ارتبط تاريخ المجتمع الاميركي منذ البداية بالعنف والقتل وممارسة عمليات الابادة البشرية ونشر الخراب وترويع المسلمين او المستضعفين، وتستوي في ذلك هجمات المستوطنين الاوائل الوافدين من اوروبا على السكان الاصليين الذين اصطلح على تسميتهم بالهنود الحمر للقضاء عليهم وابادتهم تماماً او على الاقل - كما تحقق فعلاً - طردهم الى مناطق منعزلة وبعيدة عن تلك التي اقام فيها هؤلاء المستوطنون الغزاة تجمعاتهم ومجتمعاتهم، او تبادل الهجمات المسلحة في ما بينهم هم انفسهم اثناء الصراع على الارض او البحث عن الذهب، او السلوك الوحشي العنيف الذي قد يصل الى حد القتل لاتفه الاسباب ضد العبيد الارقاء من الزنوج الذين اصطادهم تجار الرقيق الاوروبيون من غرب أفريقيا خصوصاً. وربما كان ذلك السلوك القاسي العنيف هو قمة الوحشية على اعتبار ان الاسترقاق مع سوء المعاملة هو نوع من القتل أو الاعدام المتواصل المتجدد كل يوم، وكل ساعة لانه يحرم الاحياء من معنى الحياة الانسانية، ثم امتد ذلك العنف بالتدريج، ولكن بخطوات واثقة ومحسوبة، الى خارج اميركيا الشمالية لكي يصل الى كثير من مناطق العالم المتفرقة متخفياً وراء شعارات انسانية براقة وتبريرات جاهزة تظهر الانسان الاميركي بصورة المنقذ والمخلص من الفقر والتخلف والمرض أو من استعمار الاخرين، وكانت الاداة الفاعلة والفتاكة في ممارسة هذا العنف هي البندقية بأشكالها واسمائها المختلفة وقدراتها المتنوعة على اداء المهمة المطلوبة منها والتي تتراوح بين القتل الفردي السريع ونشر الرعب والخراب والتدمير على اوسع نطاق ممكن وقتل اكبر قدر ممكن من البشر في اسرع وقت ممكن أيضاً، والظاهر أنه على رغم كل ما حققه المجتمع الاميركي من تقدم في مجالات العلم والتكنولوجيا المختلفة فلا تزال البندقية تحكم الى حد كبير العلاقات بين الناس من مختلف قطاعات المجتمع، وتتدخل في إنهاء الخلافات - او ما يبدو أنه خلافات بين الناس على الامور التافهة، والمثال على ذلك هو ما ذكره بعض الاخبار منذ فترة غير بعيدة عن أن احد الشبان الاميركيين اطلق الرصاص على زميله في العمل اثناء تناولهما الغذاء معاً لأن الزميل الذي اصبح قتيلاً اخذ قطعة من الخبز موضوعة امام القاتل من دون ان يستأذنه. وكثرة هذه الحوادث على مختلف المستويات تجعل من استخدام البندقية احدى السمات البارزة في الثقافة الاميركية، ويحاول كثير من الكتاب الاميركيين درء هذه التهمة والاعداء بأن انتشار الاسلحة النارية في أميركا مسألة حديثة نسبياً ويردونه الى التغيرات التي طرأت على العالم كله نتيجة للحربين العالميتين اللتين وقعتا في القرن العشرين، وان كان البعض الاخر يرى ان الحرب الاميركية الاهلية هي المسؤولة عن انتشار العنف بين الاميركيين المسالمين بطبيعتهم، وهم في ذلك يسقطون من الاعتبار حملات الابادة الجماعية التي قام بها اسلافهم المستوطنون الاوائل ضد الهنود الحمر، الذين كانوا يعتبرون، على اية حال جماعات همجية يجب القضاء عليها، وهي نظرة ظلت سائدة حتى القرن التاسع عشر ليس فقط بين الوافدين الاوائل الى أميركا بل وأيضاً بين المستعمرين البريطانيين في نظرتهم الى القبائل الافريقية، ومهما يكن الاختلاف في الرأي حول هذه المسألة، فالواضح من واقع التاريخ الاميركي ان البندقية كانت ولا تزال وسيلة حاسمة في إنهاء الخلافات بين الاميركيين انفسهم حين يصعب الوصول الى حل أو حين لا تكون هناك رغبة في الوصول الى حل من طريق التفاهم، وليست الخطورة هنا هي انتشار الاسلحة النارية في ايدي المدنيين من مختلف الاعمار بأعداد كبيرة بقدر ما تكمن في هيمنة البندقية وثقافة البندقية على عقول الناس. والحقائق والمعلومات المتاحة تكشف مدى تسلط ثقافة البندقية على سلوك الانسان الاميركي المعاصر، وعن العلاقات الحميمة بينه وبين البندقية التي اصبحت جزءاً من شخصيته الاجتماعية، فالتدريب على استخدام السلاح الناري منذ الصغر امر شائع حتى بين سكان المدن بحيث اصبح هذا التدريب على السرعة والكفاية في استخدام ذلك السلاح جزءاً من التنشئة الاجتماعية التي يحرص كثير من الآباء على تربية ابنائهم عليها، ومن الامور المألوفة ان يهدي الاب ابنه الصغير، وهو في سن العاشرة من عمره مثلاً - مسدساً حقيقياً مع الطلقات الحية في المناسبات المهمة، مثل مناسبة اعياد الميلاد الكريسماس التي يفترض انها اعياد السلام والامن والطمأنينة والمحبة، ولذا فليس من المستغرب ان تحمل وسائل الاعلام اخباراً عن حالات لتلاميذ صغار في المدارس الابتدائية يطلقون الرصاص من مسدسات سريعة الطلقات على زملائهم من الاطفال وعلى مدرسيهم، بل وليس من المستغرب ان يعلن - كما حدث من شهور - احد متاجر بيع الاسلحة في مدينة دنفر عن انه استورد احدث البنادق والمسدسات لمناسبة بدء العام الدراسي وان يبيع اربعمائة مسدس في ايام قليلة، ولذا فإنه يبدو من المنطقي ومن المقبول عقلاً ان يضع بعض المدارس الابتدائية على ابوابها الخارجية اجهزة للكشف عن الاسلحة حتى لا تتسرب الى داخل المدرسة مع التلاميذ الصغار وتتكرر مآسي قتل الاطفال والمدرسين. وفي كتاب صدر حديثاً في اميركا وكان له صدى واسع بين مختلف الاوساط، وعنوانه "تسليح اميركا" The Arming of America يقول المؤلف ميكائيل بلسيلز في عقد التسعينات الماضية وفي اميركا حوالى مليوني حالة عنف عموماً منها اربعة وعشرون الف حالة قتل في المتوسط كل سنة، اكثر من سبعين في المئة منها كان من طريق اطلاق الرصاص من البنادق والمسدسات، وذلك بخلاف حالات الانتحار التي استخدمت فيها هذه الاسلحة النارية، وان عدد الذين يقتلون بالرصاص في اميركا خلال اسبوع واحد يفوق عدد الذين يقتلون بهذه الطريقة في كل اوروبا الغربية خلال عام كامل، ولذلك يرى الكثيرون ان استخدام البندقية هو احد العناصر المكونة، بل والمميزة للثقافة الاميركية المعاصرة، بل واعتباره هو نفسه "ثقافة اميركية وطنية" ينفرد بها المجتمع الاميركي دون غيره من مجتمعات العالم. هذه الحقائق والوقائع وغيرها كثير جداً قد تؤخذ على أنها مؤشرات صادقة على طبيعة المجتمع الاميركي التي تميل الى العنف، ولكنها بالاضافة الى ذلك لها ابعاد اخرى تتعلق بالسلوك السياسي الذي تعدى نطاق المجتمع الاميركي، ويتدخل في تشكيل العلاقات السياسية مع بقية دول العالم، وهي علاقات تتأثر بالضرورة بامكان استخدام العنف والالتجاء الى البندقية من جانب اميركا إذا اقتضى الأمر ذلك، وتعارضت المصالح وتعذر الوصول الى اتفاق يرضي الجانب الاقوى، ويحقق له مطالبه التي كثيراً ما تكون على حساب الطرف الضعيف او المستضعف على الاصح، وهذا لا يختلف كثيراً من حيث المبدأ والتصور العام عن قتل الزميل لزميله حين امتدت يد القتيل الضعيف إلى قطعة الخبز التي اعتبرها القاتل المسلح حقاً له، وتعارضت بذلك المصالح الضيقة المحدودة لكي ينهي المسدس ذلك التعارض بسرعة وكفاية بصرف النظر عن الابعاد الاخلاقية لهذا السلوك، وثقافة البندقية تحكم العلاقات أيضاً مع العالم الثالث الذي تنتهي اليه المجتمعات العربية - وتفسر - الى جانب عوامل اخرى ذات طابع عملي وتكنولوجي واقتصادي - موقف الاستعلاء من هذا العالم المستضعف والرغبة في فرض الهيمنة السياسية والثقافية عليه، وتوقيع العقوبة الرادعة التي تستخدم فيها البندقية بكثرة فائقة وبمختلف اشكالها وتنوع قدرتها على الفتك والتدمير إذا اتجه هذا العالم وجهات لا تتفق مع وجهة النظر الاميركية. وتمثل مؤازرة اميركا لاسرائيل منذ قيامها قمة التعبير عن الملامح الاساسية المميزة لثقافة البندقية ومبادئ فلسفة العنف التي تؤمن بها هذه الثقافة والتي تتجسد على ارض الواقع في عمليات القتل والابادة وطرد السكان الاصليين من ديارهم والتفرقة العنصرية حتى بين الوافدين الجدد انفسهم، فاميركا تساند اسرائيل طيلة الوقت في سياستها القائمة على توزيع او تشتيت الفلسطينيين بين الدول العربية وابعادهم عن وطنهم الاصلي أو ابادتهم تماماً إن امكنهم ذلك من طريق الاعتداءات المسلحة المتكررة والمتواصلة التي لا تختلف في شيء عن حملات الابادة الجماعية التي كانت تنتهجها عصابات الوافدين الاوروبيين الاوائل الى العالم الجديد، ومن هذه الناحية تعتبر اسرائيل صورة مصغرة من اميركا، وتكوين المجتمع الاسرائيلي من جماعات وافدة من مختلف انحاء العالم وتنتمي في الاصل الى جنسيات متنوعة ومتباينة ولا يجمعها سوى الانتماء - الذي كثيراً، ما يكون ظاهرياً - إلى ديانة واحدة، وهو نموذج مصغر من تكوين المجتمع الاميركي المتعدد الاعراق والألوان واللغات والثقافات. كما ان المعاناة الطويلة التي عرفها المجتمع الاميركي ازاء التفرقة العنصرية والتمييز بين الاعراق والألوان، والاضطهاد الذي وقع على السكان السود من الاميركيين البيض عموماً، وبخاصة في الولايات الجنوبية وعلى أيدي بعض التنظيمات الارهابية المتطرفة مثل جماعات "كو - كلوكس - كلان" وما كان السود يتعرضون له من حوادث القتل لاتفه الاسباب، كأن يرفض الرجل الزنجي ان يتنحى عن الطريق لمرور الانسان الابيض، او ان يتجرأ الرجل الزنجي وينظر الى امرأة بيضاء بنظرة اعجاب خاطفة، هذه المعاناة ذاتها يعاني منها المجتمع الاسرائيلي في التفرقة والتمييز بين يهود اوروبا ويهود الشرق الاوسط واليهود السود مثل الفلاشا الوافدين من اثيوبيا وان لم تصل الى حد القتل، فاسرائيل هي المرأة التي تريد اميركا ان ترى فيها نفسها بكل تاريخها، وممارستها للعنف وعبادتها للبندقية، والعالم العربي لا يرتفع كثيراً في نظر اميركا عن الهنود الحمر، ولم تكن كل قبائل الهنود الحمر جماعات من الهمج. كما يريد الاميركي الابيض تصويرهم، إذ كان لبعض هذه القبائل حضارات قديمة لا تزال اثارها قائمة وتثير الاعجاب. وحين يتعامل العرب مع اسرائيل فإن عليهم أن يدركوا انهم لا يتعاملون مع الولاية الثالثة والخمسين من الولاياتالمتحدة الاميركية، كما يقول البعض ولكنهم يقفون وجهاً لوجه امام اميركا المصغرة التي تعكس اصل الصورة في نظرتها المتعالية التي تستند الى قوة البندقية التي لا يجدي معها في كثير من الاحيان التفكير العقلاني، ولا الاعتبارات الانسانية الراقية. * انثروبولوجي مصري.