"رمضان زمان أحلى"، جملة كثيراً ما يرددها المصريون في سهراتهم الرمضانية. ولا أحد يعرف هل هي حقيقة، أم أنه الحنين الى الماضي؟ كانت هناك طقوس ومظاهر تميز الاحتفال برمضان، لا سيما في احياء مصر الشعبية وقد إختلفت حالياً وبعضها اختفى تماما، ربما كان اكثر ما يميزها هو ذلك الشعور الجمعي بالبهجة. وهذا الطقس الديني فرصة لإظهار الود والتكافل الاجتماعي في شكل حقيقي قبل ان يتحول الجميع الى جزر منعزلة، وتختزل هذه المناسبة الدينية الى احتفالات اعلامية وسباقات تلفزيونية، فيتناول الصائمون افطارهم وهم مشدودون الى مقاعدهم لمتابعة سيل عارم من المسلسلات والبرامج التلفزيونية المكررة والمعادة. في هذا التحقيق السريع تمارس "الحياة" اللعبة السحرية وتركب آلة الزمن وتعود الى قاهرة المعز في الثلاثينات والاربعينات والخمسينات لنتعرف الى مظاهر رمضان من خلال ذكريات عزيزة جدا على اصحابها. العباسية في منتصف الاربعينات تستقبل رمضان الذي حل في عز الصيف و"المسحراتي" يجوب شوارع وحارات ضيقة لإيقاظ المسلمين للسحور، مرددا اسماءهم بعد توظيف هذه الاسماء في عبارات سجعية طريفة تطرب اصحابها. هذا المسحراتي لم يعد له وجود تقريبا أو اصبح له وجود فولكلوري بعدما تبرع التلفزيون بالقيام بالمهمة، فالصائمون يسهرون أمام التلفزيون الى ما بعد السحور !! هذا المشهد هو اول ما يسجله شريط الذكريات الخاص باستاذة علم الاجتماع في جامعة الزقازيق هدى زكريا عن رمضان، وتقول إن المجتمع كان يتمتع بقدر كبير من الأمن والطمأنينة فكان احد مظاهر البهجة ان يخرج الاطفال بعد الافطار للمرور على بيوت الجيران طمعا في النقود أو الحلويات وهذا ما كان يعرف باسم "عادة رمضان" وساهم في هذا الجو من البهجة وجود المذياع الذي كان يبث قبل الافطار القرآن الكريم بصوت القارئ محمد رفعت وقد تحول صوته الى علامة من علامات رمضان، ثم المسلسل الذي تبثه الاذاعة على مدى سنوات طويلة، وهو مسلسل "ألف ليلة وليلة" فكان المصريون يلتفون حول المذياع للاستماع الى المغامرات المسلية التي استلهمها الشاعر طاهر ابو فاشا من "الليالي" واخرجها الرائد الاذاعي محمد محمود شعبان. ويلفت نظر زكريا أن الطبقة المتوسطة كانت اكثر الطبقات حفاظاً على طقوس معينة، لا سيما المناسبات الدينية مثل الزيارات المتبادلة بين الاقارب والجيران رغبة في إظهار الود والتماسك الاجتماعي. ويلفت نظرها ان المصريين فيما مضى لم يمروا بأزمات اقتصادية حادة بسبب رمضان، لوجود شكل من اشكال التكافل الاجتماعي الصحيح والحقيقي، فلم يكن هناك مثل هذا الفزع الاستهلاكي بالاضافة الى روح التكافل، وحرص الغني على إطعام الفقير وكسوته طمعا في ثواب هذا الشهر الكريم. الفنان علي دسوقي صاحب الرسوم والتيمات الشعبية، ولا سيما تلك التي تحتفي بالمناسبات الدينية والاعياد الشعبية، يقول إنه عاش وترعرع في حي الازهر العريق، ولذلك فإن معظم اعماله مستمدة من المشاهد المحفورة في ذاكرته منذ الطفولة في الاربعينات والخمسينات فكان دائم التنقل بين الاحياء الشعبية مثل الازهر والحسين حيث مقهى الفيشاوي المشهور، وحي الجمالية وسوق خان الخليلي وسوق الذهب، فهذا الجو الاسطوري الخيالي هو الذي شكل وجدانه. فرمضان بالنسبة له هو الحارة الشعبية والسهر من اجل اللعب قبل اختراع التلفزيون وخصوصاً لعبة "خيال الظل" والتي لم تكن تحتاج الى اكثر من مصباح وملاءة سرير. وكانت الالعاب تجري في حوش البيت، وتستمر الى السحور. كذلك الالتفاف حول المسحراتي وترديد الاغاني معه على ايقاع طبلته المشهورة. وكان يستمتع بعد تناول السحور بالاستماع الى قرآن الاذاعة المنقول من مسجد سيدنا الحسين، ثم الابتهالات الدينية التي كان يؤديها اساطين كبار، مثل الشيخ طه الفشني وبطانته والشيخ نصر الدين طوبار. ويقول ان كل ذلك ترسخ في وجدانه حتى أنه تفرغ من عمله في وزارة الثقافة المصرية في الستينات لرسم العادات والتقاليد الشعبية، ومنها المسحراتي وفانوس رمضان. صفوت كمال استاذ الادب الشعبي الذي عاش في حي شعبي هو العباسية، ابرز ما تعيه ذاكرته من رمضان زمان هو المسحراتي "المحترف"، وكان هذا المسحراتي يوقظ النائمين بناء على طلبهم وكانت مهنة المسحراتي في ذلك الوقت مهنة محترمة، وكان هناك رئيس أو شيخ للمسحراتية وربما نقابة. وشخصية المسحراتي هي تطوير لشخصية المنادي ايام المماليك في غير رمضان، وكانت وظيفته اشبه بوسائل الاعلام حاليا، من حيث إخبار المواطنين بالاخبار او الفرمانات المملوكية، أو الاعلان عن عرس او وفاة. ويقول كمال إن المسحراتي كان يستعين في العشر الأواخر من رمضان بجوقة وآلات زمر وطبل لتوديع او "توحيش" رمضان مرددا""ما أوحش الله منك يا شهر الصيام". وكانت هذه من علامات رمضان المميزة، فالاحتفالات تأخذ طابعاً فلكوريا مميزاً ما زالت تحتفظ به كتب التراث الشعبي. ويقول كمال إنه يدخل ايضا في هذا التراث الاحتفالات التي كانت تشهدها المناطق الشعبية مثل الحسين، ابتداء من ليلة الرؤية حين كانت تخرج جميع الطوائف والمهن والطرق الصوفية لاستطلاع رمضان من فوق هضبة المقطم في احتفالات شعبية وكرنفالية رائعة، بالاضافة الى الاستماع الى ترتيل القرآن الكريم بأصوات قارئين عظام من امثال الشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفى اسماعيل والشيخ الحصري. ويضيف: إن الاحتفالات الرمضانية كانت تأخذ طابعاً احتفاليا فريدا من نوعه اهتم به واستوعبه الادب الشعبي في كل جوانبه من رسم الى تسجيل وحفظ لهذه العادات والتقاليد التي شارف معظمها على الانقراض. الروائية سلوى بكر لها رواية عنوانها "الزمن الجميل" فيها حنين جارف الى الايام الجميلة التي ولت، وترى أن سبب البهجة التي كان يعيشها المصريون هي قدرتهم على تحويل هذا الطقس الديني الى مناسبة للبهجة والفرحة والتقارب وإظهار الود. وتقول إن اكثر ما يعلق بخيالها من ذكريات رمضان زمان هو ذلك الحرص على الزيارات المتبادلة وتقاسم المأكولات والحلوى إذ ان الجيران كانوا يتبادلون صواني حافلة بألوان الاطعمة والحلويات من باب إظهار الكرم والود في هذا الشهر الكريم. وتقول بكر إنها لاحظت ايضا ان الاحتفالات بقدوم هذا الشهر الكريم لم تكن تفسد المناسبة الدينية او تحولها الى مظاهرة اعلامية، فكان المصريون احرص على اداء الشعائر الدينية في الشكل الصحيح بعيدا عن أي اهتمام بالمظهر على حساب الجوهر، وقبل ان تتحول المناسبة الدينية الى فرصة لاظهار التفوق المادي والاجتماعي الذي تعكسه العزائم واقامة موائد الرحمن بالشكل المبالغ فيه، لأن قضية التكافل فيما مضى كانت قضية محسومة ولا تحتاج الى نقاش. فالغني يساعد الفقير في كل الاوقات وليس فقط في شهر رمضان. واكثر ما تتذكره بكر من رمضان زمان ان البيوت، ولا سيما العريقة كانت مفتوحة في شكل دائم لإفطار الصائمين والغرباء وعابري سبيل من دون الاعلان عن موائد الرحمن وهي الظاهرة التي انتشرت في مصر حاليا، وعدد من هذه البيوت كان يقيم احتفالات دينية رائعة، إذ كانت تدعو كبار المنشدين الدينيين لاحياء ليالٍ رمضانية رائعة، يؤدون فيها الموشحات والاغاني الدينية، وذلك قبل ان يظهر التلفزيون ويفسد كل المناسبات الدينية وغير الدينية.