الثمة عاملان رئيسيان ساهما في بلورة معالم مميزة للشخصية الاميركية خلال سني الحكم البريطاني قبل حرب الاستقلال، الأول: انصهار جماعات من جنسيات أوروبية مختلفة في بوتقة واحدة أدى إلى ظهور شعب جديد، والثاني: استيطان بلد جديد، ذي ثروة وافرة لا شرط لتملكها غير النشاط والشجاعة. فما حلّ العام 1775 حتى كان المجتمع الاميركي المتميز عن غيره بزغ وأضحت له سماته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الخاصة به، وحتى باتت غالبية أفراد ذلك المجتمع مختلفة عن أفراد الشعوب الأوروبية التي وفدوا منها، وإن كانت ظروف الهجرة مكنت اللغة الإنكليزية والنظم الانكليزية من أن تكون لها الهيمنة على غيرها. ذلك أن المهاجرين من الألمان والفرنسيين لم يحاولوا إنشاء مستوطنات خاصة بهم، واختاروا الاختلاط بالمستوطنين الأوائل من الانكليز، مع تبني لغتهم ونظمهم، وكان ثلاثة أرباع الشعب الاميركي وقت نشوب الثورة من أصل بريطاني، أما الربع الباقي فالألمان هم أهم عنصر فيه، وهم الذين أقاموا في اميركا أول مصنع للورق، وأول مصنع للبيرة، وأول مصنع للغزل والنسيج، كما كانوا مزارعين ممتازين، وإن لم يبدوا اهتماماً كبيراً بالاستكشاف والتوسع واستيطان مستعمرات جديدة، تاركين تلك المهمة للمهاجرين الاسكتلنديين والايرلنديين الشديدي الكراهية للحكم الإنكليزي، الشديدي العداء للهنود الحمر، وهم الذين سرعان ما وسعوا حدودهم جنوباًَ وغرباً، وطبعوا الحياة الاميركية بطبعهم. فرضت قسوة الحياة في المستعمرة الجديدة على المهاجرين إليها أن يكونوا مزارعين وصائدين ومحاربين في وقت واحد، خشني المظهر والسلوك، ذوي موقف عملي بحت من الحياة. كان منهم من وفد على اميركا من بريطانيا فراراً من ديون عليه، ومن ألمانيا بعد أن أنهكت ثرواتها الحروب المتصلة، ومن اسكتلندا وأيرلندا هرباً من القوانين التجارية الانكليزية. وكانوا وغيرهم يرون في اميركا أرض الميعاد، وفرصة سانحة لتكوين الثروات، ونيل الحرية والاستقلال ولبدء حياة جديدة في ظل نظام اجتماعي جديد، يُعامل الفردُ فيه - كما لم يُعامل قط في موطنه الأصلي- باعتباره إنساناً ذا حقوق وكرامة، وكان موقفهم هذا من حياتمه الجديدة هو المسؤول الأول عن طبع الشخصية الاميركية بطابع التفاؤل الذي لا يقهره شيء. كان شيوع التمييز والاضطهاد الديني في الاقطار الاوروبية في القرن السابع عشر هو أهم اعتبار وراء تدفق المهاجرين على اميركا، فلا غرو أن يتمسك هؤلاء أينما حلّوا، ومنذ البداية، بالحقوق والحريات والحصانات السياسية الانكليزية التي نص عليها العهد الأعظم الماغنا كارتا والقانون العام في بريطانيا، مع التوسع في ضمانات الحرية الشخصية والسياسية، وتأكيد ضرورة التسامح الديني، والدعوة الى تعايش الملل والنحل المختلفة في جو من الوئام. فأما عن العبيد الزنوج الذين كانت تأتي بهم السفن الهولندية قسراً من غرب افريقيا ثم يباعون للمستوطنين البيض، فقد أبت طائفة "الكويكرز" شراءهم لعدائها الشديد للرق، كما كان من النادر أن يشتريهم الألمان والاسكتلنديون والأيرلنديون لتفضيلهم العمل بأنفسهم في مزارعم ومصانعهم. غير أن أصحاب الضياع الشاسعة في الجنوب، توسعوا في شرائهم واستخدامهم في زراعة الأرض. وكان هؤلاء الأثرياء من مزارعي الولايات الجنوبية، رغم اهتمامهم الشديد بالسياسة، على عداء مع كل ما يتصل بالثقافة والفنون، عازفين عن التوسع في تشييد المدن أو الإقامة فيها. ففي حين ظهرت في مدينة بوسطن أول جريدة في الشمال العام 1690، تأخر صدور أول صحيفة في الجنوب حتى العام 1736، ولا عُرض في الجنوب عرضٌ مسرحي واحد تقدمه فرقة محترفة حتى قُبيل نشوب الثورة الاميركية. كانت الأحوال في الولايات الشمالية شديدة الاختلاف عن الحياة في الجنوب. أما الولايات الوسطى فقد جمعت بين الاثنين، لم يعرف الشمال الضيعات الواسعة، ومزارع الطباق والقطن والرز الشاسعة، وكانت برودة الجو فيه حافزاً على النشاط والإقبال على العمل اليدوي والانتاج الصناعي. أما في الجنوب فقد اعتمد البيض من أهله على عمل الزنوج المضني في قيظ الشمس الحارقة، تحت رقابة عدد صغير من الملاحظين البيض القساة. أما العبيد من الزنوج الذين استُخدموا للعمل في المنازل فكانوا يعاملون من اسيادهم معاملة أفضل نسبياً. ومع ذلك كان ثمة الكثير مما يجمع سكان الولايات جميعاً ويُضفي عليهم سمات مشتركة. فبالاضافة إلى شيوع اللغة الانكليزية بين الكافة وخلْقها رباطاً قوياً بينهم، تبنت الولايات كلها شكل التمثيل النيابي في الحكم، وأقرت حرية التعبير والصحافة والاجتماع وسائر الحقوق المدنية، وتمسكت بمبادئ التسامح الديني وحرية العقيدة، وشاع فيها التزاوج بين الانكليز والايرلنديين والألمان والفرنسيين والهولنديين والسويديين، كما شاعت روح قوية من المبادرة الفردية واغتنام الفرص، والإيمان بقدرة الفرد على الصعود من الحضيض الى القمة، من دون أي اعتبار لامتيازات خاصة، وكذا الإيمان بأن للشعب الاميركي رسالة خاصة في الحياة، وأمامه قدَرٌ لم يُكتب لشعب غيره. وكان لكل هذا، مع ثراء الغالبية ونشاطها الجمّ، في جو من الحرية والابداع، أثره في ترسيخ التفاؤل والثقة المفرطة في النفس، والرضا المبالَغ فيه عن الذات، وفي شيوع روح من المرح والابتهاج، والموقف الايجابي العملي من الحياة. اضطرت القوات البريطانية الى الاستسلام، واضطرت بريطانيا العام 1783 الى إبرام معاهدة تعترف باستقلال الجمهورية الاميركية الجديدة عنها. ولم يكن الجيش الانكليزي وحده الذي ترك الولاياتالمتحدة الاميركية بعد انتهاء الحرب. فقد صحبه الى انكلترا عدد كبير من الاميركيين المحتفظين بولائهم للتاج البريطاني، وهاجر الى كندا أكثر من ستين ألفاً منهم، والى جزر الهند الغربية عدد أكبر من عدد المهاجرين الى كندا. وخلّف هؤلاء من الدور والممتلكات والضياع الكبيرة ما سرعان ما خلّفهم فيها اميركيون من طراز جديد قوامُه التجار وأرباب الصناعة والمضاربون، يميزهم النشاط والطاقة والرغبة الفجّة في إثبات الذات، الكل في عجلة من أمرهم، لا شاغل يشغلهم غير الدولار وسبل تحصيل الثراء الطائل والعاجل، لا تهمهم الفنون والثقافة في شيء، ولا يتمسكون بغير مبدأ المساواة، وبغير شكل من أشكال الديموقراطية يوافق هواهم، ويحقق مصالحهم. بدأت الفوارق بين الطبقات في الذوبان، وتقسمت الضياع الواسعة بين الابناء، أو بيعت أجزاء منها للوافدين الجدد من أوروبا حتى يتمكن الابناء من الترحال بثمنها تجاه الغرب، كما صودرت الأملاك العريضة التي كانت للإنكليز والموالين لهم، وبيعت بثمن بخس لمزارعين صغار كان حلمهم منذ سنوات قليلة أن يفلحوها بأجر. غير أن الاتصال بين أنحاء الدولة ظل ضعيفاً بطيئاً بسبب رداءة الطرق، ومشاق السفر. وكان معظم الناس يعيشون بمعزل عن الآخرين، المدارس تدعو الى الرثاء، والكتب قليلة، والصحف نادرة، والحياة عموماً فجة تعوزها وسائل الراحة، والشعب وإن كان غنياً شديد الثقة بنفسه، يفتقر الى آداب التعامل والى الثقافة الرفيعة. وإذ كانت حكومة الولاياتالمتحدة ترحب بالمهاجرين اليها للتعويض عن الهجرة منها، فقد تدفق سيل منهم من العالم القديم، حتى خُيل الى الاميركيين أن نصف تعداد أوروبا وفد عليهم. لاحظ الزائرون الأجانب للولايات المتحدة في عهد أندرو جاكسون 1829 - 1837 أن الحياة فيها باتت أكثر ديموقراطية، وأن تعامل الأفراد بعضهم مع البعض أصبح أبعد عن الشكليات والرسميات، وأن السلوك عموماً أضحى أقل تهذيباً واشبه بسلوك رعاع الناس. كانت زوجة جاكسون نفسها شبه أمية، وتدخن غليوناً كغليون الهنود الحمر. كانوا يبصقون على الأرض، ويتناولون الطعام في عجلة وهم وقوف، ويسرعون الخُطى في الشوارع وكأنما يهرعون لإطفاء حريق، ويدسون أنوفهم بوقاحة في شؤون الغرباء، يفخرون بأنفسهم في عجرفة، ويميلون الى العنف واستخدام السكاكين والمسدسات في شجاراتهم، ولا يتورعون عن إحراق من يغضبون عليه من الزنوج والهنود الحمر، ولا يقيمون أي وزن لحياة الغير. وأسهم في تكييف الحياة والشخصية الاميركيتين تلك الهجرات المتزايدة صوب الغرب بحثاً عن أراضٍ جديدة، وفرص أوفر واسرع للثراء. وهي هجرات تحمل في طياتها مشاق إزالة الغابات والأدغال وبناء المساكن، وفلاحة الأرض الجديدة، وأخطار الصدام مع الهنود الحمر، أو لقاء الحيوانات المفترسة. وزاد هذا من خشونة المظهر والطباع والتعامل، وزاد أيضاً من قوة العزيمة والاحتمال، وروح المبادرة عند الافراد وتمسكهم بحرياتهم، والمهارة في استخدام الفأس والبندقية وسنارة صيد الاسماك، وفي نصب الفخاخ للحيوان وللهنود الحمر، وزراعة الغلال والخضروات والفواكه. كان هؤلاء الروّاد يشترون الأراضي بثمن بخس، حتى إذا ما زادت الهجرة وارتفع ثمن الأرض، باعوها وانتقلوا غرباً الى أراض جديدة يشترونها بثمن بخس. فإن كان الاوائل من هؤلاء الرواد من المزارعين والصيادين، فقد بات منهم الان اطباء ومحامون وتجار وصحافيون وقساوسة وميكانيكيون وسياسيون ومشتغلون بالمضاربة على الأراضي ومدرسون للاطفال، ونشأ معظم هؤلاء في بيئة لا تمت لبيئة العالم القديم بتقاليده وعاداته بصلة، وأضحت قيمة الفرد لا تحددها عراقة أسرته، أو حجم ما ورثه عن آبائه من ثروة، أو عدد السنوات التي قضاها في الدراسة وما حصل عليه من شهادات جامعية، وإنما تحددها قدراته الذاتية وامكاناته، وأدى ذلك كله الى مساواة في الفرص الاقتصادية، أدت بدورها الى مساواة اجتماعية وسياسية. لم يعد العامل يتذلل لرب العمل من أجل الحصول على أجر، بل بات يؤدي العمل وكأنما يؤدي خدمة لمستخدميه. ولم يعد الخدم يرتدون ملبساً خاصاً بهم، بل صاروا يتناولون الطعام مع العائلة وينادون بالمعاونين Helps. غير أن الحياة في الغرب غرست ايضا العديد من الرذائل لدى الرواد، فهم عادة أجلاف خشنو الطباع، لا يطيقون النظام، شديدو الثقة بالنفس في عدوانية ظاهرة، يعتبرون إتقان ما يقومون به من عمل مضيعة للوقت، ولا وقت لديهم أصلاً لتحصيل علم او ثقافة، عنيفو الطباع يفضلون الفصل في النزاعات باللكمات أو استخدام المسدسات. هذا بالاضافة الى نزوع ملحوظ الى الجريمة، خصوصا وقد انضم اليهم الكثيرون من حضيض المجتمع والهاربين من العدالة. وكان لهذه الصفات اثرها المأسوي في تعامل النازحين غرباً مع الهنود الخمر، إذ تكررت اعتداءاتهم على أراضي الهنود على رغم الاتفاقات التي أبرمتها الحكومة معهم، يقتلون الحيوانات التي يعتمد الهنود عليها في طعامهم وملبسهم، وكان الكثيرون منهم على استعداد لإطلاق النار على أي هندي يرونه، فإن حاول الهنود الدفاع عن أنفسهم نشبت الحروب التي كانت دائماً تنتهي بانتصار البيض. كان لهؤلاء المغامرين البيض الفضل خلال الاربعينيات من القرن التاسع عشر في توسيع حدود الولاياتالمتحدة لتشمل مساحات هائلة من أخصب وأجمل اراضيها، خصوصا كاليفورنيا واوتا ونيفادا في الغرب، وتكساس ونيومكسيكو في الجنوب، وكلها مما اُرغمت المكسيك ارغاما - وبعد حرب بين الدولتين - على التنازل عنه للولايات المتحدة. فما تم التوقيع على معاهدة الصلح حتى كان الرواد النازحون الى الغرب قد اكتشفوا مناجم ذهب في تلال كاليفورنيا، فاذا الولاية تغص بموجات جديدة من المهاجرين من طالبي الثراء العاجل، يبحثون عن الذهب في مظان وجوده، واذا بمدينة جديدة تظهر بين غمضة عين وانتباهتها، هي سان فرانسيسكو، حافلة بكل مظاهر النشاط، والبذخ، والفجور. وإن كانت الارستوقراطية واخلاقياتها قد لقيت في الشمال ضربة قاصمة بخروج السادة الانكليز والموالين لهم، فقد لقيت الضربة القاصمة في الولايات الجنوبية بهزيمتها المروعة في الحرب الاهلية الاميركية 1861- 1865 والغاء نظام الرق. كان شيوع ذلك النظام في الجنوب ألحق بالفعل ضررا جسيما بأخلاقيات اهله الذين تعودوا ارهاق العبيد الزنوج بالعمل في مزارعهم، وجلدهم بالسياط إن قصروا او اخطأوا، وتمزيق الاسرة الزنجية الواحدة ببيع بعض افرادها او شرائه، وحرمانهم من فرص التعليم وتحسين اوضاعهم. كان المقصود من النظام بأسره هو تكييف العلاقة بين السود والبيض لا تكييف العلاقة بين السادة والعبيد. وهذا هو السبب في انه على رغم ما اسفرت عنه الحروب الاهلية من تغيير جذري في الوضع القانوني للزنوج، فقد بقيت العلاقات الاقتصادية والاجتماعية بين البيض والسود على حالها من دون تغيير يُؤبه له، وظلت هيمنة الاولين على الاخرين قائمة لا تهتز بسبب استمرار توفر العمالة الزنجية الرخيصة، وعجز الزنوج عن تحصيل اي قدر من التعليم. استمرت "حرب الاشقاء" اربع سنوات، قتل خلالها 000،360 رجل من اهل الشمال و000،258 رجل من اهل الجنوب. غير ان الدمار الشامل كان لحق من جرائها بمساحات شاسعة من الولايات الجنوبية، واتت النيران على مدن مثل كولومبيا وريتشموند واتلانتا، وخرب من المباني العامة ما تقدر قيمته بخمسين مليون دولار، ومن المساكن والممتلكات الخاصة ما تقدر قيمته بمئات الملايين، وقصفت المصانع وخطوط السكك الحديد، بحيث يمكن القول ان اقتصاد الولايات الجنوبية حُطم تحطيما، غير ان الدمار النفسي والخلقي كان اوسع مدى. فبعد اغتيال لينكولن اصبحت مهمة اعادة التعمير واعادة تأهيل الشعب لمواجهة الاوضاع الجديدة منوطة بخلفه في الرئاسة اندرو جونسون. غير ان الرئيس الجديد وجد نفسه عاجزا عن الحيلولة بين اهل الشمال ورغبتهم الجامحة الجنونية في الانتقام من اهل الجنوب، وواكبت هذه الرغبة في الانتقام اعتبارات سياسية واقتصادية ونزعات بالغة الانانية تتمثل في رغبة الحزب الجمهوري في استغلال الوضع من اجل استمراره في السلطة وإبعاد الحزب الديموقراطي الممالئ للجنوب، وفي جشع رجال الاعمال الشماليين وتطلعهم الى استغلال محنة الجنوب لمصلحة جيوبهم، وهو استغلال أذكى نار الكراهية بين شطري البلاد لأحقاب طويلة، وجعل الدولة بعد انتهاء الحرب الاهلية غير الدولة التي ارسى دعائمها واشنطن وجفرسون وماديسون وفرانكلين. وبالفعل لم يتمكن اي من مرشحي الحزب الديموقراطي للرئاسة من دخول البيت الابيض على مدى عشرين عاما تلت انتهاء الحرب اي حتى دخله كليفلاند عام 1885، كما لم يتول الرئاسة رجل من الجنوب حتى جاء وودرو ويلسون بعد نحو نصف قرن 1913. وقد تمخض عن الحرب الاهلية ما فتّ في عضد الكيان الاخلاقي والاجتماعي في الولاياتالمتحدة، وهو بروز طبقة من الناس لا همّ لهم غير تحصيل المال وتعزيز سلطتهم، لا يثنيهم عن المضي في تحقيق اغراضهم وازع من الضمير، ولا تتسم ميولهم وطباعهم بأي قدر من الذوق الرفيع، ولا يمكن وصفهم الا بالسوقية والجلافة، والابتذال والصفاقة، والجشع المفرط. أخضع هؤلاء اهل الجنوب لنظام خال من الرحمة خلوّه من الحكمة. فقد فرضوا عليهم هيمنة عسكرية، واعطوا للزنوج الاميين - نكاية في البيض - حق التصويت وحق سن التشريعات واختيار موظفي الحكومة، غير ان الجنوبيين البيض لم يطيقوا هذا الاذلال، فلجأوا الى الجريمة والعنف من اجل الحيلولة دون ممارسة الزنوج لهذه الحقوق، وكونوا جماعاتهم الشهيرة المعروفة بالكوكلوكس كلان لإخافة هؤلاء الزنوج ومنعهم من الوصول الى صناديق الاقتراع، بل لمطاردة الافاقين المغامرين من اهل الشمال ممن تقاطروا على الجنوب بعد الحرب اغتناماً لفرصة اضطراب الاوضاع فيه. اما في الولايات الشمالية فقد اسفرت الحرب الاهلية عن اهتمام واسع النطاق بتنمية الصناعة واستغلال المصادر الطبيعية، فبزغ جيل جديد من اقطاب الصناعة وكبار الرأسماليين، سرعان ما شجعوا المخترعين على الظهور باختراعاتهم التي تقلل من تكلفة الانتاج او تزيد من حجمه. وبذا يمكن القول ان الحرب خلقت حشداً ضخما من اصحاب الملايين، وادت الى تقسيم جديد للطبقات الاجتماعية، والى احتدام مشكلة توزيع الثروة، ومشكلة الحفاظ على الديموقراطية السياسية في ظل انهيار الديموقراطية الاقتصادية، وكذا مشكلة حماية المصادر الطبيعية من الاستغلال الجشع الاخرق لها. ومع ذلك بقيت السمة الغالبة للولايات المتحدة في تلك الحقبة من تاريخها هي النمو: نمو في المساحة وفي تعداد السكان وفي الثروة وفي القوة وفي النضج الاقتصادي، بحيث أضحت تلك الجمهورية امبراطورية وقوة عظمى، توسعت في كل من البحر الكاريبي والمحيط الهادي، واتجهت أبصار ارباب الصناعة فيها من المتطلعين الى اسواق جديدة، واصحاب المصارف من المتعطشين الى الاستثمارات الجديدة، صوب تطوير اساليب جديدة تحقق لهم الامبريالية الاقتصادية. والخلاصة انه ما من جيل في تاريخ الولاياتالمتحدة كله شهد ما شهده ذلك الجيل التالي للحرب الاهلية من تغيرات جذرية ثورية سريعة، حولت الجمهورية الزراعية التي عرفها لينكولن الى الامبراطورية الصناعية الحضرية التي عرفها روزفلت وروكفلر. غداً: بعد الحرب الاهلية * كاتب مصري.