وكان لا بد لشهر العسل من أن يبدأ بين الفرنسيين وأتراك مصطفى كمال، ما إن لاحت إشارات ذلك ممكنة. واللافت ان الطرفين كانا يرغبان في ذلك، حتى وإن كانت المعارك بينهما اشتدت طوال شهور، ولا سيما في مناطق الأناضول الجنوبية، كأثر من آثار انتصار فرنسا، ضمن اطار الحلفاء، وهزيمة الدولة العثمانية، خلال الحرب العالمية الأولى. كان وضع تركيا والهزيمة العثمانية، على أي حال، وضعاً استثنائياً. اذ، على عكس بقية الدول التي خرجت من تلك الحرب مهزومة واعترفت بهزيمتها دافعة ثمنها، كان الوضع التركي مبهماً، لأن المعادلة كانت مختلفة: فمن جهة كانت هناك امبراطورية عثمانية انضمت، خلال الحرب، الى المانيا وحلفائها، وطاولتها في النهاية هزيمة تمثلت في انفراط عقد الامبراطورية، ولا سيما في مناطقها الجنوبية المناطق العربية، ونواحيها الغربية دول البلقان. ومن جهة ثانية كانت هناك كينونة تركية لها زعامات لا تجد بأساً في التخلي عن الامبراطورية وبناء دولة تركية داخل حدود جغرافية معينة. ومسؤولو هذه الكينونة الأخيرة، ومن بينهم مصطفى كمال، كانوا يريدون استعادة الكرامة القومية، لا أكثر، عبر استعادة أراض كانوا يعتبرونها ضمن اطار الأراضي التركية. وكان اليونانيون والإنكليز والفرنسيون احتلوها خلال السنوات الأخيرة من الحرب. بقايا الامبراطورية كانت تتمثل في الخليفة/ السلطان المقيم وجماعة في اسطنبول تحت وطأة الحلفاء المحتلين. أما الجماعات الوطنية - جماعات مصطفى كمال - من انصار إقامة دولة تركية محدودة جغرافياً، فكانوا يقيمون شبه مستقلين في أنقرة، ويقاومون راغبين في الآن عينه، في التخلص من الامبراطورية ومن المحتل. وفرنسا، مثل روسيا، كانت ذات موقف فيه الكثير من الالتباس ازاء ذلك كله. ومن هنا، اذا كان وطنيّو مصطفى كمال قد تمكنوا من تحقيق الكثير من الانتصارات، فإن الجزء الأكبر من انتصاراتهم كان هناك حيثما جابهوا قوات فرنسية، أو أمماً أخرى مدعومة من الفرنسيين. وهكذا حين حدث أوائل صيف العام 1921، ان اشتدت المقاومة التركية الوطنية ضد قوات الاحتلال الفرنسية في الأناضول الجنوبية، تبدى الفرنسيون عاجزين عن احتواء مدن ومناطق مثل غازي أنتيب وماراش وادرفه، أو الاحتفاظ بها. ومن هنا اضطروا، على ضوء خسائرهم الكبيرة، الى ان يطالبوا الحكومة التركية الموقتة، بقبول هدنة تستمر ثلاثة أسابيع. وبدأت الهدنة بالفعل يوم 23 تموز يوليو من ذلك العام. بعد ذلك حدث ان تتالت الانتصارات التركية، حيث حققت قوات أنقرة انتصارها الأكبر في اينونو. وهنا بدأت باريس ترى ان حركة الوطنيين الأتراك، هي التي تمثل الأمة التركية بدلاً من الحكومة المشلولة التي كانت قائمة في اسطنبول. وهو ما عبرت عنه فرنسا، مراراً وتكراراً، ولا سيما خلال مؤتمر لندن، حيث لفت انظار الحضور موقف المندوبين الفرنسيين، من الوفد التركي الذي كان يترأسه بكر سامي. بعد ذلك كان الانتصار التركي الثاني في اينونو، كما كان الميثاق الذي وقعته أنقرة مع موسكو، ما كان أمراً حاسماً في حدوث تطور جديد في الموقف الفرنسي من مصطفى كمال. وكان ان أرسلت فرنسا وفداً الى أنقرة برئاسة النائب السابق فرانكلين - بويون، لاجراء محادثات مع المسؤولين فيها. ولقد أسفرت تلك المحادثات عن نجاح كبير، على رغم ان نقاط خلاف كثيرة ظلت قائمة، حيث ان الفرنسيين أعلنوا في البداية تمسكهم ببنود اتفاقية السيفر، بينما أعلن مصطفى كمال تمسكه بالشروط التي جاءت في "الميثاق الوطني". ولقد اثار عناد مصطفى كمال اعجاب المندوب الفرنسي الذي عاد الى باريس ليبدأ الدفاع عن مواقف الزعيم التركي وليسوقه في شكل جيد امام الرأي العام الفرنسي. حدث ذلك أواسط الصيف. وبعده بدا الفرنسيون قريبين من التوافق مع الاتراك، ولكن جاء انتصار هؤلاء على اليونانيين حلفاء الفرنسيين ليبطئ الأمور. وبعد ذلك، حين حقق الأتراك انتصارهم الكبير في الشاكرية، وبدا واضحاً ان مصطفى كمال هو رجل المستقبل في تركيا، عاد فرانكلين - بويون الى أنقرة من جديد، ليوقع هذه المرة، وتحديداً يوم 20 تشرين الأول اكتوبر من ذلك العام "ميثاق أنقرة" الذي ينص على اعتراف الحكومة الفرنسية بالحكومة التركية الموقتة بزعامة مصطفى كمال، كما ينص على ان على فرنسا ان تتخلى عن بقية الأراضي التي تحتلها في تركيا، وان تقدم عوناً مادياً مهماً الى المناضلين الوطنيين. والحال ان الدعم الفرنسي لمصطفى كمال وجماعته سيتواصل بعد ذلك، وصولاً الى تخلي فرنسا عن لواء الاسكندرون العربي السوري للأتراك. ولكن تلك حكاية أخرى بالطبع. الصورة: مصطفى كمال والفرنسي فرانكلين - بويون يوم توقيع ميثاق أنقرة.