جمعية المسؤولية المجتمعية تنظم مؤتمرًا صحفيًا بوكالة الأنباء السعودية    دراسة: القراء يفضلون شعر «الذكاء» على قصائد شكسبير!    وزير الخارجية يلتقي وزير الخارجية الأمريكي    التعليم: إلغاء ارتباط الرخصة المهنية بالعلاوة السنوية    المملكة في «العشرين»    «الثقافة» تحتفي بالأوركسترا اليمنية في مركز الملك فهد الثقافي    42 متحدثًا في الملتقى البحري السعودي الثالث    كلب يقضي عامين بجوار قبر صاحبه    وزير الدفاع ونظيره الفرنسي يبحثان آفاق التعاون العسكري    الأخضر في مهمة «نصر»    الأخضر «كعبه عالي» على الأحمر    المشعل.. في الصدارة والكل من بعده    الأخضر يختتم استعداده لمواجهة منتخب إندونيسيا ضمن تصفيات كأس العالم    الخليج يواجه الشباب البحريني في ربع نهائي "آسيوية اليد"    الأخضر السعودي تحت 19 يتغلّب على البحرين في ختام معسكر الشرقية    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع حاكم إنديانا الأميركية    «عكاظ» تكشف تفاصيل 16 سؤالاً لوزارة التعليم حول «الرخصة»    «الشورى» يطالب التأمين الصحي بالقيام بمهماته وتحقيق أهدافه    9,300 مستفيد من صندوق النفقة في عام    اتفاقيات لشراء «الطاقة» بسعة 9200 ميجاواط    انعقاد أولى الجلسات الحوارية في المؤتمر الوطني للجودة    العتودي الحارس الأخير لفن الزيفه بجازان    اتهامات تلاحق كاتباً باستغلال معاناة مريضة ونشرها دون موافقتها    بعد سيلين ولوبيز وكاميلا.. العالمي هوبكنز يعزف في الرياض    163 حافظا للقرآن في 14 شهرا    «الإحصاء»: السمنة بين سكان المملكة 15 سنة فأكثر 23.1 %    إصابات الربو في الطفولة تهدد الذاكرة    (إندونيسيا وشعبية تايسون وكلاي)    هل تجري الرياح كما تشتهي سفينة ترمب؟    إدانة دولية لقصف الاحتلال مدرسة تابعة للأونروا    ChatGPT يهيمن على عالم الذكاء الاصطناعي    سعادة الآخرين كرم اجتماعي    عودة للمدارس    وزارة العدل: 9300 مستفيد من صندوق النفقة خلال 2024    التوسع في استخدام أجهزة التحكم المروري للحد من الحوادث    بيع ساعة أثرية مقابل 2 مليون دولار    الثعبان في «مالبينسا»..!    الادخار والاستثمار… ثقافة غائبة    بهدف تنمية الكوادر الوطنية المتخصصة.. إطلاق برنامج تدريب المبتعثين في التخصصات الثقافية    تدشين التجمع الغذائي في جدة الأحد المقبل    الاختيار الواعي    صنعة بلا منفعة    لبنان نحو السلام    رسالة عظيمة    أصول الصناديق الاستثمارية الوقفية بالمملكة ترتفع إلى مليار ريال    الأمير سعود بن مشعل يستقبل مندوب تركيا    مرحلة الردع المتصاعد    المملكة ومكافحة مضادات الميكروبات !    الاكتناز    البرتقال مدخل لإنقاص الوزن    حسام بن سعود يستقبل رئيس جامعة الباحة    سعود بن طلال يطلق كائنات فطرية في متنزه الأحساء    محافظ محايل يرأس اجتماع لجنة السلامة المرورية    رئيس هيئة الأركان العامة يدشّن أعمال الملتقى الدولي الأول لضباط الصف القياديين    قائد القوات المشتركة يستقبل نائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني    الكتابة على الجدران.. ظاهرة سلبية يدعو المختصون للبحث عن أسبابها وعلاجها    سماء غائمة جزئيا تتخللها سحب رعدية بعدد من المناطق    يا ليتني لم أقل لها أفٍ أبداً    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اسرائيل والعرب : الفجوة الديموقراطية الكبرى
نشر في الحياة يوم 01 - 07 - 1998

بالكاد، بعد خمسين عاماً من تأسيس اسرائيل وفي هذه المناسبة تحديداً، اكتشف قليل من المثقفين العرب اهمية الديموقراطية في مسار الصراع العربي - الاسرائيلي. وكان اكثرهم وضوحاً محمود امين العالم الذي تحدث عن ان الديموقراطية هي قنبلة العرب الذرية المفتقدة حتى الآن "الاهالي" - 13 أيار/ مايو 1998.
غير ان هذا "الاكتشاف" ما زال غائباً عن معظم المثقفين والسياسيين، وعن نظام الحكم العربية التي يحول طابعها - على اختلافه - دون ادراك اهمية الديموقراطية وأثرها في ما آل اليه الصراع من تفوق دولة صغيرة على عدة دول تفوقها مساحة وسكاناً وامكانات. والاخطر من عدم الادراك، هنا، هو الميل الى مقاومته والى تقليل اهمية الديموقراطية او حتى نفيها. ويرتبط ذلك، في بعض الاحيان، بميل الى التعمية من خلال انكار ديموقراطية اسرائيل امتداداً لعقلية لا تتصور وجود اي محاسن لدى العدو. والذريعة الشائعة، في هذا الانكار، والمتكررة هي ان اسرائيل ليست ديموقراطية لانها اغتصبت وانتهكت حقوق الشعب الفلسطيني، او لأنها كيان استيطاني استعماري.
ويعرف القائلون بذلك ان الدول الاستعمارية الكبرى في التاريخ الحديث كانت هي نفسها الدول الاكثر ديموقراطية، باستثناء الولايات المتحدة التي يدرجها بعضهم في عداد الاستعماريين ايضاً. وهم يعلمون ان بريطانيا التي لم تكن الشمس تغيب عن مستعمراتها كانت من اكثر الدول ديموقراطية، وما زالت.
فليس هناك تعارض بين ان تكون اسرائيل دولة استعمارية استيطانية عدوانية، وبين ان تكون ديموقراطية. واكثر من ذلك، واهم، كان نجاح اسرائيل في ممارساتها الاستعمارية الاستيطانية وسياساتها العدوانية، وما زال، راجعاً الى كونها ديموقراطية. ولا ينبغي ان نخجل من الاعتراف بأنها الدولة الديموقراطية الوحيدة في المنطقة. فما يدفع الى الخجل فعلاً هو ان دولاً عربية عريقة لم تصبح ديموقراطية بعد.
ان مناقشة ما اذا كانت اسرائيل ديموقراطية هي تضييع للوقت، فضلاً عن انها تدل على اننا لا نعرف عم نتحدث. ما تجدر مناقشته هو السؤال التالي: هل اثّرت الديموقراطية في مسار الصراع العربي - الاسرائيلي، وهل جعل النظام الديموقراطي ادارة اسرائيل لهذا الصراع اكثر كفاءة من العرب الذين افتقدوا الديموقراطية؟
يخطئ من يظن ان للديموقراطية قوة السحر، او انها كفيلة بضمان اداء جيد في كل لحظة. وارد ان يخفق النظام الديموقراطي في ادارة ازمة او اخرى في لحظة معينة بسبب فشل صانعي القرار في تقدير الموقف. ووارد ان تنتج الديموقراطية احياناً صانعي قرار او منفّذين لا يتمتعون بالكفاءة، خضوعاً لتوازنات سياسية او حزبية بعينها، او لجموح الرأي العام.
لكن فائدة الديموقراطية هي انها تتيح تصحيح الاخطاء ومساءلة المخطئين ومحاسبتهم، وتدارك الاخفاقات. ولذلك يظهر تأثيرها في المدى الطويل وليس القصير. وتزداد اهميتها في الصراعات الممتدة التي تستمر زمناً طويلاً مثل الصراع العربي - الاسرائيلي، وكذلك الصراع الاميركي - السوفياتي مثلاً.
فكان من بين عوامل هزيمة السوفيات وانهيار دولتهم اخفاء الاخطاء والخطايا، فظلت تنخر في جسد النظام والمجتمع وتأكله من داخله.
ومعنى ذلك انه لا تصحّ المجادلة مثلاً بأن الديموقراطية غير مهمة لأن ادارة مصر لأزمة السويس في العام 1956 كانت افضل من ادارة اسرائيل لها. فحتى اذا ما وافقنا على هذه المجادلة، لا يجوز الاعتداد بها وصولاً الى القول بأن لا فرق بين نظام ديموقراطي وغير ديموقراطي. فالعبرة ليست بإدارة ازمة سياسية في لحظة معينة، وانما بإدارة الصراع في مجمله وعلى امتداد مساره الطويل.
العلاقة الاكثر احتمالاً هي بين طابع النظام السياسي وبين الميل او عدم الميل الى الحرب العدوانية. فالارجح ان النظام غير الديموقراطي يكون اكثر استعداداً للتورط في نزاعات مسلحة خارجية غير ضرورية من منظور المصلحة القومية، ولتوتير الاجواء مع دول مجاورة. وقد يكون هذا من آليات تحقيق التماسك الداخلي وراء نظام تسلطي، او لتهدئة توترات او الهروب من ازمات داخلية، او صرف الانظار عن اخفاقات، او تعويض غياب الشرعية.
وهنا، يجوز ان نذكر حال سورية عشية حرب 1967. فقد قام النظام الديكتاتوري الراديكالي الذي استولى على السلطة في شباط فبراير 1966 بدور تحريض على حرب عربية ضد اسرائيل لم تكن مقوماتها متوافرة. وارتبط ذلك التحريض بسعي النظام الى اكتساب شرعية لم يكن هناك اسهل من المزايدة على قضية فلسطين سبيلاً لها، والى وضع حد للصراع الداخلي المتفاقم الذي انتج انقلابات عدة.
ومما يساعد على وجود علاقة مرجحة، ولكنها ليست مؤكدة دائماً، بين النظام الاستبدادي وبين الميل الى المغامرات العسكرية ان مثل هذا النظام لا يعتمد على مؤسسات وانما يسوده حاكم فرد لا تحدّه اي قيود سياسية. حاكم تتيح سلطاته غير المحددة اتخاذ قرار الحرب من دون رقابة عليه او مساءلة له، الامر الذي يجعل احتمال الجموح اعلى منه في حال النظام الديموقراطي.
ولكن هذا امر يختلف عن الاداء العسكري في الحرب، والذي لا يرتبط بنوع نظام الحكم ديموقراطياً كان او غير ديموقراطي.
شهدت دول عربية رئيسية تحولات واسعة في نظمها السياسية بعد سنوات قليلة على تأسيس اسرائيل. وصارت في وضع أسوأ من المنظور الديموقراطي. لكنها لم تكن في وضع افضل بكثير قبل تلك التحولات. ولنأخذ مصر نموذجاً. كان نظام الحكم قبل 1952 يعاني اختلالات حادة فرغت شكله الديموقراطي من المضمون. وحتى لو كانت ديموقراطية فعلا، فالعبرة ليست بلحظة قصيرة في تاريخ صراع طويل كما سبق توضيحه. ولا يجوز الاعتداد بأنه كانت هناك ديموقراطية في مصر، بافتراض انها كذلك، لمدة اربع او خمس سنوات عقب تأسيس اسرائيل.
و يثير بعض من ينكرون اهمية الديموقراطية في مسار الصراع العربي - الاسرائيلي نقطة تجدر مناقشتها، ويطرحونها في صورة سؤال على النحو التالي: كيف يمكن تفسير هزيمة مصر في العام 1967 ثم انتصارها في العام 1973 على رغم عدم حدوث تغيير في هيكل النظام السياسي؟ ومغزى السؤال، من وجهة نظرهم ان الديموقراطية لا علاقة لها بالصراع برمته على رغم ان سؤالهم وما ينطوي عليه من مجادلة يتناول فقط العلاقة بين الديموقراطية وبين معركتين محددتين زماناً ومكاناً.
ونستبعد وجود علاقة مباشرة بين نوع النظام السياسي وبين اداء قواته في الحرب. فهذا يختلف عن المجادلة المحورية في هذا المقال وهي وجود علاقة وثيقة بين نوع النظام وبين ادائه في صراع طويل المدى.
ومع ذلك، لا بأس من مناقشة مغزى اختلاف الاداء العسكري المصري بين 1967 و1973. فقد ادت صدمة الهزيمة الى مراجعة جوهرية لهذا الاداء بعد تغيير القيادة العسكرية برمتها. وكان هذا هو العامل الاكثر اهمية وراء تحسين الاداء. ولكن، ساهم في ذلك، بقدر ما، التغيير الذي حدث في الاجواء السياسية، وليس في هيكل النظام. وهذا تغيير بدأه الرئيس جمال عبدالناصر بمبادرة منه، في جانب، بضغط اول تحرك شعبي منذ العام 1954 في جانب آخر، وهو حركة الطلاب التي اندلعت في شباط فبراير 1968 وتواصلت بعد ذلك في 1973. كان تغييراً محدوداً ولكنه لم يخل من مغزى وهو الحد من سطوة اجهزة الامن على المواطنين، وهي سطوة كانت تسلّطت عليهم فاسكتتهم وأقعدتهم من اي مشاركة التماساً للامان الشخصي.
صحيح ان النظام السياسي وضع خططاً للتنمية واتخذ اجراءات اجتماعية وسعت نطاق الطبقة الوسطى وعوضت ابناءها عن حرمانهم من المشاركة، وسعى الى بث الحماسة الوطنية فيهم من أعلى. ولكن لم يكن هذا كافياً لتعويض الاثر السلبي لاستبعادهم، والشعب كله، وقمع كل من يحاول المشاركة في العمل العام.
وفضلاً عن ذلك، حال غياب الديموقراطية دون ايجاد حل للصراع الذي نشب بين الرئيس عبدالناصر وبين عبدالحكيم عامر، وانعكس سلبياً على القوات المسلحة وساهم بقدر وفير في اضعاف ادائها في حرب 1967. لم تكن هناك آليات ولا قنوات تسمح بحلّ هذا الصراع بشكل سلمي، ولا بمحاسبة عامر على تجاوزاته التي كانت معلومة.
وهل نحن في حاجة الى مقارنة مع ما أتاحته الديموقراطية من فرص للاسرائيليين لحل خلافاتهم، الى حد ان ينسحب ديفيد بن غوريون صاحب الفضل الاول في تأسيس دولتهم من الحياة السياسية حين صار هذا ضرورياً للمصلحة العامة؟ وسنعود الى استفادة اسرائيل من نظامها الديموقراطي لاحقاً. ولكن نشير، هنا، الى انه حين بدأ الرئيس عبدالناصر في مراجعة الموقف بعد هزيمة 1967، وشرع في تصحيح جزئي، لم يكن في امكانه الاعتراف بأن الديموقراطية هي احد اهم عوامل تفوق اسرائيل ونكستنا. لقد فعل اقصى ما كان ممكناً في ظل طبيعة نظامه. تحمل المسؤولية امام شعبه، لكنه لم يصارح بأن استبعاده والاكتفاء له بدور المصفّق من بعيد أضعف قدرة النظام الوطني على خوض الصراع.
مع ذلك، كان عبدالناصر اكثر ادراكاً لوجود مشكلة سياسية في ادارة الصراع مقارنة بحكام سورية في ذلك الوقت. كان هؤلاء محصنين ضد اي فهم سليم. ولم يستخلصوا اي درس من الهزيمة، وواصلوا سياستهم الحمقاء التي ادت الى توريط العرب في حرب خاسرة. فساهموا في تصعيد الصراع الاردني - الفلسطيني، وكادوا ان يصلوا به الى مستوى يفرض دخول اسرائيل على خطه لتحقيق مكاسب اضافية. وفي غياب من يحاسبهم، ولأن الآلية الوحيدة للتغيير في غياب الديموقراطية هي القوة العسكرية، أطيح بهم في انقلاب اختار قائده الرئيس حافظ الاسد ان يطلق عليه الحركة التصحيحية.
والأرجح ان الرئيس انور السادات تأثر بذلك الوصف حين اختار شعاراً للمعركة السياسية التي تخلص عبرها من أركان النظام، لكنه اعتبرها ثورة لا حركة. وفي غياب معارضة، وبعيداً عن الديموقراطي، يفعل الحاكم ما يريد. فعلى رغم ان التصحيح الذي جاء به السادات كان اعمق مما احدثه الاسد في سورية، فقد قصر كلاهما عن وضع اسس تطور ديموقراطي حقيقي ينهي تفوق اسرائيل في هذا المجال.
اي فائدة اكثر من ان يوفر النظام السياسي آليات وقنوات لحل الخلافات والصراعات سلمياً، وبالتالي توجيه طاقاته كلها لكسب الصراع مع العرب الذين انهكتهم صراعات داخلية في مختلف بلادهم!
نشأت اسرائيل الدولة منقسمة على اكثر من محور. لكن نظامها الديموقراطي اتاح لها امكانات هائلة لادارة الصراعات الناجمة عن هذه الانقسامات سلمياً. ولنأخذ الانقسام الثقافي - الحضاري بين العلمانيين والمتدينين نموذجاً. كان هذا الانقسام ملازماً لاسرائيل منذ نشأتها، اي قبل ان يتصاعد في بعض الدول العربية ومنها مصر مع ظهور حركة الاحياء الاسلامي في السبعينات. ولولا النظام الديموقراطي، وما يرتبط به من تقاليد الحوار والمساومة والحلول الوسط، لكان ذلك الانقسام فعل فعله في اضعاف الدولة الناشئة كما حدث بعد ذلك لدول عربية، وما زال.
ولكن جرى التعامل مع ذلك الانقسام في اسرائيل من خلال توافق عام على ان تكون الدولة ديموقراطية تحترم الدين، دولة لا هي علمانية كاملة ولا هي دينية. وتحت هذا العنوان العريض، حدثت مجموعة من المساومات والحلول الوسط جعلت التعايش ممكناً من دون مواجهات عنيفة على رغم وجود مشكلات تنفجر هنا وتهدأ حيناً آخر. وهذا هو ما يعرفه بعضنا ممن يتناولون هذه المشكلات بخفة وفي غياب معرفة بآليات النظام الديموقراطي. ولذلك نقرأ في بعض مطبوعاتنا موضوعات تثير الضحك عن اسرائيل في مهب الرياح الدينية او عن قرب تحول اسرائيل الى الخمينية اليهودية.
أدت المساومات، التي هي احد اهم خصائص النظام الديموقراطي، الى تنازلات متبادلة، وطبيعي ان يسعى البعض من الطرفين الى مراجعة ما تم التوافق عليه، ولكن، لا يعني ذلك ان التوافق الذي تم على اساس تلك التنازلات، سينهار. قدم المتدينون المتشددون تنازلاً كبيراً حين قبلوا اعلان الدولة قبل عودة المسيح المخلّص، وان تكون دولة ديموقراطية لا دولة تحكمها التوراة. وكان ذلك في مقابل اطلاق يدهم في الشؤون الدينية والاحوال الشخصية، فضلاً عن منحهم مزايا كثيرة صارت موضع جدل الآن حيث يضغط فريق من العلمانيين المتشددين لالغاء بعضها وتقليص البعض الآخر.
وكثيرة هي المظاهر الدالة على استفادة اسرائيل من نظامها الديموقراطي في حل الخلافات وتهدئة الصراعات الداخلية في مجتمع منقسم. ولا تقل عنها الدلائل على استفادة اسرائيل من نظامها في التأثير على مسار المفاوضات السلمية مع العرب منذ ان بدأت. وكثيراً ما تحدث مثقفون وسياسيون عرب عن استثمار اسرائيل خلافاتها الداخلية لدعم مركز مفاوضيها. لكن معظم من يقولون ذلك لا يريدون الاعتراف بأن هذا الاستثمار هو مظهر من مظاهر نجاح نظام ديموقراطي في مواجهة نظم تسلطية. فنحن نقرّ ضمنياً بأهمية ديموقراطية اسرائيل، حين نقارب بين اداء مفاوضيها ومفاوضينا. ولنأخذ مثالاً واحداً من ادارة الخلافات الداخلية في كل من مصر واسرائيل خلال مفاوضات السلام بينهما، والتي قادت الى توقيع معاهدة 1979. ولأننا نعرف ما حدث في مصر في ذلك الوقت من تضييق على معارضي زيارة الرئيس انور السادات الى القدس، فلننظر الى ما حدث على الجانب الآخر كما سجله وزير الخارجية موشى دايان في كتابه "الاختراق: رؤية شخصية للمحادثات المصرية - الاسرائيلية":
كانت هذه المحادثات دخلت مرحلة حاسمة في الاسبوع الثاني من آذار مارس 1979 حين توجه الرئيس الاميركي جيمي كارتر الى اسرائيل بعد ان زار مصر، في جولة كان لها اكبر الاثر في حلّ الخلافات التي كانت باقية. وكان مقرراً ان يتحدث، ومعه رئيس الوزراء مناحيم بيغن وزعيم المعارضة شمعون بيريز، امام الكنيست. فكيف كانت الاجواء؟
فلنترك دايان يروي: "طال أمد الجلسة بسبب المقاطعات التي لم تتوقف خلال خطابي بيغن وبيريز. لم تكن افضل ساعات الكنيست. بمجرد ان وقف بيغن استقبلته جئولا كوهين وموشي شامير بصيحات تطالب بإسقاطه، اعتقاداً في انه تنازل عن الكثير".
وهكذا كان المشهد يعبر ليس فقط عن ممارسة ديموقراطية، ولكن ايضاً عن افراط فيها يدعم مركز المفاوض ويتيح له ان يتمرس قائلاً: "هاأنذا مغلول اليدين امام المعارضة، ولا املك تقديم اي تنازل. وكان ذلك امام الرئيس الاميركي نفسه. ولكن لنلحظ ان دايان وجد المشهد ماساً بكرامة الكنيست لان ما حدث فيه كان اكثر مما تحتاجه الحكومة لدعم مركزها. ففي الديموقراطية لا تستطيع ان ترسم حدوداً لما تصل اليه الممارسة.
ولذلك يستطرد دايان: "حقيقة كانت هذه علامة على ديموقراطيتنا الحيّة مثلما قال بيغن لكارتر. ولكن هناك ديموقراطيات اخرى في العالم تحرص كافة الاحزاب فيها على التمسك بكرامة برلماناتهم. ولم تكن هذه هي الحال معنا، حيث كان المشهد حزيناً. شعرت بالاسف والحزن. كان يتعين علينا ان نظهر الجانب الحسن فينا وان نتصرف بكياسة حتى ولو كان هذا من اجل احترام مقتضيات الضيافة المتحضّرة".
اما جلسة مناقشة معاهدة السلام، التي عقدت في يوم 20 آذار مارس فاعتبرها دايان "اطول جلسة وربما اكثر الجلسات التي شهدت انتقادات في تاريخ الكنيست". اين ذلك مما حدث في مجلس الشعب في مصر، وما حدث له بعد ذلك حيث تم حلّه لمجرد ان 15 عضواً فيه من اصل 360 عضواً عارضوا المعاهدة؟
ولكن، على رغم حده الانتقادات للمعاهدة في الكنيست، اسفر التصويت عن تمريرها بغالبية كبيرة: 95 مؤيداً، و18 معارضاً، وامتناع عضوين، واعلان ثلاثة عدم اشتراكهم في التصويت، وغياب اثنين عن الجلسة. لكن الغالبية المؤيدة في الكنيست لا تقارن بمثلها في مجلس الشعب. في الكنيست اعترض 18 من اصل 120، اي بنسبة 15 في المئة. وفي مجلس الشعب اعترض 15 فقط من اصل 360، اي بنسبة حوالى 4 في المئة. مع ذلك اكملت الكنيست مدتها في اجواء ديموقراطية، في حين تم حل مجلس الشعب واجراء انتخابات جديدة خسر فيها جميع معارضي المعاهدة مقاعدهم عدا الراحل ممتاز نصار الذي حالت قوة عصبيته دون تزوير الانتخابات في دائرته.
احدى ميزات النظام الديموقراطي هو انه يجعل المواطن مواطناً بحق. والارجح ان هذا هو ما يجعل غالبية الاسرائيليين راضين حسب ما اكده استطلاع مهم اجري يوم 27 نيسان ابريل الماضي، واظهر ان المزاج العام مرتفع للغاية، لان درجة الرضا عالية. ولا احسب ان مثل هذه النتيجة، او نتيجة قريبة منها، يمكن ان تتحقق في اي بلد عربي اذا اتيحت فرصة لاجراء استطلاع حر من هذا النوع. كان السؤال الاساسي في الاستطلاع، الذي نختم به، حسب ما نشرته جريدة "هآرتس" في 3 ايار مايو الماضي هو: "ما هو مزاجك العام قبل يوم الاستقلال الخمسين للدولة". أجاب 49 في المئة بأن مزاجهم جيد جداً، واجاب 36 في المئة بأنه جيد بما فيه الكفاية، و10 في المئة بأنه سيئ، و5 في المئة فقط بأنه سيئ جداً.
وحين طلب من المستطلعين تقدير مزاج الشعب عموماً، قدّر 85 في المئة ان المزاج الوطني جيد جداً، او جيد بما يكفي، في مقابل 14 في المئة فقط اعتبروه سيئاً، ولم يجب الباقون. وفي ما يتعلق بالسؤال عن تقويم الانجاز في مجال استمرار النظام الديموقراطي، كان تقدير 76 في المئة انه انجاز جيد جداً.
هذا السؤال، تحديداً، هو الذي لا يمكن ان يتضمنه اي استطلاع للرأي العام في اي بلد عربي. الا يكفي ذلك دليلاً على حجم الفجوة؟ ومتى ندرك ان عبور هذه الفجوة هو اهم ما ينبغي علينا عمله اذا اردنا وضع حد للتفوق الاسرائيلي علينا، او حتى لتجنب الحرج الذي تواجهه وفودنا الرسمية في منتديات شتى لها صلة بالديموقراطية وحقوق الانسان حين تحدث مقارنات بين العرب واسرائيل، كما حدث في مؤتمر رؤساء برلمانات الدول المتوسطية في باليرمو في مطلع الشهر الماضي.
* رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي" الصادر عن "الأهرام" - القاهرة. والدراسة ننشرها بالاتفاق مع الفصلية المصرية "السياسة الدولية" في عددها تموز/ يوليو - ايلول/ سبتمبر 1998.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.