يتطلع أهل الخليج الى الاجتماع الواحد والعشرين المزمع عقده لقمة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، عقب شهر رمضان المبارك في العاصمة البحرينية "المنامة"، وهو الاجتماع الذي يواجه هذه المرة أجندة مثقلة بملفات عدة تتوزع ما بين اقليمي ودولي، لا سيما انه يأتي مزامناً لمنعطف مهم وتغيرات كبرى حاصلة راهناً أو يتوقع حدوثها في المستقبل المنظور. لكن ما يسترعي الانتباه ان المنامة تشهد منذ فترة مجموعة من التغيرات السياسية التي يلاحظها المراقبون للشأن الخليجي. وهي في سرعتها وشكلها واتجاهها، تنطوي على رغبة أكيدة من القيادة السياسية، التي يقود دفتها بكفاءة الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، في إحداث تغيير تاريخي يشمل علاقة الشعب - بمختلف منابته وشرائحه - مع الدولة والحكم، ويؤسس لمرحلة جديدة وناضجة من العمل الوطني، تتفادى الهزات وتعبر الأزمات بشكل جماعي ومسؤول. ولعل جذور هذا التوجه قد امتدت منذ الأشهر الأولى لوصول الشيخ حمد بن عيسى لسدة الحكم. فقد حدثت مجموعة من المتغيرات كانت تسابق المطالب كما تسابق الزمن متغلبة على العقبات الكثيرة التي وقفت أمامها وغير منتظرة لما يسفر عنه هذا الملف أو ذاك من الملفات التي تجهد البحرين اليوم لحلها. كانت البدايات والاشارات الآتية من خلال الخطب التي ألقاها الشيخ حمد في مناسبات محلية عدة، والتي أشار فيها الى النية الصادقة للتطوير، والإبحار بالبحرين في أجواء صارت عالمية قبل أن تكون اقليمية، وكانت ملفات الاقتصاد والاجتماع والثقافة كلها تحتاج الى أن تفتح أمامه الطريق الى "أبو الملفات" - ان صح هذا التعبير - وهو الملف السياسي الذي يتضمن قضايا عدة تجيء في مقدمها علاقة المحكوم بالحاكم. ومعلوم ان الذين يتبوأون اليوم كراسي المسؤولية في البحرين سواء في القطاع العام أو الخاص، هم ثلة من الجيلين الخامس والسادس من المتعلمين، حيث بدأت أولى ثمرات التعليم الحديث والمنظم في العشرينات من القرن المنصرم، كما تتعالى صروح الاقتصاد الحديث والنظم الحديثة، وتتوافر القوى البشرية البحرينية المتعلمة والقادرة على القبض بنجاح على دفة التنمية. وفي الثلاثين سنة الماضية كافحت البحرين للخروج من مطالبات سياسية في أرضها وكيانها، ظلت تؤرقها الى حين الاستقلال الذي بذل أهل البحرين في سبيل نيله الكثير من التضحيات، متكاتفين جميعاً من أجل تحقيق أهدافهم الوطنية. فقد جاء الاستقلال نتيجة وفاق وطني مشهود له، وثقته لجنة تقصي الحقائق المنبثقة من الأممالمتحدة حين قررت أن شعب البحرين بكل تياراته ونسيجه الاجتماعي يتوق الى أن يبقى حراً سيد قراره في بلاده وعلى أرضه. ومنذ ذلك الوقت جرت مياه كثيرة في نهر البحرين السياسي، من تجربة قصيرة ولكن مؤلمة في التمثيل الشعبي، تزامن حدوثها مع صراع دولي في حرب باردة ألقت بظلالها على السياسة الدولية والاقليمية، وحتى المحلية للكثير من بقاع العالم. وقد اثرت هذه الظروف في النسيج الاجتماعي في الجزيرة الهادئة فأحالت هدوءها عواصف سياسية لم تكن لتقدر على مواجهتها، لأن الصراع الايديولوجي وقتها كان يتجاوز المطالب الوطنية ليلتحم بمطالب أممية وضبابية في الوقت نفسه. وكذلك أصاب البحرين، شأنها شأن جيرانها في الخليج، نصيب من لهيب الحرب الشعواء التي اندلعت على مرمى حجر منها بين الجارين الأكبر العراقوايران، مما نكأ الجروح القديمة وجدد آلامها، ونفخ في نار كانت لا تزال متوارية تحت الرماد. فألمَّ بالجزيرة وسكانها شطط الخلاف والاختلاف، ولم يكن للرأي العاقل في مثل هذه الأزمات المستحكمة إلا أن يتوارى خلف غيوم المغالاة والخصومة ويتراجع أمام الأمواج العارمة التي هددت الحياة الاجتماعية في البحرين، وكادت تأكل الأخضر واليابس في الدولة الفتية! ولم تكد تهدأ حدة ذلك الصراع ويخفت لهيبه، وقد أخذت المنطقة تتنفس الصعداء، حتى عاد العراق مستأنفاً سلوكه العدواني، وان كان قد غير وجهته هذه المرة، فبعد ايران... أرسل صدام جحافل جيوشه الى الكويت غازياً ومحتلاً، وساعياً الى نهب دولة جارة وشقيقة وإزالة وجودها من الخريطة. ومعروف ان الكويت يربطها بالجزيرة الهادئة الكثير من وشائج القربى والتاريخ المشترك والعلاقات التاريخية الممتدة، فلما وقع الغدر العراقي بحق الكويت كانت البحرين أحد الملاذات التي لجأ اليها أهل الكويت، مثلما كانت المملكة العربية السعودية لهم سنداً ومعقلاً. في هذه التجربة التاريخية التي امتدت أكثر من ثلاثة عقود كانت البحرين تعد لهذا اليوم الذي سترسو فيه السفينة السياسية الى شاطئ الأمان، إذ يشعر الجميع بأنهم أفراد في سفينة واحدة يضطربون باضطرابها ويستقرون إذا استوت على السطح ومضت بها الريح رُخاء، تجمعهم وحدة الكلمة والهدف، وينظمهم عقد واحد من القوانين، ويتفرغ الجميع للبناء والتنمية وبذر حبوب الخير في أرض البحرين الكريمة، ففي المجتمعات الرشيدة تتضافر الجهود جميعاً من أجل دفع المجتمع قدماً باتجاه المستقبل، حيث لا ينتظم "عقد" إلا بتوافق حباته وانسجام مفرداته وانتظامها في سلك قوي يحفظ لها تناغمها ووحدتها. من هنا جاءت مبادرات الشيخ حمد بن عيسى لنظم هذا العقد وتوحيد المجتمع من خلال ربطه بقوانين ونظم يرتضيها الكافة، وتحقق للجميع المساواة في المواطنة والاطمئنان للمستقبل. من أجل هذا أُنشئت اللجنة العليا لإعداد مشروع ميثاق وطني، والتي ضمت خمسة وأربعين عضواً لهم خبرتهم وتجاربهم في الحياة السياسية والتي هدفت كما نص مرسوم تشكيلها الى دفع مسيرة التطور السياسي الى الأمام بما يحقق النمو والازدهار، الى جانب رغبة كريمة من الأمير الشيخ حمد بن عيسى "لقيام مرجعية لتنظيم المؤسسات الدستورية في الدولة" تناط بها مهمة بالغة الدقة، هي إعداد مشروع ميثاق للعمل الوطني القادم، يستنير بتراث وتجربة الشعب البحريني في العمل السياسي وجميع مجالات العمل الوطني. ومن الملاحظ ان اللجنة المشكلة، بجانب تمثيلها لقطاعات مختلفة من الشعب بكل فئاته ومشاربه، انتظمت في عقدها ست نساء من الفعاليات النسائية النشطة في العمل العام، وهي اشارة حضارية لافتة للنظر في منطقة تكاد تطغى عليها الذكورية في العمل العام، كما هي اشارة أولاً الى ما حققته المرأة في البحرين من تقدم على جميع الصعد، وكذلك الثقة التي أولاها المجتمع هناك للمرأة في مجال العمل الوطني العام، وهي ثقة تعكس قدرة المرأة على العمل في مشروع عظيم له محورية وجسامة هذه اللجنة. لكن التجربة التي تقدم عليها البحرين تقف أمامها كثير من العقبات، فهذه التجربة ليست سهلة وليست من قبيل تحصيل الحاصل، خاصة أن المشاركة الشعبية، وان كانت متميزة ومطلوبة، فهي ليست مجرد نصوص موجودة في الأوراق والمراجع القانونية والدستورية، بل هي تتجاوز ذلك الى سلوك وممارسة يجعلان من المصالح الاستراتيجية للوطن غاية عليا وهدفاً أسمى. ومن هنا فإن المشاركة الشعبية في النهاية مسؤولية وتكليف أكثر منها سلطة وتشريفاً. ولعل هذا ما جعل تجارب كثيرة ظهرت في منطقتنا العربية، في النصف الثاني من القرن العشرين، وكنا قد استبشرنا بها خيراً، ولكنها سرعان ما اختفت، وأدت الى فشل ذريع، بل انتكاسة حادة ذهبت بالتجربة الى نقيض ما قصدت اليه. بل ما زلنا نشهد العثرات في تجارب أخرى، ربما افتقدت الحيوية أو أعوزها التنفيذ السليم. لذا فإن اللجنة المناط بها هذه المسؤولية الكبيرة ستتحمل الكثير من الشد والإرخاء داخلياً وخارجياً، وهي مسؤولية لا يتصدى لمثلها إلا من أوتي العزم والثقة بالمستقبل. بمجرد الإعلان عن تشكيل اللجنة استمعنا الى أشكال من النقد الذي كان بعضه، وربما قليله موضوعياً، بينما يدخل كثيره في اطار التشكيك أو الرفض العلني. ومع أن المراقبين كانوا يتوقعون هذه الأصوات المنتقدة فإن اللافت ان كل الذين انتقدوا وشككوا اعلنوا انتقاداتهم وشكوكهم قبل أن تبدأ اللجنة عملها وقبل أن تتضح آفاق ما ستسفر عنه من أعمال، وهو الأمر الذي يدخل في دائرة المصادرة على المبادرة، وعرقلة حق الآخرين في العمل والتفكير والتطوير. وايصاد الطرق أمام الاجتهاد من أجل مستقبل أفضل للوطن والمواطن، وهو توجه لا يجادل أحد في أنه يبتعد عن دائرة العمل الديموقراطي، بل هو يمثل انتهاكاً كبيراً للممارسة الديموقراطية نفسها، والا فبم نفسر سلوكاً سياسياً يقتلع أصحابه جذور النبات من الحقل السياسي، بينما لا يلقون محلها بذوراً جديدة تعكس فكراً مغايراً أو بديلاً اجرائياً لعملية المشاركة التي تسعى الحكومة البحرينية الى تفعيلها، بوصفها وسيلة لصنع القرار وليست غاية في حد ذاتها. وان كان الأمر كذلك، فإن المطلوب من هؤلاء هو التفكير في وسيلة أو وسائل أفضل لتحقيق الغايات المجتمعية، وهو الحفاظ على الدولة واستقرارها، وتحقيق النمو والازدهار للمجتمع ككل، بدلاً من مصادرة الرأي ومحاكمة الأعمال وهي لم تزل رهينة الغيب، ورفض الممكن في طلب المستحيل. فتلك مزايدة، تنتمي لعصر مضى، وليست فكراً يتلمس خيوط المستقبل، وهي مصادرة لمبدأ الديموقراطية وتشكيك في أهمية رأي الأغلبية، في سبيل تمكين رأي الاقلية، وهي ديكتاتورية من نوع آخر، ابتليت بها بعض الشعوب، ولم تثمر إلا الخيبة والخسران. خطوات البحرين في المجال السياسي هي خطوات شجاعة بكل المقاييس، وهي فرصة للتحديث ومواكبة التطور بما يستحقه شعبها، وهي، الى جانب هذا، تعد اضافة لتجارب مماثلة سارت في الخليج منذ زمن... وغدت الآن تؤتي أكلها. * كاتب كويتي