في صباح الخامس من حزيران يونيو 1967، كنّا طلاباً نتقدّم لامتحان الشهادة الثانوية. في منتصف الوقت، قيل لنا إن الحرب قد اندلعت مع إسرائيل، فهلّلنا وهتفنا. وحدث هذا الانشراح من أجل شيء طالما انتظرناه، هو البدء بتحرير فلسطين، ودحر الكيان الصهيوني، وليس من أجل توقّف الامتحانات، الأمر الذي كنّا لنهلّل له أيضاً في مقام آخر. اندفعنا بكل طاقتنا، وطلبنا توزيع السلاح علينا. بعد حيرة واتصالات طلب المسؤولون عن التربية العسكرية - وكان "المدرّس" أعلى مسؤول نعرفه - أن نذهب الى مركز للدفاع الشعبي في شرق المدينة. استلمنا البنادق التشيكية ورابطنا على مداخل المكان. ليلاً، أخذنا قائدنا شرقَي المدينة. كان لطيفاً ومرحاً، استمدّ صفاته من عمله بعد الدوام في أعمال نجارة البيتون وهواية الصيد التي أمدّته بمعظم معلوماته العسكرية المفيدة. طلب منّا حفر الخنادق والتمركز. تساءلنا: ما الذي نفعله بهذه الخنادق شرقاً والعدوّ في الجنوب، أو الغرب إن فكّر بمفاجأتنا عن طريق البحر. وجاء الردّ أنّ اليهوديّ ماكر وسيأتي من حيث لا تنتظره. منتصف الليل، أدهشنا أحد زملائنا بتأكيده أنّ السلاح الذي وُزّع علينا فاسد، وأنّ خيانة 1948 تتكرّر الآن، ويجب ألاّ نسمح بذلك، فخدعةٌ واحدةٌ ونكبة واحدةٌ كافيتان. ننفجر "مسرحياً" من الضحك، أم "كفاحياً" من الغيظ...؟! تبيّن بعد ذلك أن "ما أُخذ بالقوّة لا يُسترد بغير القوة"، ووضع "بيان 11 مارس" أسس البناء، ورأى أن القوة لا تتعدّى نطاق تعزيز القدرة العسكرية مع الانزياح يساراً في الدولة والمجتمع. بعد عام 1970، اختفت الحرارة اليسارية الزائدة، وساد شيءٌ من التعقّل والهدوء والانفتاح السياسي، مع الاستمرار بالبناء العسكري المدروس بعناية بمساعدة من الاتحاد السوفياتي السابق. وتحقّقت انتقالةٌ نوعية في الصراع العربي مع حرب تشرين الأول اكتوبر 1973، بزلزال في إسرائيل، أحدثته القدرات العربية، واستقرّ على نصف هزيمة فرضها التدخّل المركّز للولايات المتحدة، ونصف انتصار فرضه التدخّل المركّز للاتحاد السوفياتي. التغيّر المهم في تلك الفترة هو تأكيد عدد من المعارضين والمفكرين أن الهزيمة هزيمة الأمة وليست هزيمة الأنظمة وحدها، والمخرج منها هو المخرج من حال التأخر ذاته، ولا سبيل لذلك إلاّ من طريق الحرية والديموقراطية وتحديث الدولة والاقتصاد وتحرير القوى الكامنة في المجتمع والأمة. لم يحدث هذا، إلاّ في خطواتٍ عرجاء أو متردّدة وإيجابية في مصر أيام السادات وبعده. واستمرّ العجز العربيّ عن مجاراة العصر والتطور الإسرائيلي معاً، وأخذ التوقيت العربي بالتخلّف عن التوقيت العالمي الذي يزداد سرعة على شكل متواليةٍ هندسية، فأصبح خيار السلام خياراً استراتيجياً لسببين مباشرين: الخضوع لميزان القوى المتدهور خصوصاً بعد انتهاء الاتحاد السوفياتي، واستمرار التلكؤ ورفض التسليم باستحالة التقدّم وحجز مكانٍ في العالم من دون مساهمة الناس الحرّة في السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة. في المستوى الرسمي، انفجر النظام العربي الضعيف ذاته بعد حرب الخليج الثانية، وتفاقمت عوامل الاستبداد والفساد والتقصير والتأخر وأخطار التفتّت والتشرذم. وفي المستوى الشعبي استحالت الحمّى القومية القديمة الى أشكال تعويضية من الحمّى الدينية كانت الولاياتالمتحدة والأنظمة العربية قد تركتها تنمو سابقاً من دون خوف منها. مع هذه الحال، جاءت الانتفاضة الفلسطينية الحالية على فراغ في المجتمعات العربية لا تملك هذه معه شيئاً إلا الغضب أو التململ الذي تتصاعد به رغبات الثأر والتفجير والانتحار، وإلا تصعيد الكراهية من الصهيونية الى إسرائيل الى اليهود الى شعارات الخمسينات والستينات في لبوس إسلامي لم يعد هنالك حلّ غيره في متناول اليد، يعصم من الجنون أمام مشاهد القتل اليومي على الشاشات المتنوعة التي تضغط على الناس في غرف جلوسهم ونومهم. وتوجّهت تظاهرة في حمص الى ضريح خالد بن الوليد، كأنّها تستصرخه ليعود وينتقم للناس. كان هذا أفضل بالطبع من تظاهرة مخططة ومبرمجة، ولكن ابن الوليد ميت منذ أربعة عشر قرناً ولن يعود. والأغاني في الإعلام وشعارات التظاهرات تطلب الجهاد والاستشهاد والعمليات الانتحارية وأي شيءٍ يطفئ عطش النفوس الجريحة. "ماذا ينفع الإنسان إذا ربح العالم وخسر نفسه" يُمكن أن تتنوع: "ماذا ينفع الإنسان إذا خسر العالم وربح نفسه"، على رغم كون الصراع والغضب والاستشهاد أسهل وأكثر راحة وأقل صعوبة وتناقضاً ومللاً وقرفاً. إلا أن الاهتمام بالعالم الواقعي هو التحدي لإنسانية الإنسان ولطموحاته. الحمّى القومية لم تفعل شيئاً أمام "النكسة"، والحمّى القومية - الدينية لن تبني شيئاً على الأرض. هذا إذا افترضنا تساوي المشروع القومي القديم مع المشروع السلفي الراهن. وهنالك ما يربط بينهما في مردودهما على الأرض في مسألة الأرض على الأقل. تبلور الأول في قمّة الخرطوم تحت شعار: "لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف"، وفي شعار تحرير فلسطين من البحر الى النهر، وفي الشعار السري الذي يرمي الى رمي اليهود في البحر. ويتبلور الثاني في شعارات شبيهة تكاد تكون نسخة طبق الأصل، مع تحديث "لا صلح" بحيث تصبح "لا سلام". في ظروف الانتفاضة والمذبحة الحالية، اكتسبت الشعارات الحامية مشاعر العرب، ومنهم عديدون من الذين اعتادوا البرود في التحليل والبحث، ذهب برودهم مع الحرائق المشبوبة... وشمل غضب الجميع - تقريباً - أي اتصال مع الإسرائيليين والأميركيين، وشمل أيضاً القمة العربية الجديدة، التي كان من الصعب ان ترضي الناس الغاضبين بالكلام إلا إذا كان من نوع كلام قمة الخرطوم. لو لم تكن الحال على ما هي عليه، لشمت المرء في الأنظمة العربية التي تنال نصيبها من ثورة الناس وحنقهم. إلا أنّ الخوف من أي مزيد من التدهور، يرحمها ويميل بنا الى تقدير أية خطوة عملية مهما صغرت. من ذلك إيجابية انعقاد القمّة نفسها، وتقرير انعقادها دورياً، وحضور العراق، وغياب القذافي، وبعض مقاطعة لإسرائيل وبعض دعم للفلسطينيين في أوضاعهم المريرة. وربما - إذا وضع المرء ثورته جانباً - تجاوزت القمة ما هو متوقع منها في تركيبتها الحالية، ولو أنها لم تصل الى درجة انتقاد كلمة السعودية للمواقف الأميركية، وهذا أساسي في الوضع الراهن. في الوقت ذاته، كان شيئاً رهيباً أن يدعو عدد من القادة العرب الى الحرب، وإلى فتح الحدود، وإطلاق الجهاد... من بعيد. في حين مالت الغالبية الى استبعاد الموضوعة، بمعنى شنّ الحرب طبعاً، لا بمعنى الدفاع عن بلاد وأوطان في أقطار. وأكدت القرارات الختامية السلام، الذي تعرقله اسرائيل طبعاً. في مفهوم السلام المنشود، كان لافتاً ما طرحه الرئيس السوري حول "سلام الأقوياء" وكان جديداً ومختلفاً عن "سلام الشجعان" الذي استعمله السادات وعرفات. يذكّر كثيراً بالشعار الناصري القديم حول ما أخذ بالقوة، لكنه يتصل بالسلام، في حين كان القديم متصلاً بالحرب. وحين يكون الحديث عن الاستراتيجي لا بد من أن يكون السلام، لا الحرب. فلا يعيش الناس مع الحرب الى الأبد. ما يُحقق السلام "الجيد" هو القوة بالفعل، لأن القوة هي "الردع". يستتبع ذلك سؤال حول القوة، مصادرها وماهيتها. ولا بأس بالتكرار هنا، أن القوة تملكها الدولة القوية، ذات التحالفات القوية، والإعلام الجيد والحرّ المعاصر، والالتحاق بالتطور الاقتصادي والتكنولوجي والجيش الحديث، في وجود وبضمانة مجتمع مدني فاعل وقانون سائد وحريات ديموقراطية وحقوق إنسان... الخ، وهذا مطروح أمام العرب جميعاً مهما بان لديهم من تفاوت في درجة اقترابهم من الطريق، لا الإيغال فيه طبعاً. أمّا إذا كان احتجاجنا على صحّة وصدقية وإلحاح البدء بهذه الخطة الشاملة" بالإقرار بضرورتها أولاً، ثمّ الإقلاع نحو تحقيقها بتدرّج وأمان وإجراءات نيات طيبة، احتجاجنا بالدفع الذي أعطته التظاهرات العربية الحرة الداعمة للانتفاضة لرفع الحال الرسمية حيث تكون أكثر احتراماً محلياً ودولياً" أما إذا كان هذا الاحتجاج مرتداً علينا من خلال إحساس الحكام العرب بالخطر عليهم من هذه التظاهرات ومن حرية الناس وحسب، فعلينا السلام في المدى المنظور. ومع تجريبنا للأشكال المتنوعة والهشّة من روافع النهوض، يبدو أن هنالك رأياً عاماً عربياً أصبح يعتبر هذا جوهر وأسّ المشروع القومي. لا يتناقض مع ذلك اعتباره قطري البنى والملامح، ولا مع ضرورة استعجال خطى الوحدة الاقتصادية العربية، ولا رفع مستوى الوحدة السياسية والتنسيق النافع. في الظرف الفلسطيني الصعب على الأرض "نبتعد" هكذا عن الموضوع بشكل متعمّد، في الحال الحادة التي تستدعي إعلان حال طوارئ من مجتمعات ودول طالما تعلّلت بانهماكها بالإعداد طويلاً لاشتداد الصراع، نحاول التفكير بهدوء. كان اليساريون القوميون قديماً يتمتعون بالدراسات العسكرية ومعلومات الأسلحة والخطط الميدانية، ويستشهدون كثيراً بجوكوف ورومل ونابوليون، للتطبيق على التحليل السياسي والفكري. ما هي دروسهم عن جيش عاش في حال استنفار وتأهب دائماً، كيف تكون حالته وجاهزيته بعد عشرات الأعوام؟! عن مجتمع أكثر دماً ولحماً وفقراً وتأخراً؟! يمكن أفراداً أن يحاربوا، وهذا يختلف عن حرب مجتمعات وأمّة" ويمكن أفراداً أن يسالموا، وهذا يختلف عن سلام مجتمعات وأمة. في انتظار ذلك، لا بأس بالقمّة العربية، وبالضغط بالأشكال كافة من أجل مزيد من الدعم الحقيقي للانتفاضة. * كاتب سوري.