عندما ينجلي غبار الأيام، سيكتشف البعض منا أن الخسارة المتمثلة بانحسار السينمات الأوروبية في مواجهة الأميركية، هي أكبر مما يتبدى اليوم. الآن، يمضي معظمنا في تصريف شؤون حياته اليومية. والنقاد المداومون منا يؤمّنون أعمالهم المعتادة: مشاهدة فيلم في عرض خاص، انتظار موعد بدء عروضه الأولى، أو اقتراب ذلك الموعد على الأقل، ثم الكتابة عن الفيلم ايجاباً أو سلباً. في غمار ذلك، فإن الأفلام التي نعرضها في معظم الحالات، هي تلك التي نعلم أن الجمهور سيشاهدها. ليس عملاً بمبدأ "ما قيمة الكتابة عن الفيلم الذي لن يشاهده الجمهور"، بل لأن الكتابة يومياً أو اسبوعياً تتطلب، بدورها، ذخيرة يومية أو اسبوعية، وهذه متوافرة في ما تنتجه السينما الهوليوودية من أعمال متواصلة، ومتوافرة أيضاً بسبب الذراع الواصلة التي تمتد لترمي ما تنتجه على مساحات واسعة تمتد من كييف الى بكين، ومن ساو باولو الى صيدا. ذات مرة، كان هناك من يسأل الناقد: هل يرى الناس الأفلام التي تكتب عنها؟ وكان الجواب ضعيفاً بلا براهين. ففي المنطقة العربية كلها، كانت بيروت تنعم بأكبر عدد من الأفلام المعروضة فيها، من كل حدب وصوب. من الأفلام العربية مسبوقة بعبارات مثل "أضخم انتاج سينمائي حتى الآن" أو "مع نخبة من ألمع نجوم الشاشة العربية" - آه ويا للخسارة الى الأفلام الهندية "ولدي"، "أبي"، "أمي" وعناوين أخرى تشمل باقي أفراد العائلة الى تلك الفرنسية والايطالية. وإذا أصررت على البحث، وجدت كل شهر، احتفاء ما بالسينما الألمانية أو البرازيلية أو البولندية أو الروسية أو سواها. غزل ما... بالطبع كانت هناك السينما الأميركية والبريطانية. ولم تكونا متجاورتين كما هي الحال اليوم، بل كانت السينما البريطانية تشبه العاصمة لندن، قبل افتتاح سلسلة المحال والمطاعم الاميركية التي باتت تحتل نصف مساحاتها التجارية الآن. كانت سينما أصيلة، لديها مجموعة كبيرة من المخرجين والسينمائيين وتقاليد منفصلة. من انتاجات "ستوديو هامر" أفضل نخبة من أفلام الرعب خلال الستينات الى موجة السينما البريطانية الجديدة، مروراً بمبدعين لم نعد نسمع عنهم، أمثال كن راسل وبيرت ياتس ورتشارد لستر وبيرزي سكوليمفسكي وكان بولندياً مهاجراً وغيرهم. صحيح ان السينما البريطانية كانت دوماً تغازل الأميركية في بعض انتاجاتها، إلا أنها كانت تسبقها في المضمار الذي تنافسها فيه. لا ننسى، على سبيل المثال، أن جيمس بوند، على رغم تمويل شركة "يونايتد آرتستس" الأميركية مغامراته، انتاج بريطاني ليس من حيث التصوير وعوامل الصناعة فقط، بل ومن حيث الروح التي تشربت من روايات إيان فليمنغ. لكن الأمر اختلف في مطلع الثمانينات ولا يزال الى اليوم، إذ أصبحت "بريطانية" بوند مسألة نسبية. ما حدث، ولا يزال يحدث، للسينما البريطانية كان مريعاً. حقيقة نطقها بالانكليزية لم يشفع لها عندما ازدادت حدة هجوم الأفلام الاميركية على الأسواق الأوروبية، بل وجدت البريطانية نفسها تتأثر أسوة بباقي السينمات الأوروبية المجاورة. من يحتاج الى السينما البريطانية؟ يسأل بعض النقاد البريطانيين اليوم مع بداية دورة جديدة لمهرجان لندن السينمائي. والسؤال ساخر في معظم أوجهه، فلا أحد بالطبع يريد أن يعلن موتها، أو ينفي الحاجة المعنوية اليها. لكن السؤال يبقى جائزاً، حتى مع تخصيص المهرجان احدى نوافذه لعرض جديد السينما البريطانية، المستقل وغير المستقل. أي ذلك الذي - في النهاية - لن يرى نور العرض، لأنه محلي تماماً وغير مصنوع لعين اميركية، وذلك الذي قد يرى النور لأنه يحاول أن عيمل على منوال آمن متواصلاً مع شروط السوق العالمية. "بيلي ايليوت" هو أحد تلك الأفلام. و"خطف" هو آخر. اثنان فقط من نحو عشرين انتاجاً، يتسللان الى بانوراما السينما البريطانية ضمن الدورة الجارية. الأول فيلم يهدف الى تنويعة كوميدية - عاطفية، والثاني فيلم يقدم تنويعة كوميدية - بوليسية. وكلاهما يفكر في السوق الأميركية أكثر مما يفكر في السوق الداخلية، محاولاً توظيف الموضوع المحلي ليبدو أمام المشاهدين الأميركيين المرتقبين مثل ال"فيش أند تشيبس" أو "لندن بريدج"... صناعة محلية تصلح للسياحة. الايمان الضئيل بقدرة السوق المحلية على توفير النجاح المطلوب يقف وراء ذلك الاندفاع لإرضاء الطرف الآخر. كل من "بيلي ايليوت" اقرأ عنه في الملحق المقبل الذي يدور على صبي يريد تعلم رقص الباليه على رغم معارضة أبيه، و"خطف" إقرأ عنه في مكان آخر من هذه الصفحة الذي يتحدث عن عصابات تتنازع على الماسة وثروة من وراء المراهنة على ملاكم، يدرك أن قوته في مناورة الوضع، وبالتالي التخلي عن طموحات تحقيق الأعلى فنياً، هبوطاً الى مستوى يلتقي عنده أكبر عدد ممكن من المشاهدين. في "بيلي ايليوت" نجد هذا الهدف أكثر وضوحاً. انه فيلم يريد أن يبعث في أوصال كل المشاهدين حالاً وردية: الأحلام تتحقق،الأب يتغير، الابن يحقق رغبته، رفيق ايليوت الذي رغب دائماً في ارتداء زي النساء، يحقق أيضاً أمنيته فيتحول شاذاً جنسياً يجلس في نهاية الفيلم ب"دلاله" مع صاحبه الأسود المرة الوحيدة التي يقدم فيها الفيلم شخصاً من لون أو ثقافة خارجة. في "خطف" Snatch هناك مقاومة أفضل: المخرج غاي ريتشي يواصل اعتماده اسلوب "الفيديو كليب" في الاخراج. في هوليوود لا يصنعون أفلاماً بمثل هذا الأسلوب، لكنهم يستطيعون توزيعها اذا وردت من الخارج. هذا الأسلوب الحيوي، بصرف النظر عن جودته أو عدمها، اضافة الى الفكرة البوليسية التي تدور في نطاق العصابات اللندنية، كما الأجواء واللهجات المحلية، تؤدي الى فيلم محلي يرفض التخلي عن شروطه الخاصة. لكنه في الوقت نفسه يوظفها للبيع في السوق الخارجية ويجعل منها عنصراً في المفاوضات. ولضمان نجاح تخطي هذه الحواجز التي تمسك بها المخرج، لا بأس من الاستعانة بنجم أميركي يؤدي دوراً غريباً عليه. النجم هو براد بت الذي يؤدي هنا شخصية غجري ايرلندي! لن تفهم كلمة مما يقوله، لكن ذلك أيضاً مقصود. يكفي أن الصحف كلها ستكتب عن بت أكثر مما ستكتب عن أي من الممثلين الآخرين، وبعضهم لا يقل موهبة عنه. ضرب الحبيب زبيب في لقاء مع غاي ريتشي سألته صحافية ماذا تعتقد في رتشارد أتنبورو؟ وبشيء من التسرع أجاب: "إنه يحب أفلامي". هزت الصحافية رأسها ثم أخذت تقرأ جزءاً من مقالة نشرتها صحيفة انكليزية عن لسان مخرج "غاندي" مفادها استهجان المخرج الانتاجات الحديثة من الأفلام البريطانية المثيرة للعنف، والتي لا تحمل قيماً أخلاقية أو فنية عالية. وسمى المخرج اتنبورو فيلم "خطف" لغاي ريتشي مثالاً. بهت غاي ريتشي قليلاً، لكنه سارع الى القول ساخراً: "قلت لك إنه يحب أفلامي". على رغم ذلك، فإن سبب هجوم السينمائي البريطاني التقليدي على السينمائي البريطاني غير التقليدي مفهوم. قبل عامين أنجز أتنبورو فيلماً بريطانياً - أميركياً - كندياً مشتركاً بعنوان "البومة الرمادية"، جلب اليه بيرس بروسنان ممثل جيمس بوند الحالي. قصة مستوحاة من الواقع عن انكليزي ادعى انه هندي أحمر، وتشرب ثقافة الهنود ومهاراتهم وطرق عيشهم، ولكن مذ أنجز ذلك الفيلم وحتى الأمس القريب جداً، والمخرج يسعى الى ايجاد من يوزع الفيلم ويعرضه. ليس في العالم فقط، بل وأساساً في موطنه الانكليزي. وكل محاولاته باءت بالفشل الى مطلع الأسبوع الماضي، عندما بوشر عرض الفيلم في عدد من الصالات وسط العاصمة. خلال مدة انتظاره تلك، كان "خطف" بدأ وانتهى تنفيذاً، وعرض في لندن "خاطفاً" قرابة 13 مليون دولار من تلك العروض المحلية وحدها. "بيلي ايليوت" جلب الى الآن أكثر من 16 مليون دولار. أتنبورو سيكون سعيداً جداً اذا استرجع الفيلم خمسة ملايين دولار من عروضه في صالات "وست أند". لكن المسؤولية ليست ملقاة بكاملها على شركات التوزيع المحلية التي تستجيب أي فيلم أميركي الانتاج أو التوزيع أو النية، بل تشترك في تحملها المجلات والصحف اليومية في بريطانيا. تلك بدورها تخصص مساحات واسعة للأفلام الأميركية ولنجومها، ومساحة محدودة للفيلم البريطاني الذي ينفذ فيرى عرضاً تجارياً طيباً. والمهرجان الحالي يواجه ما تشهده معظم المهرجانات الدولية الكبيرة: جهود النقاد والصحافيين منكبة على مقابلة نجوم الأفلام الأميركية المعروضة ومخرجيها، ولا تكترث إلا قليلاً لسينمائي بريطاني أو أوروبي آخر. ولا تكاد تكترث مطلقاً، اذا كان السينمائي افريقياً أو عربياً أو آسيوياً أو لاتينياً. في هذا المجال، من المفيد تذكّر حادث وقع خلال مهرجان تورنتو الأخير. فبالمصادفة وحدها، علمت أن واحداً من أهم سينمائيي العصر الجدد، وهو المجري بيلا تار، موجود في تورنتو. ولم أطلب مقابلته، بل سئلت هل أريد مقابلته، وعندما أبديت استعدادي لمقابلة من جعلني أجلس متسمراً سبع ساعات و40 دقيقة متواصلة خلال عرض فيلمه "تانغو الشيطان"، منحت ساعة كاملة معه امتدت ساعتين. الرجل كان خالي الوفاض ولم يكن هناك ناقد آخر أو صحافي واحد بين الصحافيين والنقاد الألفين، يسعى الى مقابلته. كما لو أن الأمر في حاجة الى براهين، تجد الصحف البريطانية، هذه الأيام، محشوة بمقالات عن الأفلام الاميركية المعروضة في المهرجان من "أسطورة باغر فانس"، لروبرت ردفورد، وبطولة ويل سميث ومات ديمون الى "غالباً مشهور" لراسل كراو، من بطولة بيتر فوجيت وفرنسيس مكدورمند، الى "الياردات" مع واكين فينكس ومارك وولبرغ... وسواها الكثير. عندما ينجلي غبار الأيام، سيكتشف البعض منا الخسارة المتمثلة، ثقافياً ووجدانياً وفكرياً، بانحسار السينمات الأوروبية في مواجهة الأميركية. الى ذلك الحين، هناك المزيد من أفلام "البوبكورن" و"الكوكا كولا" لكي تبقيك ناسياً.