رغم أن قمة شرم الشيخ أنجبت بعد ولادة عسيرة، ذلك الاتفاق الذي يساوي بين القاتل والقتيل، فإن نيات باراك التي أفصح عنها، قبل توجهه إلى القمة، تكفي لتوقع تحضيره لجنازة الاتفاق، بعد فترة هدنة. وإذا كانت العبرة في التطبيق، رغم مساوئ ما تحقق في ربع الساعة الأخير، فسجل باراك يشي بالنهايات الحتمية: تفاوض على التفاوض لحرق المراحل. وبديهي أيضاً أن تطرح علامات استفهام، بعدما قدم الفلسطينيون أكثر من مئة شهيد، عن احتمالات صمود "وقف العنف"، أو وقف الإسرائيليين القتل وغلّ أيدي رماة الحجارة، ما دامت نيات باراك وعرّاب حربه شارون، تضمر المزيد، فيما حقائق المجزرة مرشحة لأن تصبح الضحية التالية... والأمم المتحدة مرشحة لأن تكون شاهد زور. باراك يعد لمواصلة الحرب، ولعب مجانين التطرف والتعصب في إسرائيل على أوتار الصراع الديني إذا افلت من عقاله هذه المرة، لن يبقي لعاقل صوتاً في مواجهة طوفان الغضب. حين التأمت القمة في شرم الشيخ، بعد ساعات عصيبة، لم يظهر الإسرائيليون أو الأميركيون أنهم أدركوا حقيقة ما حصل، والدليل أن كلينتون حين تحدث عن "انهاء العنف"، بدا كمن يرى في ثورة الفلسطيني على محاولة اذلاله ودفعه إلى الانتحار في سجن اليأس، مجرد فورة غضب للانتفاض على الفقر أو ضمان رغيف الخبز!... وأما باراك فيصر على مشروع انتحار لعرفات، ويتوهم بعد سقوط مئة شهيد، أن لا خيار أمام الرئيس الفلسطيني سوى أن يكون خنجراً في ظهر شعبه. ... مجرد أوهام خرافة، تكفي حال الهياج في المنطقة لاظهار الحجم الكارثي لثمنها، ولم يكن ينقص لاستكمال مطالب الجنرال في القمة الخماسية سوى المطالبة بمصادرة حجارة الضفة وغزة، ونفي رماتها، لتطمئن إسرائيل إلى تركيع الخصم فيصبح جديراً بالسلام معها. الفرصة الأخيرة، تكررت كثيراً كلما تنصل واحد من "أبطال" التعايش مع الفلسطينيين، من وعوده ومما وقّع. لذلك كانت كلمة الرئيس حسني مبارك في شرم الشيخ قاسية في واقعيتها، فيما لم يجد الراعي الأميركي لإسرائيل في كل ما حصل سوى "نقطة حزينة". ولعل أبلغ ما في تحذيرات الرئيس المصري، ليس القرارات المحتملة للقمة العربية ولا التلويح بمواقف صارمة لمواجهة غطرسة باراك وجنون شارون، بل التنبيه إلى أن الدولة العبرية التي لم تكن صورتها اليهودية العنصرية بمثل بشاعتها اليوم، لن تبقى في منأى عن البركان، إذا أصرت على حرق المنطقة بنار الدبابات التي تسحق الفلسطينيين. ومهما دبج من حروف في شرم الشيخ، بات واضحاً أن عرفات وكل الأطراف العربية، القريبة والبعيدة من العملية الأميركية للسلام الإسرائيلي، تدرك الآن أن نعي رئيس الوزراء الإسرائيلي التفاوض مع الفلسطينيين، عشية شرم الشيخ، لا يعني سوى رضوخه لإرضاء جوقة مجانين التعصب، وعلى رأسهم حاخام ليكود، ارييل شارون... بالتالي الإعداد لجولة حرب أكثر دموية، يخوضها باراك وهو مطمئن إلى أنها لن تتحول حرباً متكافئة مع جيوش. ولا يعني تشكيكه ب"أهلية" عرفات كشريك في المفاوضات سوى اخفاء نية اطاحته! لكن نار الجنرال لن تبقى وراء أسوار روما.