بدا الأمر أشبه بفخ في البداية عندما انفجرت الانتفاضة الجديدة قبل يومين فقط على موعد بدء الملتقى الشعري الأول لفلسطين. وكان تأجيل انعقاد الملتقى قد راود نفوس البعض سواء من المسؤولين عن اعداده أو من الشعراء العرب أنفسهم إذ كان ثمة قلق من احتمال تعرض الشعراء للأخطار وخصوصاً أن الانتفاضة كانت عنيفة. ولكن، في النهاية، تغلبت مشاعر التضامن والرغبة في رؤية الأحداث على الطبيعة على أية مخاوف... معظم الشعراء كانوا يزورون فلسطين للمرة الأولى: صلاح بوسريف والمنصف الوهايبي، أما وفاء العمراني المغربية فقد تأخرت يوماً واحداً وجاءت في اليوم الثاني والدموع تملأ وجهها تأثراً من كل شيء. وكان معنا صديقنا سيف الرحبي. أما قاسم حداد وصبحي حديدي فلم تسمح لهما السلطات الاسرائيلية بالدخول، وبقيا ينتظران في الفندق في عمان بعض الوقت أملاً بالدخول دونما جدوى... جاءت أيضاً من لندن الشاعرة ناتالي حنظل وهي من الجيل الثالث المهاجر وتكتب الشعر وتتحدث بالانكليزية ولا تعرف العربية وأحضرت معها مجموعتها الشعرية التي يمكن أن تترجم "أشعار غير مدجّنة". ولم تقتصر الدعوة على الشعراء إذ حضر أيضاً الناقد التونسي لطفي اليوسفي والفنان التشكيلي الفلسطيني - الأردني محمد الجالوس... بقية الشعراء حضروا من عمّان ومعظمهم باستثناء الشاعر الفلسطيني - الأردني طاهر رياض يعرفون فلسطين - وهم زهير أبو شايب ويوسف عبدالعزيز وجهاد هديب وكاتب هذه السطور... وكان واضحاً منذ البداية أن الوقت ليس وقت شعر خصوصاً أن جميع الشعراء المساهمين هم من شعراء الحداثة الذين لا يجيدون كتابة القصائد المنبرية الطنانة التي يتوقعها المرء في أجواء يخيم عليها شبح الحرب والموت. كان الجميع يدركون ان الحجر هو أكثر فاعلية من أية قصيدة... وعلى كل حال فلم يكن هناك جمهور يستمع، فالأجواء هي أجواء حرب بامتياز ذكرتني ونحن نسلك طريقاً متعرجاً، قادمين من أريحا الى رام الله، محاولين تجنب هجمات المستوطنين المفاجئة - ذكرتني تلك الأجواء في بيروت الحروب كلها... وأحسست انني أعود - مرة أخرى - الى ما مضى، فكأنّ زمناً لم يمرّ وكأنّ تسوية لم تتم... غير ان الأجواء كانت أقل خطورة من أيام بيروت، فالمواجهات تتم على محاور معلومة وليست هناك قذائف عشوائية لكن الشوارع كانت خالية إلا من إعداد قليلة... مع ذلك قام الشعراء ببعض النشاطات وحضرنا عرضاً مسرحياً أعد بسرعة في مسرح "عشتار" الطليعي المتميز في رام الله. كما زرنا بيت لحم وكنيسة القيامة وبلدة بيت جالا الوادعة والتي ما إن غادرناها حتى انفجرت مواجهات في مكان ما على أطرافها... وفي اليوم الرابع قام الشعراء بجولة على بيوت العزاء المنتشرة في كل مكان... سيقوم الشعراء والشاعرات بتسجيل انطباعاتهم ذات يوم... أما أنا فأحسست انني أشاهد الشريط نفسه منذ ثلاثين سنة... لا جديد، فكل الذي يحدث الآن شاهدته وربما بصورة أعنف في الماضي... فهل صار الشعب الفلسطيني سيزيفاً آخر يدحرج جثته وجثة أولاده كل يوم من دون أن يلوح في الأفق أية بادرة لنهاية هذا الصراع الدموي المرير؟