مبرر، بل مرذول ايضاً. وان في مراعاة كهذه لا تصدر عن تكلف او قسر ما يتجلى عن بلوغ العقد المبرم غايته. اما في ظل انعدام العقد والاتفاق، او صعوبة بلوغ أيهما الغاية المنشودة، فإن الفعل، أكان ممارسة القمع ام كتابة سيرة ذاتية لضحية هذا القمع، فإنه لا بد من ان يكون رهين تبرير عنف يستوي فيه كل من يشارك فيه. ففي حال الطبيعة، او حال الحرب الاهلية السابقة لأيّ اتفاق، لا مكان للتمييز ما بين عنف يمارسه قوي او ضعيف، طفل في العاشرة او جنديّ مدجج بالسلاح. * كاتب فلسطيني مقيم في لندن