كان أمل العرب والمسلمين في مشارق الارض ومغاربها ان تتيح نهاية الحرب الباردة في نهاية المطاف حلاً سلمياً وعادلاً للقضية الفلسطينية. وكانت اخطر ازمة في حقبة ما بعد الحرب الباردة، وهي حرب الخليج الثانية سنة 1991، قد اعطت أملاً جديداً للفلسطينيين، رغم ما انطوت عليه من صدمة قاسية للعالم العربي. وكان الوعد الذي جاء تلميحاً وتصريحاً على نطاق ضيق للولايات المتحدة الاميركية والدول الغربية بأنها ستعالج الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي بصفة عاجلة، كما تعهدت ايضاً بألا تكون منحازة لأحد الطرفين ضد الآخر، وذلك مقابل دعم عربي ومشاركة عربية في التحالف الضخم الذي حشد لطرد القوات العراقية من الكويت. وفي الاطار الجديد للتعاون الدولي كان من المفترض ان الغرب بزعامة الولاياتالمتحدة الاميركية لن يحشد لتطبيق قرارات الاممالمتحدة ضد العراق فحسب، بل سيبذل جهوداً مماثلة لتطبيق قرارات الاممالمتحدة العديدة المتعلقة بانسحاب اسرائيل من الاراضي الفلسطينيةالمحتلة. وهذا ما كان يمكن ان نطلق عليه "النظام العالمي الجديد" الذي يُعامل به الجميع وفقاً للمعايير ذاتها من القانون الدولي. يمكننا ان نقول ان الولاياتالمتحدة الاميركية والغرب لم يحافظا على وعدهما. اذ تحقق تقدم متقطع في الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي، من خلال مفاوضات فلسطينية عسيرة مع رئيس الوزراء الاسرائيلي الراحل اسحق رابين في اوسلو، التي هدفت الى تحقيق بعض التقدم. وكذلك من خلال ضغط كبير على رئيس الوزراء الاسرائيلي الحالي بنيامين نتانياهو في واي بلانتشين خشية ان تبدو اسرائيل كأنها نكثت بكل ما تعهدت به في اوسلو، وذلك على رغم ان القيادة الاسرائيلية تفرض اسبوعياً شروطاً تلو الشروط لتضاف الى الشروط المتفق عليها في واي ريفر. وفي نهاية الامر فإن التفاوض بأكمله كان في اطار ما قد تقبله اسرائيل، حتى لو تطلّب ذلك استرضاء اسرائيل لتقبل به. ان استرضاء طرف ما وقصف طرف آخر ليسا امرين متساويين. فالقضية الفلسطينية لم تُعبّر عنها الولاياتالمتحدة الاميركية والغرب كقضية مبدأ، مثلما عبّر الطرفان ولا يزالان يعبّران عن القضية العراقية. ونقصد بذلك مبدأ الحاجة البسيطة والمطلقة للاذعان الى ارادة المجتمع الدولي، كما عبرت عنها قرارات الاممالمتحدة او مواجهة عقوبات مناسبة واجراءات لمعالجة الموقف. ولا يعتقد احد بأن القضية الفلسطينية ستصاغ بهذه الطريقة ابداً. اذ يتعين على الفلسطينيين ان يستجيبوا للمطالب الاسرائيلية المتصاعدة شيئاً فشيئاً، فيما تُستثنى اسرائيل دائماً وبشكل فاعل من القوانين والاعراف الدولية، المطبقة بشكل حازم على الدول الاخرى خصوصاً الدول العربية، وحتى تلك المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل، إذ ان قلق اسرائيل بشأن "أمنها" لا يعلو عليه شيء. وعليه، فما عاد مفهوم عقد اتفاق جديد ومنصف للشعب الفلسطيني من منطلق "عملية السلام" القائمة على مبادئ اوسلو يحمل شيئاً من المصداقية، تلك العملية التي تبقّى منها ما تبقّى بفضل المشاهد المؤثرة والمتكررة لجلسات مفاوضات "الفرصة الاخيرة" و"لي الذراع" الذي يمارسه الرئيس الاميركي، والمصافحة التاريخية بين الفلسطينيين والاسرائيليين في حديقة البيت الابيض. غير ان هذه المسرحية التي لا تنتهي فصولها قد بدأت تفقد بريقها، ولا سيما للفلسطينيين على الارض، الذين يرون الاسرائيليين يستردون باليد اليسرى ما يدّعون انهم اعطوه باليد اليمنى. ففي الوقت الذي يطمئن نتانياهو الرئيس الاميركي كلينتون الى انه لن تكون هناك "توسعات كبيرة" في المستوطنات، نرى شارون يحث المستوطنين على بناء المزيد من المستوطنات الجديدة لخلق "حقائق على الارض". أما السلطات الفلسطينية فيبدو انها تتجنب مواجهة مع اسرائيل بسبب توسعة المستوطنات على امل ان تزال هذه المستوطنات المقلقة في المستقبل بجرّة قلم ديبلوماسية. وقد نجح الرئيس كلينتون في ضمان ان تتخلى السلطة الفلسطينية عن البنود المناهضة لاسرائيل في الميثاق الوطني الفلسطيني، كما وعد رئيس السلطة الفلسطينية بذلك في واي ريفر، ولكنه لم ينجح في منع رئيس الوزراء الاسرائيلي من النكث بالالتزامات الاسرائيلية في واي ريفر نفسها ومن قبلها اتفاقات اوسلو بحيث تنسحب القوات الاسرائيلية من اراض فلسطينية اضافية، ولذلك فان زيارة الرئيس الاميركي لغزة لها اهمية مبهمة. فمن ناحية، جاء خطابه الذي قال فيه "انه من عظيم الشرف ان اكون اول رئيس اميركي يخاطب الشعب الفلسطيني في مدينة يحكمها الفلسطينيون"، مؤثراً في الفلسطينيين، ومخوّفاً للاسرائيليين، إذ مثّل ذلك اعترافاً مهماً بشرعية السيادة الفلسطينية، وضمنياً بالدولة الفلسطينية، ولكن من ناحية اخرى، ورغم هذه اللغة الطنانة، فإن الولاياتالمتحدة الاميركية لا تزال متسامحة مع تعطيل اسرائيل لمسيرة السلام، الذي سيؤدي الى استياء عميق بين الفلسطينيين الذين نفد صبرهم بسبب بقاء الامور على ما هي عليه من دون تغيير يذكر. كلنا على علم باتجاه عملية السلام، ولا بد ان نلقي نظرة متفحصة ومتشككة في افضل ما يمكن ان تنتهي اليه هذه العملية. ونحن على دراية من ان السلام لن يتحقق من اتفاق النخب الحاكمة هنا وهناك، ولكن من خلال الاستجابة للمطالب الشعبية بتحقيق الكرامة الوطنية وتكافؤ الفرص على المستوى الشخصي. ومن واقع خبرتي كمراقب دولي خلال الانتخابات التي جرت في عام 1996 فقد ادركت حماسة الشعب الفلسطيني للمشاركة في بناء دولة ديموقراطية يمكن ان تنضم الى المجتمع الدولي بسلام وشرف. اذ زادت نسبة المقترعين من الفلسطينيين الذين يحق لهم التصويت على 85 في المئة مقارنة مع نسبة تقل عن 50 في المئة في العديد من الديموقراطيات الغربية. وحتى في الانتخابات "التأسيسية" التي تؤذن بدخول عهد جديد، مثل تلك التي جرت في جنوب افريقيا بعد انتهاء عهد التمييز العنصري، فنادراً ما تجاوزت نسبة المقترعين 75 في المئة. وكانت تلك لحظة حاسمة لكل من عاش في العالم العربي خلال الثلاثين عاماً المنصرمة. ولا بد ان يتأثر كل من رأى ذلك المشهد. غير انني رأيت ايضاً التناقضات التي تعصف بالعملية السلمية، تلك التناقضات التي تلقي بمسؤولية ثقيلة على اكتاف كل الاطراف، وإن بدرجات متفاوتة. أما أول هذه التناقضات فهو بين تحرير الاراضي الفلسطينية كما يتراءى لنا، وحقيقة ان الاسرائيليين يتحكمون بالمعابر كافة، ما يتطلب المرور من خلال نقاط تفتيش اسرائيلية على الدوام، مع احتفاظ اسرائيل بحقها - كما تدّعي - بتعطيل حركة المرور حسب رغبتها. غير ان اهم التناقضات كانت ضمن المجتمع الفلسطيني نفسه، فهناك توتر بين اهالي الضفة الغربية، الذين خلقوا ديموقراطية صراع نشطة خلال الانتفاضة، وبين قيادات منظمة التحرير الفلسطينية العائدة من المنفى، الذين تقلدوا السلطة النهائية من واقع دورهم التاريخي، ذلك التوتر الذي يصل احياناً الى حد ازدراء السلطة الفلسطينية للقيادات المحلية الجديدة التي نالت ثقة الشعب. وهناك ايضاً توتر بين الرغبة العامة العارمة بالديموقراطية، وبين انشاء جهاز مستهجن ومتداخل من قوات "الامن" الفلسطينية، الذي يدعي القائمون عليه انهم يتلقون اوامرهم من رئيس السلطة الفلسطينية وحده من دون غيره. اما القضية الاساسية التي تشغل بال الفلسطينيين ولم تحسم بعد، فهي نظام الحكم بعد اوسلو: هل سيكون نظاماً ديموقراطياً منفتحاً طال انتظاره، يحقق الكرامة الوطنية وازدهاراً متنامياً، ام انه سيكون نظاماً سلطوياً، حسب النمط المعروف، تستأثر فيه زبانية النخبة بالسلطة، بينما تغرق الغالبية العظمى من الشعب في الفقر؟ ويأتي هذا كله في سياق سياسة اسرائيلية لفرض وضع يشبه التفرقة العنصرية التي كانت سائدة في جنوب افريقيا bantustans. ان الموقف لا يزال في تغير متواصل، منذ اوسلو وحتى واي ريفر، ولكن سيكون من السذاجة ان نقول ان ما تحقق حتى هذه اللحظة يبشر بالخير. يبدو ان القيادة الفلسطينية تراهن على ان السيادة على اي مساحة اكبر من الاراضي الفلسطينية وان تمت تدريجاً، ستكون قاعدة كافية لدولة فلسطينية فاعلة، او لعل القيادة الفلسطينية تعول على سقوط حكومة ليكود، او حدوث تغييرات ايجابية في السياسة الاسرائيلية، او لعلها خلصت الى انه في ضوء عجز الدول العربية فإن ذلك افضل ما يمكن ان تأمل بتحقيقه، وهذا امر يمكن تفهمه. ولكن مرة اخرى لنا ان نتساءل: ما هي آمال القاعدة العظمى من الفلسطينيين في الشارع؟ على سبيل المثال كيف يمكن لدولة صغيرة مستقلة مقسمة ان تزدهر في بيئة اقتصادية دولية قاسية؟ ان احتياجات الشعب الفلسطيني للتنمية هائلة، ولا يمكن ان نأمل بتحقيق السلام في المنطقة ما لم تلبَّ هذه الاحتياجات. ولن تكون فلسطين في معزل عن المتطلبات المفروضة على كل الدول في عهد العولمة. فليس هناك ما يمكن ان يغفر او يسوّغ اختفاء مبالغ هائلة من المساعدات بسبب الفساد، مع ادعاءات بأن اعلى المسؤولين في السلطة الفلسطينية استغلوا هذه المبالغ لاقامة اقطاعات اقتصادية خاصة. ان الشفافية والمسؤولية الشخصية هما الآن وسيبقيان موضع خلاف في الصراع الفلسطيني نحو التقدم، كما هما في المجتمعات المعاصرة كافة. غير ان ما يزيد الاوضاع سوءاً هو قدرة اسرائيل على تعطيل مسيرة السلام، فتوسعة المستوطنات الاسرائيلية على مساحة لا تتجاوز 15 في المئة من اراضي الضفة الغربية واقامتها لشبكة ضخمة من الطرق الفرعية لتسهيل حركة قواتها المسلحة فيها، انما تجعل السيادة الفلسطينية شيئاً من قبيل السخرية. فاذا كانت اسرائيل تستطيع ان تغلق الحدود، وتمنع حركة الافراد والبضائع متى ارادت ذلك، واذا كانت اسرائيل تستطيع حتى ان تعوق الحركة الداخلية للمواطنين الفلسطينيين وتجارتهم، فانها بذلك تمسك بقبضة خانقة على التنمية الاقتصادية الفلسطينية. ان مبادرات مثل مبادرتي الدار البيضاء وبرشلونة اللتين تسعيان الى اقامة منطقة اقتصادية شرق اوسطية او اوروبية - متوسطية تدعم التنمية الفلسطينية لا تزال تراوح مكانها. ولعل مردّ ذلك الى تردد الدول العربية في اقامة علاقات مقرّبة مع اسرائيل اثناء حكم حزب ليكود المتمرد على عملية السلام وايضاً الى الحذر الاسرائيلي من التأثير الاوروبي في الشرق الاوسط، حتى ان اسرائيل الآن ترفض الافراج عن البضائع الاوروبية التي تحتجزها كجزء من عملية اغلاق الحدود الا اذا دفعت جهة ما كلفة تخزينها. وبالطبع فإن الاهانة الوطنية والفقر والفساد والحكم السلطوي امور تؤدي في مجموعها الى تنامي التحدي "الاصولي". اننا نشهد تحولاً محزناً من اطفال الانتفاضة، الذين زعزعوا حكم الاحتلال الاسرائيلي، واضفوا الشرعية على الهوية الوطنية الفلسطينية بصراعهم الشامل والمفتوح ضد قوات الاحتلال الى الانتحاريين المنتمين الى حماس، الذين تضرّ هجماتهم على المدنيين بالقضية الفلسطينية، فيما تعزز موقف القوى الرجعية الصهيونية. ففي فلسطين كما هي الحال في العالم العربي، تلك هي الثمرة المرّة لليأس الشخصي، والاحباط الوطني. ولكن، هل هذه هي ثمرة اتفاقات اوسلو - واي نفسها، ام ترى ان العملية السلمية ستحقق الشرف الوطني والامن الاقتصادي والديموقراطية؟ اننا نفكر ملياً في هذه القضية، بمزيج من الامل والشك على حد سواء. ولعل مشهد افتتاح المطار الفلسطيني في غزة مؤخراً يمثل المعضلة بشكل مقنع. فالمطار هو رمز للسيادة الوطنية، ورمز للاعتراف بالشعب الفلسطيني سياسياً واقتصادياً من جانب دول العالم المعاصر، وتكامله معه، ولهذا فقد قوبل المطار بترحيب من مؤيدي القضية الفلسطينية جميعاً. ولكن، اذا ما دققنا في ذلك المشهد، نرى ان جواز السفر الذي يسلم الى سلطات "الحكم الذاتي" الفلسطيني للموافقة عليه، يمرر من وراء الحاجز الى مسؤول اسرائيلي ليقرر هو من يمرّ وماذا يمرّ عبر هذه البوابة الى العالم. فهل هذا انفراج جديد او اهانة جديدة؟ فما يحدث يشبه احداث مسرح السخفاء، ولكن الفصل الاخير لم يُكتب بعد. * مؤسس "معهد الدراسة عبر الاقليمية لشمال افريقيا والشرق الاوسط وآسيا الوسطى" في جامعة برنستون. والكاتب شارك في المجموعة الاوروبية والاميركية كمراقب دولي للانتخابات الفلسطينية الرئاسية والتشريعية.