بعد مرور حوالى شهرين على انطلاق انتفاضة الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني التي اصبحت تعرف ب "انتفاضة الأقصى" لا بد من وقفة تأمل ودراسة وتدقيق في كل المعطيات والتطورات والنتائج لتحديد مواطن الضعف والقوة وفرز الايجابيات، وهي كثيرة، عن السلبيات وهي محدودة على رغم انها كادت تشوه صورة الانتفاضة المباركة او تؤدي الى انحرافها عن طريقها. هذه الوقفة المطلوبة فلسطينياً وعربياً واسلامياً وحتى دولياً لا بد منها لاستخلاص الدروس والعبر، إما لتصحيح المسار او للاستمرار حتى تحقيق الاهداف النهائية مع التمسك بالثوابت المشروعة من تحرير الارض الى الحقوق وإقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وقبل كل شيء تحرير المقدسات الاسلامية والمسيحية وعلى رأسها المسجد الاقصى المبارك والرفض المطلق لقيام اي سيادة اسرائىلية كاملة او منقوصة على الحرم الشريف مهما كان الثمن، وهو المحرك الرئىسي لهذه الانتفاضة التي اشعلت نيران غضبها زيارة السفاح اريل شارون الاستفزازية بحماية الشرطة الاسرائيلية وموافقة حكومة ايهود باراك. وربما يحتاج الامر للجنة خاصة لفرز الايجابيات والسلبيات ورصد النتائج والدروس قبل الانطلاق للمرحلة الثانية من هذه الانتفاضة التي تتطلب قدراً اكبر من الحكمة والقدرة على مواجهة الاخطار والتحديات وتحمل التضحيات الجسيمة في الارواح والاملاك والسلطات، حتى ولو تم الالتفاف عليها بهدنة او باتفاقات او بمحاولات جر عروض لمزادات ومناقصات جديدة على حساب القضية، او بتصعيد الازمة الداخلية في اسرائىل وصولاً الى انتخابات مبكرة تهدف في النهاية الى "كسب الوقت" وتمييع الموقف وشق الصف الفلسطيني. وبانتظار اتضاح الصورة الكاملة لعملية التقويم الاولية للانتفاضة المباركة خلال الشهرين الماضيين يمكن رصد بعض الدروس والملاحظات السريعة وتحديد بعض الايجابيات والسلبيات ضمن النقاط التالية: أثبت الشعب الفلسطيني للعالم كله قدرته على الصمود وتقديم التضحيات الجسام من اجل الوصول الى حقوقه المشروعة بعدما عمَّد نضاله بأرواح الشهداء الابرار ودمائهم الزكية تمشياً مع قول امير الشعراء: وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة تدق كما اكد الشعب الفلسطيني للعالم اجمع انه مستعد لتحمل كل المخاطر والتصدي للاحتلال الغاصب بلا خوف ولا وجل، حيث رأينا بأم اعيننا الاطفال والنساء والشيوخ والشبان يقفون جنباً الى جنب بحجارتهم الكريمة وصدورهم في وجه الآلة العسكرية المتوحشة ورصاص الغدر، إضافة الى الصواريخ والقذائف المنطلقة من طائرات الهليكوبتر والدبابات والمدفعية. أعادت هذه البطولات ثقة الفلسطيني بنفسه، كما انها اعادت ثقة العرب والمسلمين به كمناضل من اجل حقه في الحياة والكرامة والسلام العادل، وردَّت على حملات التشكيك والانتقاص منه، كما فاجأت العدو قبل الصديق وكسبت احترام العالم كله على رغم ازدواجية المعايير وسيطرة الإعلام الصهيوني على الساحة الدولية ونجاحه في غسل "دماغ" ما يسمى بالرأي العام العالمي، والاميركي في شكل خاص. من الايجابيات الكثيرة الملفتة خلال شهري الانتفاضة تصميم مختلف الافرقاء على الوحدة الوطنية واحباط اي مؤامرة لاشعال نيران الفتن الداخلية وشق الصف، ولا سيما بين السلطة الوطنية الفلسطينية وحركة المقاومة الاسلامية حماس والقوى الاسلامية، او بين المسلمين والمسيحيين حيث تحلى الجميع بأكبر قدر من الحكمة والروح الوطنية العالية. ولا بد من تسجيل ايجابية مواقف حماس وعدم استغلالها الموقف الحرج، وايضاً مواقف الهيئات الدينية المسيحية التي اعربت عن تمسكها بوحدة الموقف الفلسطيني بجناحيه الاسلامي والمسيحي، من الناصرة الى بيت لحم ومن الجليل الى القدس. يُُسجل للسلطة الوطنية الفلسطينية ايضاً قدرتها على إدارة المعركة الديبلوماسية والعسكرية بحكمة ودراية والسيطرة على الأمن والعمل الاداري، ولا سيما الصحي من مستشفيات ودفاع مدني، على رغم المصاعب الكبرى التي تواجهها وآثار الحصار البري والجوي والبحري الصهيوني والأوضاع الحالية المتردية. أما على الصعيد الخارجي فقد استطاع الرئىس ياسر عرفات ان يكسب المعركة الديبلوماسية من مجلس الامن الى الجمعية العامة للأمم المتحدة حتى مؤتمري القمة العربية والاسلامية وشبكة العلاقات والاتصالات التي اقامها مع الدول الكبرى المعنية بالنزاع، ما ادى الى توجيه صفعة مدوية الى ايهود باراك الذي حاول ترويج مزاعم بأنه لم يعد شريكاً للسلام او انه غير قادر على اتخاذ القرارات. نجحت انتفاضة الأقصى في احباط محاولة اسرائىل للاستفراد بالفلسطينيين وعزلهم عن محيطهم العربي والاسلامي وعن العالم، وتصوير الصراع وكأنه من اجل بضعة امتار في إطار خلاف فلسطيني - اسرائىلي، فعادت القضية الفلسطينية الى مدارها الطبيعي قضية عربية - اسلامية اساسية ذات ابعاد عالمية بوصفها تشكل خطراً على السلام والاستقرار الدوليين ومصالح الدول الكبرى والولايات المتحدة بالذات. من الدروس المستفادة ايضاً من انتفاضة الأقصى ان الفلسطينيين قيادة وشعباً تساموا فوق الجراح ليتحلوا بأقصى درجات الواقعية والحكمة، من خلال طرق جميع الابواب وعدم التخلي عن السلام خياراً استراتيجياً، وقطع الطريق على اسرائيل التي تحاول رمي الكرة الى الملعب الفلسطيني للتنصل من كل التزامات السلام. وجاء قرار تأجيل موعد انعقاد المجلس المركزي الفلسطيني المقرر لاعلان قيام الدولة الفلسطينية ضمن هذه الروحية المرنة التي تتعامل مع الخبث الاسرائىلي بذكاء يحبط مراميه. من اهم ايجابيات الانتفاضة إعادة النبض الى الشارع العربي وعودة الروح الى الجماهير العربية من المحيط الى الخليج كوحدة طبيعية تتجاوز الحدود الاصطناعية، وهو ما كدنا نفتقده خلال العقدين الماضيين. والمهم ان يتم التأسيس على هذا الانجاز لتحقيق التضامن العربي الفعال ومنع قيام نكسة جديدة شبيهة بحال الخامس من حزيران يونيو 1967. ولعل في انعقاد القمتين العربية والاسلامية ما يشكل بداية طريق عودة الروح لهذه الأمة والرد على التحدي الصهيوني بمزيد من التضامن ووحدة الموقف، فقد حققت القمتان ايجابيات كثيرة، على رغم ما وجه اليهما من لوم وانتقاد، ووضعت آلية عملية اولية لدعم نضال الشعب الفلسطيني من خلال صندوقي الدعم المقترحين من المملكة العربية السعودية. وهناك ايجابيات ودروس اخرى لا يمكن حصرها في هذه العجالة تقابلها سلبيات تم تجاوز بعضها واستمرار بعضها الآخر، من بينها إظهار السلاح في التظاهرات واطلاق الرصاص في الهواء ما يشوه صورة الانتفاضة ويعطي اسرائىل المبرر لجرائمها... وكان من الافضل استمرار انتفاضة الحجارة بشبابها بعيداً عن الاطفال والسلاح، وترك السلاح لمناسباته الفعلية لا الاستعراضية واستخدامه في المكان والزمان المناسبين. ومن بين السلبيات ايضاً بعض التصرفات العفوية التي يستغلها العدو، مثل قضية مقتل الجنود الاسرائيليين في رام الله والتعرض لمقام النبي يوسف، وحتى حرق بعض الاعلام الاجنبية والعربية، إضافة الى ممارسات كادت تؤدي الى تفتيت الصف العربي والفلسطيني، مثل التعرض لرموز مصرية وإحراق الفنادق وبعض المنتجعات في شكل يصرف الانظار عن العدو الاساسي. ومن بين السلبيات ايضاً، وربما يعتبرها بعضهم ايجابية، إقحام عرب الداخل او فلسطينيي 1948 واستغلال اسرائىل لتحركهم المؤيد لانتفاضة الأقصى لتنفيذ مخططاتها العنصرية ضدهم عبر القتل واعتقال المئات والتشكيك بمواطنيتهم تمهيداً لتنفيذ التهديدات المعروفة ضد النواب العرب والفلسطينيين في شكل عام. وعلى رغم الاعتراف بحق هؤلاء الاخوان الصامدين في التعبير عن مشاعرهم وتضامنهم مع اخوانهم فإن من الافضل - حسب رأيي - إبعادهم عن المواجهة في هذه المرحلة لأنهم يشكلون الاحتياطي الاستراتيجي لفلسطين وللقضية في الحاضر والمستقبل داخل الكيان الصهيوني. تبقى نقطة اخيرة مهمة من دروس وعبر الانتفاضة، وهي: الإعلام ثم الإعلام ثم الإعلام... فقد اثبتت الاحداث انه كان السيد والسند والداعم الرئيسي لنضال الشعب الفلسطيني على رغم قدرات الإعلام الصهيوني وسيطرته وسطوته في العالم أجمع... وسيبقى اللاعب الأكبر في عصر الفضائيات والبث المباشر وثورة الاتصالات. ولهذا لا بد ان يفكر العرب بطريقة عملية للوصول الى الرأي العام العالمي... والأميركي بالذات عبر الإعلام. فقد حقق الاعلام العربي انجازات لا بد من تسجيلها للاشادة بدوره الجديد داخل العالم العربي الا انه لا بد من الانطلاق نحو آلية عمل جديدة ومتطورة على الصعيد الدولي، وهذا يحتاج لمقال آخر. كما ان السلطة الوطنية الفلسطينية مطالبة بدراسة ملف الاعلام وتطويره على رغم الاعتراف بأن الاعلام الفلسطيني لم يقصر ولكنه كان محدود الفاعلية. وفي إطار الحديث عن الاعلام ودوره الفاعل كأهم سلاح من اسلحة النضال في عصرنا هذا لا بد من الاشارة الى محطتين رئيسيتين، الاولى عربية والثانية اسرائيلية، فقد قلبت جريمة اغتيال الشهيد الطفل محمد جمال الدرة كل الموازين لمصلحة الفلسطينيين وحرَّكت الضمير الغائب للرأي العام العالمي وهزّت الضمير العربي والاسلامي والانساني... وجاء تصوير هذه الجريمة التي ارتكب العدو العشرات مثلها ليحسم الامر اعلامياً ويكشف القناع عن وجه اسرائىل الوحشي ويحشد التأييد للشعب الفلسطيني. ثم جاءت عملية مقتل الجنود الاسرائيليين في رام الله كخشبة انقاذ لاسرائىل لتحمي آثار جريمة اغتيال الشهيد الدرة وتستغل الصور التي التقطها مصور تلفزيون ايطالي لتشويه صور النضال الفلسطيني عبر إعادة بث هذه الصورة عشرات المرات، ما يعزز المطالبة بالتفات العرب لسلاح الإعلام والحرص على منع حدوث ثغرات او وقوع اخطاء او هفوات او ممارسات تسيء للقضية. وربما كان من الانسب تشكيل لجنة إعلامية رفيعة المستوى تضم عدداً من الاعلاميين والمثقفين والمفكرين الفلسطينيين والعرب لوضع استراتيجية فاعلة وقادرة على التصدي للإعلام الصهيوني والرد على حملات التضليل اولاً بأول عبر ناطقين رسميين يتمتعون بمصداقية وقدرة على الحوار والحديث واتقان اللغات الاجنبية ولا سيما الانكليزية والفرنسية. هذه، إذن، قراءة أولية في وجه انتفاضة الأقصى المبارك آمل ان يتم تعميقها من خلال استيعاب الدروس والعبر وتحديد الايجابيات والسلبيات من اجل استمرار النضال وتحقيق الاهداف المرجوة منها ومنع اي محاولة لاجهاضها، ليس في فلسطين فحسب بل في العالم العربي والاسلامي والعالم اجمع... وما ضاع حق وراءه مطالب وما ضاع وطن يدافع عنه طفل... ولو بحجر! * كاتب وصحافي عربي.