ما بات يجري فعلاً وعلى امتداد الساحة العربية من المحيط الى الخليج تعاطفاً وتضامناً مع انتفاضة الاقصى، يحيل الى اعادة النظر في بعض المقولات، التي سادت في العقد الاخير حول تراجع الشعور القومي لدى الاجيال الشابة. وكذلك توجيه اتهام ضعف الاحساس بالانتماء الى الاجيال الناشئة، مقارنة مع الاجيال السابقة التي عملت على تأسيس نظريات المشروع القومي ونشر الوعي. وكان ذلك عاملاً فاعلاً لتبوؤ النخبة من جيل الآباء منذ الاربعينات وحتى نهاية الستينات مكاناً مؤثراً في الحياة السياسية والفكرية والثقافية العربية، مما أسهم في تشكيل الصيغ والنخب السياسية والثقافية. الا ان جيل الابناء لاحقاً لم يتمكن من المضي في البناء على ما اسسه الآباء، بل ان الاجيال من السبعينات وحتى التسعينات، عانت من التهميش، وبقي دورها رجع صدى لما سبق فعله، فلم تظهر بعد حقبة الستينات تيارات واتجاهات سياسية وفكرية وثقافية متميزة تضيف على ما سبق سوى بعض المشاريع الهزيلة المتراوحة بين الاصولية والليبرالية والمؤكد على تفكك المشروع القومي. ولعل هذا سوق تصوراً سوداوياً حول ثقافة الاجيال الناشئة ووصمها بالتهافت. وعلى رغم صوابية ذلك التصور في بعض جوانبه لكن لا يمكن التسليم به من دون النظر الى التحولات الكبرى في بنية المجتمع، وبالتالي الفكر والثقافة. اذ تجوز مقارنة النهم التكنولوجي واجادة لغة الكومبيوتر لدى الناشئة ان صح التعبير، والشره للمعارف الفكرية والنظرية واجادة لغات التواصل مع الافكار في الثقافات الاخرى لدى الاجيال السابقة. وبالطبع مع الاشارة الى الفارق بين نمط التثقيف من الماضي وحتى اواسط القرن العشرين حين كان الكتاب الوسيلة المعرفية الرئىسية من جهة، وبين نمط التثقيف مع بداية الالفية واحتلال وسائل الاتصال موقع الصدارة ضمن المنابع المعرفية من جهة اخرى. حيث يتمثل اليوم المخزون المعرفي بما تمتلكه اجيال الشباب والناشئة وحتى الاطفال من قدرات على مواكبة التكنولوجيا، والسعي نحو التأقلم مع مجتمع المعلوماتية. وعليه فالدافع المعرفي لدى الاجيال متشابه، الا ان المضمون مختلف كونه خاضعاً للظرف الموضوعي للتطور العلمي والاجتماعي في العالم. لم تعد التكنولوجيا مجرد وسيلة بل ان المهارات التقنية اصبحت جزءاً من المنتج المعرفي، الذي هو وسيلة تواصل عالمية وحيدة وسبيل لا بد من مواكبته لفهم الواقع المتسارع النمو، مع انتشار التكنولوجيا. اذ من الجائر الاستخفاف بوعي الاجيال الناشئة، المندفعة بقوة وحيوية للتواصل مع اليومي والملح ضمن اطر احتياجاتها. اذا كانت النخبة حصراً في السابق استحوذت على عملية المثاقفة، حين كانت المعارف المكتوبة وسيلة التواصل مع الثقافة العربية والعالمية، وتمكنت من خلال ذلك الحيازة على مواقع مؤثرة في الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية. فإن الاجيال الشابة تكاد تتجه بمجمل شرائحها النخبوية وغيرها نحو امتلاك ناصية المهارة المعلوماتية. مما يشير بوضوح الى طموح الشباب لشغل مواقع مؤثرة في المجتمع. ربما تفتقر الاجيال الشابة الى نظريات بالمفهوم الفكري المتعارف عليه، لكنها حتماً تمتلك الفعل في الظرف المصيري، وانتفاضة الاقصى برهنت على هذا، فالأطفال الذي يحملون الحجارة بوجه آلة الحرب، والشباب الذين يبذلون ارواحهم رخيصة للدفاع عن الاقصى، فجروا مشاعر التضامن لتجتاح غالبية المنطقة العربية. إن الشباب الذي هب للدفاع عن قضاياه القومية كان يلبس الجينز، وهو ذاته الجيل الذي سمي بجيل الماكدونالد والديزني لاند وال أم تي في. وهو نفسه الذي خرج في الكويت مرتدياً الشماغ الفلسطيني ليحرق العلم الاميركي!! وفي المغرب مخالفاً كل التصورات حوله، وهو نفسه الذي قاد حملة التبرعات في القنوات الفضائية الخليجية، وهو الشباب الذي طغى باستنكاره على الشارع المصري والسوري واليمني والليبي...!! قد لا تحرك الشباب العربي اليوم نظريات القومية العربية المحنطة، لكن حتماً تحركه مشاعر فطرية بالانتماء، نشأت في مناخ يومي من الخسائر والهزائم السياسية وتراجع الافكار، رسختها المعلومات المتدفقة من وسائل الاعلام المحلي والاجنبي بدءاً من حربي الخليج الاولى والثانية، واجتياح الجنوب اللبناني، والحصار على العراق وليبيا، والصراعات في الدول الافريقية العربية، ومسلسل التفاوض السلمي الطويل جداً والممل. والتي كان خلالها الشباب العربي خارج الرهانات. ما يفعله الشباب اليوم يثبت انهم لا يتحركون في الفراغ بل هم يمتلكون، ثقافتهم وفكرهم الحيوي المرتبط بالفعل والممارسة حيال ما يتطلبه الراهن، وهي ليست ثقافة استهلاكية بمجملها كما هو شائع، استناداً للثقل الثقافي والفكري الذي حققته الاجيال السابقة، والذي لم يضمن الحماية من اخفاقات، تحملت نتائجها الاجيال اللاحقة. وهنا يجب عدم التساهل بالمناخ الحلمي لتلك النظريات حين كان الحلم سبيل التغيير، لكن فشل الحلم في ذلك ابقى النظريات مرهونة لزمنها متخلفة عن الحاضر، لكنه لم يسقطها كما يستمرء الكثيرون القول. فالنظريات ما تزال قائمة على مستندها الواقعي، الذي تمثل في هيجان الشارع العربي ككتلة واحدة بمختلف اتجاهاته وتياراته الاصولية والليبرالية. لم يكن سقوط الحلم وحده سبباً في تخلف الافكار القومية بل ايضاً ما آل اليه واقع الانظمة العربية وانفصامها عن مواطنيها، بعد ثورات التحرر الناجمة عن مرحلة المد القومي، والانكفاء القطري. من هنا جاء التحرك الهائل في الشارع العربي وبالأخص لدى الشرائح الشابة ليعيد الاعتبار للشعور القومي العربي مؤكداً حيويته وفاعليته في القضايا المصيرية، من جانب في جانب آخر اعاد الاعتبار للجيل الشاب المتهم باللامبالاة، ولزجه مجدداً من صلب الفعل التاريخي. والصورة التي تتشكل اليوم في الاطار العربي العام تستلزم القراءة الجدية والعميقة لبلورة رؤية مستقبلية للأمة العربية وتحديات العولمة. فالمشهد الذي نراه عبر الفضائيات ليس سوداوياً كما كنا نظن والهوية المحلية لن تضيع في ثورة الاتصالات، لطالما هناك ما يهدد وجودها ولطالما هناك صراع مع هويات اخرى تحاول فرض هيمنتها بالقوة العسكرية. قد تفتقر الاجيال الجديدة الى النظرية والشعار لكنها حتماً تمتلك القدرة على الفعل في صياغة واقعها وتاريخها خارج الصيغ الديماغوجية. * كاتبة سورية.