كثيراً ما يتحدث الزعماء الإسرائيليون عن دمقرطة الدول العربية في معرض مناقشتهم لفكرة السلام مع العرب، وتقترن المسألتان مع بعضهما البعض في أذهان نفر واسع من القادة الإسرائيليين الذين يرددون ان الشعوب العربية تؤيد السلام وتريده ولكن المشكلة هي، بحسب تقديرهم، في النخب السياسية العربية التي تعارض السلام بسبب "مصالحها الضيقة وحساباتها الأنانية". فالنخب الحاكمة العربية تخشى، وفقاً لهذه الحسابات، أن تتأثر شعوبها إذا تم التوصل إلى السلام العربي - الإسرائيلي بنموذج التقدم الإسرائيلي الذي يقوم على المبادئ الديموقراطية والاشتراكية، وهو يناقض نماذج الحكم المطلقة والنخبوية القائمة في المنطقة العربية، ومن هنا تشتد الحكومات العربية في محاربة إسرائيل ورفض الصلح معها. والنخب الحاكمة العربية تختار، وفقاً للمنظور الإسرائيلي، لغة الحرب والصراع لأنها تريد إلهاء الشعوب العربية عن المشاكل الداخلية وكسب الشعبية على ظهر قضية فلسطين. يضيف أصحاب هذه النظرية إلى ذلك قولهم إن النخب الحاكمة العربية لا تخسر شيئاً عندما تختار لغة الحروب والمواجهة بدلاً من السلام. فالشعوب هي التي تتحمل الأعباء الاقتصادية والمعيشية والعسكرية للحروب، أما النخب الحاكمة فإنها لا تتكلف شيئاً بسببها. إذن لا مشكلة بين الإسرائيليين من جهة، وبين الشعوب العربية من جهة أخرى، وليس هناك من أسباب حقيقية لدى العرب للشكوى ضد إسرائيل ولمقاطعتها ورفض الاعتراف بها ومصالحتها. المشكلة كلها مختلفة ومفتعلة من قبل قلة ضئيلة من "الحكام المتخلفين والمستبدين" الذين يتخذون من وراء ظهور شعوبهم، كما يقول الإسرائيليون، قرارات الحرب والسلم ومواقف العداء والمصالحة والمصادقة، تأسيساً على هذه النظرية التي يقدمها بعض الزعماء الإسرائيليين لتفسير بواعث الصراع العربي - الإسرائيلي ومحفزات استمراره، يتردد في إسرائيل الرأي القائل بأن دمقرطة النظم العربية ينبغي أن تكون شرطاً رئيسياً من شروط السلام، وذلك كتوطئة لتثبيته ولترسيخ المصالحة الإسرائيلية - العربية، فخلال مرحلة مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط عام 1991، اشترط اسحاق شامير، رئيس الحكومة الإسرائيلية وقتها، في خطاب ألقاه أمام المؤتمر اليهودي الأوروبي والبرلمان الأوروبي "أن تباشر الحكومات العربية خطوات ملموسة في التحول صوب الديموقراطية"، كمقدمة للمفاوضات والسلام مع إسرائيل. وعقب توقيع معاهدة السلام الأردنية - الإسرائيلية في خريف 1994 رحبت صحيفة "جيروزالم بوست" بالمعاهدة، ولكنها اعتبرت أن استمرارها مرهون ببقاء الملك حسين وولي عهده آنذاك الأمير الحسن على رأس العرش الهاشمي، أما إذا ذهب الملك والأمير، فإن المعاهدة قد تذهب بها المفاجآت إذا قفز إلى الحكم حاكم مستبد يخاصم إسرائيل لنفس الأسباب التي تدفع الحكام العرب الآخرين إلى مخاصمتها. ما العمل إذن؟ كيف يمكن ضمان مستقبل السلام الأردني - الإسرائيلي؟ أجاب الصحيفة الإسرائيلية ان الطريق الوحيد هو التعجيل في قيام نظام تمثيلي ديموقراطي، إذ عندها سيكون سواد الأردنيين أنفسهم الذين يرغبون في السلام ولا يعادون إسرائيل، هم حماة المعاهدة وتكون خياراتهم الحرة هي ضمان استمرارها. هذا ما يكرره زعماء إسرائيليون من مختلف الاتجاهات الحزبية والسياسية مثل ناتان شيرانسكي، زعيم حزب "إسرائيل بعاليا"، وشمعون بيريز رئيس الحكومة الإسرائيلية وزعيم حزب "العمل" السابق، وأخيراً لا آخراً ارييل شارون، زعيم حزب ليكود، عندما يتحدثون عن السلام مع العرب. إن هؤلاء يعتبرون أنه مقابل كل خطوة يخطوها الإسرائيليون نحو السلام، ينبغي ضمان تقدم الأنظمة العربية خطوات مماثلة صوب الديموقراطية حتى يتاح للشعوب العربية "التي تتعطش إلى السلام مع الإسرائيليين" ان تفرض ارادتها على الحكومات فتنتهي التوترات في المنطقة وتزول من النفوس والأذهان ذكريات العداء المرير لإسرائيل. هناك، بالطبع، أحداث كثيرة تكشف هشاشة هذا الادعاء القائل بأن مشكلة إسرائيل والصهيونية هي مع النخب الحاكمة العربية فقط، وآخر هذه الأحداث هو ردود الفعل الشعبية العربية على أعمال القمع الأخيرة التي تنفذها القوات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. ولئن لم تجر حتى الآن مساعٍ للتقويم الحسابي والكمي لردود الفعل هذه عبر مؤسسات استطلاع الرأي والاستفتاءات الشعبية، إلا التعبيرات القوية عن مشاعر المواطنين التي شهدتها أكثر الدول العربية توفر مؤشرات مهمة على موقف الرأي العام العربي تجاه الصهيونية وتجاه العدوانية الإسرائيلية، هذا ما تبينه السمات التالية التي اتصفت بما أعمال الاستنكار ضد إسرائيل: أولاً، حجم هذه الأعمال والتحركات الاستنكارية وعددها، إذ يجمع المراقبون على أنها من أكبر التحركات الشعبية التي شهدتها الدول العربية، مثل مظاهرة الرباط التي سار فيها قرابة مليوني مواطن ومواطنة. كما يشهد بحجم هذه التحركات وعمقها انتقالها من العواصم إلى مدن أخرى في أكثر من بلد عربي مثل سورية واليمن والأردن. وتكرارها بصورة يومية تقريباً كما هو في الأردن وحتى خارج المنطقة العربية، حيث تشهد عواصم ومدن دولية مثل لندن وباريس نشاطات متوالية دعماً ل"انتفاضة الأقصى". ثانياً، في بعض الدول العربية، نظمت التحركات الشعبية المؤيدة لقضية فلسطين اما بتشجيع من النخب الحاكمة، كما يحصل في دولة الإمارات العربية المتحدة وفي المغرب، واما بقرار من هذه النخب، كما يحصل في سورية والعراق. ولكن في دول عربية أخرى، كما جرى في الجزائر، جاءت المبادرة إلى تنظيم بعض هذه التحركات من منظمات معارضة وجماعات أهلية مستقلة. وفي حالات معينة تعرض القائمون أو بعض القائمين على هذه التحركات إلى الاصطدام بقوى الأمن، كما جرى في موريتانياوالجزائر والمغرب. حتى في الدول التي بادرت الأحزاب الحاكمة فيها إلى تنظيم أعمال الاحتجاج، وقعت فيها أحياناً اصطدامات بين المشتركين في هذه الأعمال وبين رجال الأمن، كما حدث في دمشق، عندما اشتد حماس المتظاهرين على نحو كاد يحرف تحركهم عن طابعه السلمي. ثالثاً، ان عمق نقمة الرأي العام العربي ضد إسرائيل وضد مشاريعها التوسعية أدى إلى تحركات وتظاهرات شعبية واسعة غير مسبوقة من حيث الحجم والمشاركة العامة فيها ونوع الشعارات التي رفعتها في بيئات عربية عدة مثل سلطنة عُمان والإمارات العربية المتحدة. رابعاً، كانت التحركات الشعبية وأعمال الاحتجاج التي نظمت في مصر والأردن، أي الدولتين العربيتين اللتين وقعتا معاهدتي سلام مع إسرائيل واللتين شهدتا خطوات ملموسة على طريق الانفتاح السياسي والدمقرطة النسبية، من أقوى التحركات العربية وأنشطها، هذا مع أن السلطات في البلدين اتخذتا تدابير أمنية صارمة من أجل احتواء ردود الفعل الشعبية على أعمال القمع الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. كما كان ملفتاً للنظر أيضاً، بمعيار استطلاع مشاعر المواطنين والمواطنات العرب، أن تخرج في الكويت "أكبر تظاهرة شهدتها الإمارة منذ عام 1991" للتضامن مع الفلسطينيين، ولاستنكار أعمال الإسرائيليين، هذا مع العلم بأن الكويت تحرص على عدم تعكير علاقتها بالإدارة الأميركية وان الموقف الكويتي الأهلي والرسمي هو موقف سلبي تجاه القيادة الفلسطينية. أكثر هذه التحركات لا تأتي، كما اشير أعلاه، بإيعاز من السلطات الحاكمة، بالعكس أنها تبدأ مبادرات من خارج الإطارات الحكومية، وفي أغلب الأحيان تترك السلطات المسؤولة المواطنين يعبرون عن آرائهم، اما لأن المسؤولين يشاركون هم أنفسهم المواطنين مشاعرهم واستنكارهم لأعمال إسرائيل، واما لأن الحصافة السياسية تملي عليهم ألا يتحدوا مشاعر الرأي العام عندما تبلغ درجة من الحدة ما بلغته في الأيام الأخيرة من نقمة قوية ضد إسرائيل. وفي مطلق الأحوال، فإن دمقرطة النظم العربية لن تؤدي إلى الحد من أزمة إسرائيل ومن تحسين علاقاتها بالدول العربية، بل العكس ستؤدي إلى المزيد من التوتر في هذه العلاقات. إن نظرية "كانت" في السلام بين الدول الديموقراطية لن تجد طريقاً إلى التطبيق هنا، لأن إسرائيل هي نفسها قائمة على التمييز الديني والعنصري، وديموقراطية إسرائيل لا تختلف أساساً عن ديموقراطية الابارتايد في جنوب أفريقيا التي تأسس على قاعدة حرمان أبناء البلاد الأصليين من حقوقهم الديموقراطية والوطنية والإنسانية، وما نشهده اليوم من تنكيل بالفلسطينيين في الأراضي العربي المحتلة هو وجه من أوجه تنفيذ هذه القاعدة. * كاتب وباحث لبناني