كثيراً ما يربط الباحثون بين قيام الدولة العباسية وبناء مدينة بغداد. ولا غرو فإن هذه المدينة العربية الإسلامية، هي من بناء أبي جعفر المنصور سنة 140ه أحد كبار رجالات الدولة العباسية الأوائل، والمؤسس الحقيقي للدولة العباسية وعاصمتها الحديثة بغداد. وإذا كانت بغداد محدثة في الإسلام، إلاّ انها قامت في منطقة عامرة بالقرى. ومن هذه القرى "الخطابيّة" وكانت لقوم من الدهاقين. وهناك قريتا "الوردانية" و"الشرفانية"، وجميعها من طسوج ناحية قطر بل شمال الصراة العظمى. و"بناورى" من رستاق "الفروسيج" من بادوريا. ثم قرى "قطفثا" و"براثا" و"رثالة" و"الكرخ"، التي نسبت اليها محلة الكرج في الجانب الغربي من بغداد. وعندما أمر المنصور ببناء بغداد أو المدينة المدوّرة، أخرج منها أهل الأسواق من عامة وصناعيين وباعة وأصحاب حرف، وأقام لهم أسواقاً جديدة في الكرخ، وأجرى تعديلات على القطائع، اضافة الى زيادة عدد سكان الأرباض، لا من العسكريين الذين التحقوا بجيش السلطة وحسب، وانما من غير العسكريين أيضاً، الذين غدت العاصمة بالنسبة لهم، مقصداً سكنياً لأكثر من وجه. وغدت بغداد ابتداءً من منتصف القرن الهجري الثاني دار السلطة الإسلامية والمركز المهم للعمل، والعقدة الجيدة للتجارة، والمحطة الكبيرة للحجّاج في الموسم. ومن هنا كان اهتمام الخليفة المنصور بإعادة تنظيم المدينة. فعرفت الأسواق المنسوبة الى المهن والتجارات، ومنها درب الزعفران ومحلة سور الحلاويين، وتوسعت بغداد في القرن الثالث الهجري، فأحصى اليعقوبي دروبها وسككها ومساجدها، فبلغت لديه أربعة آلاف درب وسكة و15 ألف مسجد، أما في القرن الرابع الهجري فقد عظمت أسواق بغداد ومبانيها على ضفتي دجلة شرقاً وغرباً. ويقال انه في الجانب الغربي كانت تقوم الدكاكين العالية والدروب العامرة من دقاقين وخبازين وحلاويين وصيادلة. وفي نهاية الدور الشاطئية، كانت تقوم دار معز الدولة ذات المسناة، حيث تقع أيضاً سوق رحبة الجسر. حاضرة بغداد في رمضان أفاض المؤرخون والباحثون في وصف بغداد، تلك الحاضرة العريقة، في رمضان، ومنهم ابن الكازروني الذي وصف ليالي رمضان البغدادية فقال عنها: "ان ليالي الصيام مشرقة بالمصابيح. والمساجد منيرة بالصلوات والتراويح، أما العوام، فهم ينكبون على الملاذ والغناء والفرح الى منتهى العشاء، ثم ترفع قناديل التسحير، وكانت دار الخلافة تضاء بالأنوار، ويتعالى منها التكبير". وكان أهل بغداد يجتمعون عصر كل يوم من رمضان، كاجتماعهم في الأعياد، ويخرجون في دجلة بالطيارات والزبازب والسميريات، كل انسان بحسب قدرته، ويتنافسون في شطه وجميع أكنافه. وعند قدوم المساء، كانت تشتعل النيران والمصابيح الضخمة في السميريات والزوارق، وعلى كل زورق قبة كبيرة. وبعد الإفطار يخرج أهل بغداد للفرجة، فيسهرون على الشواطئ، وتزين ضفاف دجلة بالمشاعل. ويظهر أصحاب الشأن من الحكام وغيرهم زينتهم، ويحملون السفن بأنواع الألعاب المسلية. وكانوا يأخذون السفن الكبار، ويشعلون فيها المصابيح، فينزل أهالي الجانب الغربي وهم من الطبقة الغنية، يحملون المصابيح. و"كان على سطح دار المملكة الى دجلة، حبال قد أحكم شدّها، وفيها سميريّة، يصعد بها رجل في الحبال ثم ينحدر بها وفيها نار". وتعتبر هذه الألعاب من الألعاب المشهدية التي ينبسط لها الناس. ان مظاهر الفرح والابتهاج، كثيراً ما كانت ترافق هذه الاحتفالات الرمضانية لدى العامة والخاصة على حدّ سواء. إذ تستخدم الزينات المختلفة في الأسواق وأمام المساجد والجوامع وتحت الأقبية في مختلف أنحاء المنازه على الجسر شرقاً وغرباً. وكانت مجامر "الرام" تضاء على رؤوس الحيطان، ويطول ليل الناس العامر بالسهر والفرح الى وقت السحور وصلاة الفجر. وقد أسهب المؤرخون وأصحاب "المقامات" مثل الهمذاني والحريري، وغيرهما من الكتّاب والأدباء، في وصف هذه المظاهر العامة، التي كانت تظهر بها مدينة بغداد طيلة رمضان ليلاً ونهاراً، كما أنَّ أبا المطهر الأزدي، يكمل لنا أداء هذه الصورة الزاهية في كتابه "حكاية أبي القاسم البغدادي". الأماسي والمجالس وكان الناس في أماسي رمضان، يخرجون الى البساتين وضفاف الأنهر جماعات وعائلات، خصوصاً في أيام الربيع والصيف، وكان الأغنياء يضربون الخيم والفساطيط الكبيرة، وكثيراً ما كانوا يصطحبون معهم القيان والمغنين، فتكثر المعازف وترتفع الأصوات وتمتدّ الموائد وتقدّم الأشربة والحلوى. كذلك كان المحدّثون والقصّاص وأصحاب اللطائف والحكايات القصيرة والنوادر الهزلية البسيطة، يجدونها سانحة، فيحدثون ويقصّون، ويعظون، وكانت طبقة الخواص إذا دعت الى الطعام في مجلس عام خرجت عن حدِّ الجدّ، وتبسطت في أخبار العامة وما يحسن من هزل، فتنصرف بذلك عن الحكايات الطويلة، الى الحكايات القصيرة، لأنها بمجالس القصاص أولى منها من مجالس الخواص. وكانت مجالس الطرب والغناء في بغداد تكثر كثرة عظيمة في ليالي رمضان، وكان الفقهاء وأهل الدين في العادة كثيراً ما يتساهلون بما لا يخرج عن حدود الله. والغرض من هذه المجالس الترفيه عن النفس، وتمضية السهرات الطويلة تعويضاً عن حياة يوم عمل سابق، وكان تطريب الجواري يملأ الأسواق والأنحاء، وهن يؤدين غناءً مطبوعاً سليماً، وقد ذكر لنا بعض الأخباريين أسماء عددٍ كبير منهن، مثل عريب وجاريتها بدعة. ومثل سراب وشارية وجواريهما. ومثل ندمان ومنعم ونجلة وتركية وفريدة وعرفان. وكان معظمهن يغنين في الدور الخاصة، أو في الأماكن المعروفة التي تراعى فيها آداب الصيام والشهر الفضيل. وقد اشتهرت "زادمهر" جارية أبي علي بن جمهور، وكانت بارعة في الغناء وشجيّة وخرعوبة جمعت الذكاء مع الملاحة. وهناك "صلفة" جارية أبي عابد الكرخي وبنت حسون التي كان ابن الحريري يطرب على غنائها. وخلوب جارية ابن أيوب التي كان يستحسن أداءها أبو عبدالله المرزباني. وعلم القضيبية التي كانت تغني في محلة دار القطن عند جامع المنصور، فيتواجد على صوتها ابن خيرون، ويمزّق أطماره ويدق الحيطان برأسه. وكانت مجالس الطرب في رمضان تقام في أماكن عامة وطليقة، تدعى اليها المغنيات والجواري، ويراعى في ذلك مناسبة شهر الصوم وما يتصل به من تعفّف، ويذكر الخطيب البغدادي، أن أحد الفقهاء كان يمشي في شوارع بغداد ليلاً في رمضان، فيسمع أصوات المغنيات من البيوت، ويتسامح فيها لأنها لا تخرج عن حدود الآداب العامة في الإسلام. ولعلَّ الإقبال على مجالس الغناء، لم يكن مقصوراً على فئة دون فئة. فقد ذكر ابراهيم الموصلّي ان جماعة من الحاكة، أقاموا سهرة دعوه اليها، وأخذوا يقترحون عليه، فاكتشف عندهم إلماماً بأنواع الغناء. مدرسة التجويد وكانت مساجد بغداد وجوامعها عقب صلاة العصر من رمضان، تتنافس في ما بينها لإنشاء حلقات تعليمية في دروس القراءة والتجويد. كان عدد عظيم من المقرئين الكبار وأهل الحذق والمهارة في فن التجويد يتصدّرون لذلك. وكان ينتج عن هذا تأثر وتأثير المقرئين بعضهم بالبعض الآخر. وهذا ما كان يؤدي ليأخذ فريق من فريق فيتبادلون اللحن ويتنازعون النغم. وأشد ما كان ذلك، حين بدأ القرّاء في تأسيس مدارس التجويد تضاهي السابقين وتزيد عليهم. إذ للقرّاء تراث عظيم في ذلك. ونحن نجد ابن قتيبة يشير في كتابه المعارف الى هذا الأمر فيقول: "وكان القرّاء كلهم: الهيثم وإبان وابن أعين وغيرهم، يدخلون في القراءة من ألحان الغناء والحداء... فمنهم من كان يدسّ الشيء من ذلك دساً دقيقاً، ومنهم من كان يجهر بذلك حتى يسلخه. فمن ذلك قراءة الهيثم أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر سلخه من صوت الغناء كهيئة: أمَّا القطاة فإني سوف أنعتها نعتاً يوافق نعتي بعض ما فيها وكان ابن أعين يدخل الشيء ويخفيه، حتى كان الترمذي محمد بن سعد، فإنه قرأ على الأغاني المولّدة المحدثة، سلخاً في القراءة بأعيانها. علماً ان المقرئين في المساجد والجوامع كانوا يتخيرون بين اتباع "الترعيد" أو التطريب أو "التحزين" أثناء القراءة والتجويد، وذلك وفق الأوقات المناسبة لروزنامة رمضان. وقد أشار ابن حجر في كتابه: "رسالة آداب قراءة القرآن" الى ان "الترعيد"، هو أن يرعّد المقرئ بصوته، مثل الذي يرعد من برد أو ألم. أمَّا "التطريب"، فهو ان يترنّم بالقرآن، وينغم به، فيمد في غير موضع المدّ، ويزيد في المدّ ما لا ينبغي. أمَّا "التحزين" فهو أن يأتي به على وجه الحزن، حتى كأنه يبكي مع خشوع وخضوع. غير ان ابن حجر يشير الى تليين الصوت وترقيقه. في حين ان "الترقيص"، وهو ان يروم على الساكن، ثم ينفر مع الحركة، كأنّه في عدْوٍ وهرولة. أما "الحدْر"، فهو يتمثل في رفع الصوت تارة وخفضه تارة أخرى. ولذلك راج في مجالس التجويد والإقراء أحاديث كثيرة تنفّر من ذلك، ومنها "اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الكتابين وأهل الفسق، فإنه يجيء بعدي قوم يرجِّعون بالقراءة ترجيع العبّاد الرهابنة، مفتونة قلوبهم وقلوب من يعجب بشأنهم". سهرات البيوت وكان عامة الناس في بغداد بعد صلاة التراويح، منهم من يفضل السهر داخل بيوتهم، ومنهم من يفضل السهر في الحوانيت وتحت أقبيتها. وكان البغداديون يمارسون في سهراتهم المتنوعة هوايات مختلفة، كانوا يتسلّون بها في الأوقات الرمضانية قبل الإفطار وبعده. وكانوا يحضرون مهرجانات التهريج والسماجة، ويقبلون على المضحكين والممثلين وأصحاب السماجة في أماسي رمضان. كذلك عرفت حوانيت بغداد مختلف أنواع الألاعيب التي تكثر أشكالها في رمضان. وذكر بعض الباحثين ان بعضها كان الطين على أشكال الحيوانات. وكانت تباع للأولاد، خصوصاً في المناسبات الكبيرة. وذكر صاحب تاريخ بغداد، ان أبا سعيد الإصطخري، وكان محتسب بغداد في عهد الخليفة المقتدر، أحرق طاق اللعب، وذلك لما يعمل فيه من ملاهٍ. الموائد وتحدّث الباحثون والمؤرخون عن موائد بغداد الرمضانية، فقالوا انها كانت غنية للغاية. وقد كان يقدمها الموسرون والأثرياء للعامة في بغداد كوجبات إفطارية مجانية، تندرج في اطار افطار الفقراء والمساكين وأبناء السبيل. الى جانب الأيتام والمعوقين. ولذلك كان يسارع اليها هؤلاء جميعاً، وتندس بينهم فئة من الشطار والطفيليين. كذلك عرفت بغداد موائد رمضانية يجتمع حولها الخاصة وأصحاب الدور والقصور وأهل السلطة، أو رجال الحاشية والطبقة الموسرة من التجار والأغنياء. وتتحدث كتب المصادر عن سخاء الموائد الرمضانية. إذ تعبق فيها روائح الأفاويه والأطايب وما يتصل بذلك. وكان الطبّاخون يحضِّرون على الموائد الرمضانية لحوم الطيور مشوية ومطبوخة، من فراريج متنوعة. وكان الأغنياء يفضّلون صدور البط بماء حبّ الرمان وماء التفاح والتوت الشامي. وقد تفنّنوا في طبخ وشواء الدراريج، كما تفننوا في طبخ أو شيِّ الأسماك بأشكال مالح القاس ومالح السرّة والملح الممقور. وقد كثر لديهم سمك الشبوط والبني والطريخ المقلو بالبيض وقريض السمك بالخل، وكانوا يجعلونها في شكل صحناء وربيثاء، كما أكلوا كبد الدجاج وكبد المواشي، وطهوا الأكارع وأنضجوا الفوارغ وشووا الرؤوس، وكان من أفضلها صنعة الرؤوس التنويّة. كذلك عرفت بغداد بعض الحلويات الرمضانية، وكانت تتخذ من الشهد والسكر والمن والتمر. وكان يضاف اليها بعض أنواع النقل. ومن هذه المواد، كانت تحضر حلويات الفالوذج واللوزينج والأخبصة والعصيدة والقطائف، ومختلف أنواع المربيات المصنوعة من ثمار المشمش والسفرجل واللوز والجوز وغيرها. وكانت هذه الحلويات، هي للخاصة. أمَّا العامة، فكانت حلوياتها تتخذ من العنب الأسود ومن الحلاوة المدكوكة بالبيض كالناطف والمبربخ. المقاهي الشعبية وفي مطلع القرن الماضي، بدأت بغداد تشتهر بالمقاهي التي أخذت تنتشر في كل مكان من نواحيها. وقد تحولت في فترة قصيرة الى نوادٍ اجتماعية يلتقي فيها الأدباء والشعراء والتجار والموظفون والعمال من ذوي المهن المختلفة. وكان عدد كبير منهم يتحلق للعب بالنرد والدومينو والمنقلة. وهذه اللعبة الأخيرة خاصة بالبغداديين. وكانت هذه المقاهي ترتدي في رمضان حلة أخرى، فتكفّ في النهار عن الملاهي البسيطة تعففاً وحرمة لشهر الصوم. أمَّا في الليل فيحضر عازف الرباب، يشنف رواد المقهى في الأمسيات الرمضانية بأنغامه الشجية. كما يحضر "القصاصون". إذ كانت للقصاص مكانة مرموقة، حيث يمتع الرواد بالقصص والأساطير المسليّة. ويعتبر ملا ابراهيم الموصلي توفي 1308ه وابنه ملا خضر 1912م من أشهر قصّاصي بغداد. ومن المقاهي التي اشتهرت في بغداد "مقهى سبع" و"مقهى وهب" ومقهى "عزاوي"، وجميعها في محلة الميدان قرب باب العظم. وقد اختص مقهى "عزاوي"، بعرض ألعاب "الكراكوز" طيلة شهر رمضان. وكان يتحول ليلاً الى مسرح شعبي كما يقول البغداديون. أمَّا مقهى "القراء خانة" وهو مقهى عثمان، فكان يقدم الشاي والقهوة مساءً. أمَّا في صباح رمضان فكان الزبائن يقرأون الجرائد التركية الواردة من استانبول. وقد عرف أيضاً من المقاهي المميزة في مطلع القرن الماضي "مقهى مميز"، قرب المدرسة المستنصرية. وكان يغني فيه في رمضان مطرب المقام العراقي المعروف أحمد زيدان. أمَّا مقهى "العنبار"، فكان رواده من التجار كذلك فإن مقهى "التبانة"، كان يقدم العروض الهزلية التي تسلي الصائمين. * أستاذ في الجامعة اللبنانية.