ازمة المنطقة العربية اليوم، ونعني بها الغليان في الشارع، والاستنفار الهجومي الاسرائيلي، هي ذروة مأزق السلام. عملية السلام وصلت الى عنق الزجاجة، انها متعثرة، وربما مهددة بالانهيار. من اجل ان نحلل ازمة المنطقة اليوم لا بد من ان ننظر الى المسألة من وجهيها: الاسرائيلي والعربي. في الجانب الاسرائيلي عندما وصلت عملية السلام بين الفلسطينيين واسرائيل الى الاستحقاقات الصعبة مسألة القدس، وعدوة اللاجئين، واخلاء بعض المستوطنات احتدم الصراع داخل المجتمع الاسرائيلي، لا داخل الحكومة الاسرائيلية فحسب، على نحو ما شاهدنا. وبدا واضحاً ان المجتمع الاسرائيلي منقسم على نفسه بشدة وانه لا يستطيع ان يتابع المراحل النهائية من عملية السلام، وخصوصاً في ظل مواقف باراك المهزوزة. الازمة اذاً في الجانب الاسرائيلي هي تراكم استحقاقات صعبة لا تستطيع حكومة مفككة مع كل الدعم الاميركي ان تواجهها. اما الازمة في الجانب العربي فكانت تراكم احباطات في الشارع الفلسطيني: مراوغة اسرائيلية، ومحاولة فرض حلول مع الجانب الاضعف، السلطة الفلسطينية - إبتزاز هذه السلطة بالوعيد والتهديد، او بالترغيب الموافقة على اعلان الدولة والترهيب لنسف عملية السلام وحجب الاعانات الدولية اذا ما فكرت السلطة باعلان الدولة من جانب واحد. كانت زيارة شارون الاستفزازية، محاطاً ببضع مئات من الحرس وقوات الامن، الى داخل الحرم الشريف، كافية لصب الزيت على نار الاحباطات العربية، ولينفجر الشارع الفلسطيني، منفلتاً من كل عقال كما حدث. لم يعد لدى الشارع الفلسطيني في مناطق السلطة ما يخسره بعد 7 سنوات من الحصار والتضييق والمراوغة. وخرجت الامور من يد السلطة. ولربما اراد عرفات ان يبلغ الغضب ذروته حتى يستفيد من هذا الموقف سياسياً" بمعنى ان لم يعد يستطيع ان يسيطر على شعبه في وجه الاذلال والتعنت الاسرائيليين. وبالتأكيد لم يكن بوسع عرفات ان يمارس اي عنف ليكبح جماح المنتفضين، في وقت يواجه فيه هؤلاء اشد اشكال العنف. لا بد هنا ان نعود الى الجانب الاسرائيلي. الاسراف الشديد في العنف، والذي أدانه المجتمع الدولي. ظاهرة تستحق الوقوف عندها. فاستخدام الدبابات والحوامات والصواريخ لقمع تظاهرات شعب اعزل إلا من الحجارة وبعض البنادق، هي دليل ضعف لا دليل قوة. دليل موقف مهزوز وخائف. وجاء خطف الجنود الاسرائيليين الثلاثة على حدود اسرائيل الشمالية مع لبنان على يد مجموعة من مقاتلي "حزب الله" ليؤكد حال الضعف الارباك في صفوف الاسرائيليين. تمت العملية بسهولة مدهشة، ولم يُرق فيها نقطة دم واحدة! وجاء اخيراً انذار باراك الكرتوني لعرفات والذي انتهت مدته، ولم يستطع باراك ان يفعل شيئاً ليحفظ ماء وجهه الا بتمديد الانذار لبضعة ايام!! لم يسلم باراك بالطبع من انتقادات شديدة من جانب الصحف الاسرائيلية، اذ اعتبره بعضها المسؤول الاول عن سوء ادارة المواجهة، بل وعن حدوث المجابهة. وتساءلت "معريف": من الذي فتح الباب أمام الثور الهائج؟ وتابعت الصحيفة: "كيف لم يجد باراك الشجاعة السياسية في تلك الاوقات العصيبة؟!... يبدو ان باراك كان يخشى مغبة ان يتهمه احد بالرضوخ للعرب والمسلمين ! لذلك قرر الرضوخ امام شارون وليكود!". لا بد من ان نشير ايضاً الى انتفاضة "عرب - 48" المقيمين داخل اسرائيل انتفاضتهم كانت تعبيراً عن الخيبة الفلسطينية الشاملة من معالجة باراك وحكومته لقضية السلام وتعبيراً عن تضامنهم مع اخوانهم في الضفة والقطاع. ولكنها في الوقت نفسه كانت تعبيراً عن احباطاتهم هم وعن تهميشهم المتعمد. كانت تعبيراً عن سخطهم على حكومة باراك ووعوده الكاذبة، بعد ان اعطوه اصواتهم وكانوا سبباً في نجاحه بالوصول الى السلطة. في الجانب العربي لا بد من ان نتوقف عند نقطتين: الاولى: ان الحكام العرب تركوا عرفات يواجه مصيره الصعب بنفسه. لم يقدموا له الدعم الكافي في كامب ديفيد ولا بعد كامب ديفيد. واذا استثنينا الموقف المصري، نجد ان معظم الحكام العرب والمسلمين لم يشدوا ازر عرفات في قضية حساسة تهم المسلمين والمسيحيين جميعاً كقضية القدس! بل ان بعضهم كان موقفه اقرب الى الشماتة قائلين ضمناً: "لندعه يواجه نتائج اوسلو!" صمد الرجل ولم يفرط، ولكن اخفاقه في الوصول الى اتفاق يحفظ ماء الوجه مع باراك كان احد اسباب انفجار الشارع الفلسطيني الذي طال صبره وطالت معاناته من دون ان يرى بصيص نور. وعندما وقعت المجزرة سارعوا الى اعلان تضامنهم مع الشعب الفلسطيني وتحركوا اخيراً وقبلوا بعد طول تلكؤ بعقد مؤتمر قمة عربي! والنقطة الثانية ان تعاطف الشارع العربي مع انتفاضة الغضب الفلسطينية، ومع ما قدمه الفلسطينيون من تضحيات كان كبيراً. واذا كان الشارع العربي قد عبر بدوره عن سخطه واحباطه وجنح نحو اجراءات خماسية - وليدة لحظتها - غير عقلانية، فان هذا مبرر ومفهوم لالف سبب وسبب. ولكن انسياق كثير من الكتاب والمثقفين العرب الى اقتراح حلول لاعقلانية ولا تؤدي الا الى الخراب وانفجار المنطقة كان امراً غير مفهوم وغير مقبول على الاطلاق. بعضهم طالب بالسماح بالجهاد وفتح الحدود اللبنانية امام المتطوعين والفدائيين العرب! الا يكفي لبنان ما لقيه من مصائب، وهل كتب عليه ان يظل "ملطش عصا" لانتقامات اسرائيل؟ وبعضهم الآخر - وفيهم رؤساء تحرير صحف عربية ورؤساء تنظيمات حزبية - دعا الى فتح جميع الجبهات العربية المتاخمة لاسرائيل مصر، الاردن، سورية امام المتطوعين والمجاهدين! ونسي هولاء الجهابذة او تناسوا ان دخلو "متطوع" واحد من اي من هذه الحدود يعني اعلان حال حرب من جانب اسرائيل. من المؤسف ان تتحول انتفاضة شعبية عفوية اثارت تعاطف العالم معها الى موسم للمزايدات عند بعض المثقفين العرب، ومناسبة ل"فش خلقهم"، وصب جام غضبهم على كل من نادى بالسلام في يوم من الايام. وراحت بعض المحطات الفضائية العربية تدعو انصار السلام الى "التوبة" واعلان التراجع عن مواقفهم! اما بعض شيوخنا الكرام فقد اعتبروا انصار السلام في عداد "المرتدين"! سألني احدهم بانفعال زائد: "وكيف تؤمن بالسلام وانت ترى ما تفعل اسرائيل باخواننا الفلسطينيين، وما فعلت بلبنان؟!" قلت: "انا اؤمن بالسلام من اجل حصر اسرائيل ضمن قيود وشروط السلام. من اجل كسر ذراعها الطويلة. لنحاربها بالسلام لا بالحرب، فقد جربنا الحروب، وكلنا نعرف نتائجها". ان وقف عربدة اسرائيل لا يكون الا بالسلام. الجبهة المصرية هادئة منذ وقعت مصر اتفاقية السلام مع اسرائيل عام 1979، والجبهة الاردنية هادئة، والجبهة السورية هادئة منذ توقيع اتفاقية فصل القوات مع اسرائيل عام 1975. اسرائيل اليوم خائفة من السلام. لندع اسرائيل تواجه مأزقها الداخلي... تواجه الانقسام الحاد. سيقول العالم ان اسرائيل غير قادرة على السلام. اما نحن، اذا كنا غير قادرين على الحرب، فلنكن قادرين على السلام على الاقل! * كاتب فلسطيني مقيم في دمشق.