عبر التاريخ حاول مفكرون عرب أن ينتجوا مشاريع فكرية للبحث عن منفذ للأزمات العربية. محاولات أقل ما يقال عنها انها جادة ومعمقة، تلاقت في جوانب متعددة وتعارضت في أخرى، دون أن تحتكر أيّ منها الحقيقة، بل تركت الباب مفتوحاً لكل محاولة جديدة، وهو ما ساهم بطبيعة الحال في اكتشاف دراسة العقل العربي، والأزمات التي لحقت به في عصرنا الحديث. وبالمقابل تجد أن الحركات الشعبية في أوروبا لم تأت من العدم، بل جاءت نتيجة لإرهاصات وطروحات ونظريات فلاسفة ومفكري عصر الأنوار من فرنسيين وإنجليز والذين أسسوا لحركة فكرية نقدية في القرن الثامن عشر مهدت لبناء تصور جديد للمجتمع تقوم على الديمقراطية والحرية والمساواة، ونادت بالقطيعة المعرفية وفك غياب الوعي هو بالتأكيد أزمة الأزمات طالما ان الذهنية لازالت تلامس القشور، وهي السبب في فشل التجارب السياسية، كون التخلف الفكري بقي مهيمناً بأدواته ووسائله، ما أعاق التحولات الديمقراطية الاشتباك بنفوذ الكنيسة والاستناد على العقل، ما دفعها لتهيئة الظروف لمناخ التغيير، وهو ما أدى فعلاً إلى تغيير مسار التاريخ بطروحاتهم، كنظريات جان جاك روسو جون لوك في العقد الاجتماعي وديفيد هيوم في علم الإنسان مقابل اللاهوت، ونقد فولتير للتعصب الديني والسياسي ودور مونتسكيو في بلورة فكر عقلاني مناهض للأنظمة الاستبدادية. تاريخياً، كلنا نعلم ان الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية من خلال سايكس وبيكو، جزأتا العرب في القرن الماضي إلى أراض مكبلة بقيود وثقافات محلية. وان تلك العوامل التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية كرست مناخاً ملوثاً، بدليل الدخول في مرحلة الاستعمار، واستيلاء الحلفاء على البلدان، وسقوط الدولة العثمانية، وظهور الاتحاد السوفيتي كثورة مناهضة للغرب، إلى أن جاء النظام العالمي الجديد الأحادي القطب بزعامة الولاياتالمتحدة الأميركية. على انه بعد رحيل الاستعمار الغاشم عن مصر وبعض الدول العربية، نشأت أنظمة وطنية وأطلقت شعارات مؤثرة آنذاك لارتباطها بالأرض والحرية والاستقلال، لكنها ما لبثت أن عادت إلى ممارسة القمع، بمجيء أنظمة عسكرية كرست الاستبداد والديكتاتورية. فتحول المشهد من ليبيرالية مشوهة بعد الاستقلال إلى فضاء ملوث بالعنصرية والتمييز المذهبي والطائفي والقبلي. لم يعد للمواطنة والتسامح حيز، بل أصبح ميداناً لاشتباكات أهلية وتعصب وانغلاق وتخلف وجهل. وان كنا قد تخلصنا من الاستعمار إلا أننا ارتهنا له مرة أخرى وبصيغ وأشكال مختلفة وأشد وطأة. كانت العوائق تكمن في غياب لمفاهيم الديمقراطية وضمانات حقوق الإنسان وتفعيل دور المجتمع المدني. غير ان الواقع يشير إلى أن العرب هم من يتحملون سبب إخفاقاتهم غير غافلين بالطبع التأثير الخارجي الذي ساهم بدور ثانوي، ولعل المثير للدهشة ما يقوله البعض الذين يستخدمون طرقاً وأساليب ماكرة في تبرير فشلهم المتكرر، وإلقاء اللوم على الآخرين من خونة وعملاء، وأنها المؤامرات وأجندة الاستعمار ومخططاته...الخ. هذه الاسطوانة المشروخة أصابتنا بالملل والسأم، بدليل ان تلك الفئات لم تطرح على نفسها سؤالاً حول أسباب هذا الفشل؟ الحقيقة أن الأيديولوجيا لهذه الحركة أو تلك كانت السبب الرئيس لبروز تلك الحالة، ولذلك يقول لنا التاريخ ومن خلال تراكم التجارب التي عاشتها الشعوب العربية خلال سبعين سنة بأنها لم تعد تتحمس لأي ارتباط أيديولوجي رغم جاذبيتها لأن هدفها فقط هو الإمساك بالسلطة. ولعل من عاصر واحدة من تلك الأيديولوجيات التي عادة ما يطرحها القوميون والبعثيون والشيوعيون، يجد أن طروحاتهم لا تختلف عن الفاشية أو فلسفة النازية، لارتباطها بالديكتاتورية، بدءاً بمشروع عبدالناصر السلطوي، ومروراً بأفعال حزب البعث الدموية في العراق وسورية من قتل وتعذيب وانتهاء بالشيوعية التي لفظت أنفاسها مبكراً. ناهيك عن شعار الإسلام الذي لم يسلم هو الآخر من التوظيف فتمت أدلجته سياسياً. وحتى الربيع العربي الذي جاء كنتاج لتراكمات من النضال الشعبي غير المسيس، سرعان ما تحولت بوصلته نحو الهاوية بعدما ركبت موجته حركات الإسلام السياسي فاستغلته وفق أجندتها. ومع ذلك كان بعض المفكرين قد طالبوا بتكريس قيم الديمقراطية وهاجموا الاستبداد، لكنهم رحلوا قبل أن يعايشوا تلك التحولات المهولة، والمثير للدهشة انهم شرّحوا الايديولوجيا العربية وتجاربها السياسية وانتقدوها بموضوعية غير معولين على قدرة الإنسان العربي على التغيير. غير أن هناك من يرى بان طروحات حسن حنفي والجابري واركون وعبدالله العروي وجعيط وغيرهم لم يكن بمقدورها التأثير وبالتالي الدفع باتجاه توليد حركة احتجاجية كالتي جاء بها الربيع العربي، لاعتقادهم بأن جيل الشباب الثائر لم يقرأ لهم ولم يتأثر بمقولاتهم، لأنه جيل يختلف كلية من حيث النشأة والخلفية والعقلية عن جيل الحركة الوطنية وجيل المد القومي اللذين سبقاه. كانت قناعة البعض منهم بأنه في حالة اندلاع ثورة فإنها ستقود حتما إلى حرب أهلية بسبب ضعف النخب السياسية وقلة الوعي السياسي والثقافي وهشاشته وبطء مسار التحديث بتأثير تيار الممانعة الاجتماعية، وسيطرة العصبيات الأيديولوجية والعشائرية في الهوية الاجتماعية، وعدم وجود قاعدة مجتمعية منظمة قادرة على دفع حركة التغيير. ويبدو ان هذا ما حدث فعلاً مع دول الربيع العربي التي لم تهضم عملية التحول الديمقراطي التي لم تتهيأ لها الظروف الملائمة للنهوض وفق رؤية جعيط من إصلاح ديني وتحديث صناعي وتقني وتنوير فكري واجتماعي. صفوة القول، غياب الوعي هو بالتأكيد أزمة الأزمات طالما ان الذهنية لازالت تلامس القشور، وهي السبب في فشل التجارب السياسية، كون التخلف الفكري بقي مهيمنا بأدواته ووسائله، ما أعاق التحولات الديمقراطية.