يشعر فريق واسع من الاسرائيليين ان اسرائيل تتعرض الى خسارة في صراع الاعلام والعلاقات العامة بينها وبين الفلسطينيين. هذا الشعور الأخير كان وراء الاحتجاج الرسمي الذي قدمته وزارة الخارجية الاسرائيلية الى تلفزيون "سي.ان.ان." لأنه لا يمنح الاسرائيليين وقتاً كافياً وموازياً للوقت الذي يعطيه الى الفلسطينيين لشرح موقفهم، ولأنه يصور اسرائيل على أنها "المعتدي"، فبلتت تغطيتها لأوضاع فلسطين تفتقر الى "النزاهة والموضوعية" كما قال جدعون مائير نائب المدير العام للخارجية الاسرائيلية. وهذا الشعور بالانحياز الاعلامي الغربي ضد اسرائيل كان ايضاً وراء زيارة قام بها شمعون بيريز، رئيس الحكومة الاسرائيلية الاسبق، للندن كي يلتقي مدير قسم الاخبار في ال"بي.بي.سي" وإبلاغه استياء حكومته من انحياز الاعلام البريطاني ضد اسرائيل. وفي حين اكتفى الناطقون باسم الحكومة الاسرائيلية بتقديم الشكاوى ضد الانحياز الراهن في الاعلام الغربي ضد اسرائيل، فإن بعض السياسيين الاسرائيليين ومؤيدي اسرائيل ذهب أبعد في وصف ذلك الانحياز، فردّه الى "اللاسامية المعلنة أو المبطنة التي تسم مؤسسات الاعلام الغربية". وهذا ما فعلته اندريا ليفين، المديرة التنفيذية للجنة "كاميرا" التي انشأها مؤيدو اسرائيل لمراقبة ما تكتبه الصحف الاميركية عن الشرق الأوسط، وذلك عندما وصفت صحيفة "نيويورك تايمز" بأن ما نشرته في الآونة الأخيرة عن اسرائيل والفلسطينيين يكشف عن "لاساميتها المبطنة"! تنطوي هذه الانطباعات أو التقويمات المعلنة على قدر ملحوظ من المبالغة. فاسرائيل أصيبت بخسائر اعلامية خلال المعارك الأخيرة بينها وبين الفلسطينيين، إلا ان هذه الخسارة لم تصل الى الحجم الذي يوحي به بعض الاسرائيليين. ففي الولاياتالمتحدة، التي يحرص الاسرائيليون حرصاً شديداً على ضمان تأييد مواطنيها، اظهر استطلاع للرأي العام نظمته ال"سي.ان.ان" نفسها ان 41 في المئة من الاميركيين والاميركيات يؤيدون اسرائيل، بينما أيد 11 في المئة فقط الفلسطينيين. واتسمت هذه النتيجة بأهمية خاصة لأن الاستطلاع نظم في اعقاب تناقل صور استشهاد الفتى الفلسطيني محمد الدرة التي أثرت تأثيراً كبيراً في ردود الفعل الدولية تجاه الاحداث الفلسطينية. أما اتهام الاعلام الغربي بالانحياز ضد اسرائيل فكان عرضة للمساءلة بين بعض الاسرائيليين المعنيين بمواقف الاعلام الدولي مثل آبي فوكسمان ودافيد ماكوفسكي الباحث الزائر في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط اللذين يعتقدان انه باستثناء ال"بي.بي.سي" في بريطانيا، فإن الاعلام الغربي يقف عموماً الى جانب اسرائيل لا ضدها. غير انه بصرف النظر عن صواب أو خطأ هذه الاتهامات، فإن التلويح بها وتوجيهها الى الاعلام الغربي يخدم، في نظر المسؤولين الاسرائيليين، اسرائيل لأنه وسيلة من وسائل فرض الانضباط الكامل على تلك المؤسسات. والانضباط الكامل يعني نقل وجهة النظر الاسرائيلية فقط والتقيد بصورة حصرية بمضمونها. تاريخياً تمكن الاسرائيليون من تحقيق نجاح باهر في فرض الانضباط على الاعلام الغربي حتى السبعينات. ولعبت جماعات الضغط المؤيدة لاسرائيل في الدول الغربية دوراً مهماً في ذلك. ولكن السياسة التي اتبعتها اسرائيل تجاه المؤسسات الاعلامية ومراسليها في الشرق الأوسط حققت القسط الأكبر من هذا النجاح. اذ قدمت الى هؤلاء خدمات وتسهيلات كبيرة كي يألفوا الإقامة في اسرائيل والعمل من خلالها على نطاق المنطقة. وبلغ حرص الحكومة الاسرائيلية على كسب ود الجسم الاعلامي الغربي العامل في الشرق الأوسط انها جعلت مكتب الاعلام الحكومي يخصص مرافقات لزوجات المراسلين الاجانب، لكي يساعدنهن في التسوق، كما قال احد المسؤولين عن المكتب. لم يكن الغرض من هذا الاهتمام تسهيل مهمة مؤسسات الاعلام الدولي والغربي في التعرف على حقائق اسرائيل والمنطقة بصورة مجردة وحيادية، بل اقناعها بتبني ما تريد اسرائيل نشره عنها. وهذا ما حققه الاسرائيليون حتى حرب لبنان حين بدا أنهم لم يعودوا يسيطرون سيطرة كاملة على أجواء المعركة الاعلامية بينهم وبين العرب. واعتقد الاسرائيليون، كما يعتقد بعضهم اليوم، ان المشكلة هي مشكلة فنية تتلخص، كما قال اهارون ياريف، والمسؤول السابق للاستخبارات العسكرية الاسرائيلية، في نقص الاعداد الاعلامي للمعركة. وبعد حرب لبنان تكررت المعضلة الاسرائيلية الاعلامية في بداية التسعينات عندما انفجرت الانتفاضة الفلسطينية الأولى. اذ سارع عدد من اصدقاء اسرائيل مثل هنري كيسنجر الى نصحها بتكميم الاعلام الدولي ومنعه من تناقل اخبار الانتفاضة. الا ان الاسرائيليين لم يتمكنوا من تنفيذ النصيحة ما عرضهم لخسائر سياسية ومعنوية واسعة. وتتكرر المشكلة اليوم لأن استخدام الجزرة والعصا، والترغيب والترهيب، لم يعد ينفع كثيراً في فرض الحصار الاعلامي على الفلسطينيين. بذلت الحكومة الاسرائيلية جهداً كبيراً على هذا الصعيد، أي على صعيد تطويق العرب والفلسطينيين سياسياً واعلامياً. وبعد انفجار الانتفا ضة الثانية، تمسك الاسرائيليون بسياستهم فعارضوا بشدة قيام هيئة الاممالمتحدة بتشكيل لجنة لتقصي الحقائق في الأراضي المحتلة. كما أنهم شنوا، كما جاء اعلاه، حملة تخويف ضد مؤسسات الاعلام في الغرب، فلماذا لم يتمكنوا من حمل الاعلام الدولي والغربي على الانحياز الكامل اليهم؟ هناك اسباب متعددة لهذا الاخفاق، من أهمها الموقف الاسرائيلي نفسه. فهو ينطوي على عسف كبير وانكار لحقوق الشعب الفلسطيني، وعلى مغالات في استخدام العنف ضد الفلسطينيين، كما ينطوي على ادعاء حق اسرائيل في تجاهل قوانين الحرب مثل تحريم انزال العقوبات الجماعية بسكان المناطق التي يجري فيها التقاتل. ولئن كانت أغلبية المؤسسات الاعلامية في الغرب مستعدة لمسايرة اسرائيل والسكوت على أعمالها هذه، فإن هذا لا ينطبق عليها كلها حيث يوجد فيها اعداد كبيرة من الاعلاميين والاعلاميات ممن يتأثرون بالقضايا العادلة للشعوب. واذا كان من الشائع ان تنتقد هذه المؤسسات حكومات بلادها، فإنها لن ترضخ بسهولة لإرادة من يحاول منعها من توجيه النقد الى اسرائيل. السبب الثاني هو التطورات التي طرأت على الاعلام الدولي. فهذا الاعلام اصبح اكثر "دولية" من السابق. اي انه لم يعد موجهاً بصورة شبه حصرية الى دول أوروبا الغربية وشمال اميركا، بل بات اكثر اهتماماً بالاسواق الواعدة في العالم الثالث. ففي الهند وحدها يوجد عدد من الناطقين بالانكليزية ما يفوق الناطقين بها في بريطانياوالولاياتالمتحدة. ودول العالم الثالث لا تظاهر اسرائيل كما تظاهرها الدول الاطلسية. ويحدث هذا التوسع في أسواق الاعلام الدولي وسط تنافس على اكتساب الزبائن بين المؤسسات الاعلامية المتعددة الجنسية. وحتى تتمكن هذه المؤسسات من كسب هؤلاء الزبائن فإنها مضطرة، بصرف النظر عن عواطف اصحابها والعاملين فيها، الى تقديم مشاهد وتقارير يتوافر فيها الحد الأدنى على الأقل من التوازن. ومع اشتداد التنافس بين هذه المؤسسات تزداد اهمية تقصي الحقائق والبحث عن المعلومات واختراق الجدران المغلقة والكشف عن المعميات. وهذا النهج يصطدم بالسياسة الاعلامية الاسرائيلية وبما يحاولون الاسرائيليون فرضه على مؤسسات الاعلام الدولية. لقد عبر بجلاء عن هذا الافتراق، بين حاجات الاعلام الدولي ومتطلبات الامن الاسرائيلي، خلال حرب لبنان يوم حاولت هيلاري براون مراسلة تلفزيون "سي.بي.اس" الاميركي دخول بعض مناطق صيدا من أجل التعرف على أحوالها، فحاول مرافقها الجنرال الاسرائيلي اقناعها بصرف النظر عن ذلك قائلاً: "ان العدو منتشر في هذه المناطق". فأجابته براون بحدة "انك لا تفهم أيها الجنرال. ان عدوي هو تلفزيون ان.بي.سي"! تلك الحادثة تلخص أصل التوتر الخفي في علاقة اسرائيل بالاعلام الدولي، فبينما يعتمد نجاح اسرائيل في تنفيذ مشاريعها على التعتيم على تطورات الصراع في فلسطين، يتوقف نجاح الاعلام الدولي على مدى ارضائه عطش زبائنه الى المعلومات والحقائق. وهذا التباين بين شروط نجاح مشاريع اسرائيل التوسعية، من جهة، وموجبات نجاح الاعلام الدولي مرشحة للتفاقم مما يعني ان مشاكل اسرائيل مع الاعلام الدولي لن تنحل بسهولة مهما بلغت حذاقة الاستراتيجيين الاعلاميين الاسرائيليين وشطارة حملات العلاقات العامة التي يديرها زعماء اليسار الاسرائيلية مثل ايهود باراك وشمعون بيريز. * كاتب وباحث لبناني.