بعد ساعة عاصفة لم تشهد لها رام الله مثيلاً، سكنت المدينة سكون القبور بانتظار ما ستحمله لاهاليها طائرات الاباشي والدبابات الاسرائيلية التي تحركت باتجاه المدينة بعدما فرضت عليها حصاراً مشدداً منعت فيه دخول الناس او خروجهم بما في ذلك الطواقم الصحافية. لملم اهالي رام الله اطفالهم من المدارس ولزموا بيوتهم يراقبون تحركات المروحيات الاسرائيلية التي حلقت على ارتفاع منخفض جداً في سماء المدينة. واعلنت قوات الامن والاجهزة الامنية الفلسطينية الاخرى حال الاستنفار وتمركز افرادها على مداخل المدينة تحسباً لدخول قوات خاصة جديدة او حتى اجتياح اسرائيلي واسع. وابلغ رئيس اركان الجيش الاسرائيلي شاؤول موفاز مرؤوسيه ان يبلغوا القيادة الفلسطينية ان "مقرات القيادة الفلسطينية كافة" ستقصف، وبالفعل تم تبليغ رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية العميد توفيق الطيراوي "باخلاء المقرات لأنها ستقصف". وما ان اعلن الفلسطينيون انهم سيدافعون عن كل حجر ولن يغادروا مقراتهم الامنية والسياسية حتى تحركت اربع مروحيات عسكرية من مستعمرة بسغات زئيف القريبة من القدس باتجاه مدينة رام الله لتبدأ القصف بمساندة طائرات حربية، وتزامن ذلك مع قصف بحري وجوي لمدينة غزة. وكانت الاهداف متماثلة، مقرات الشرطة الفلسطينية، حيث قتل قرب احدها جنديان اسرائيليان من القوات الخاصة المعروفة بقوات "المستعربين"، كذلك مقر "المقاطعة" حيث يقيم الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في مجمع للمؤسسات الحكومية الفلسطينية ومعسكر لقوات الامن الفلسطينية قرب الطيرة غرب رام الله، وفوراً انقطع التيار الكهربائي في رام الله. اما في غزة فطالت الصواريخ الاسرائيلية مقر عرفات، بالاضافة الى قوات امن الرئاسة القوات 17. كان احصاء حصيلة القصف صعباً جداً ولكن عشرات سيارات الاسعاف جابت شوارع المدينة مطلقة صفاراتها لنقل الجرحى الى المستشفيات، قبل ان تعاود المروحيات قصفها من جديد مرّات ومرات ومرات... استيقظ الفلسطينيون الذين تعودوا منذ اسبوعين على فتح اجهزة الراديو للاستماع الى آخر الاخبار على تهديد ووعيد من الوزير بنيامين بن اليعازر يعلن "انهيار المفاوضات" ويأمر الجيش الاسرائيلي بالاستعداد للمواجهات، لرد "العنف الفلسطيني"، وكان النبأ الآخر استشهاد احد افراد جهاز القوات 17 في المدينة خلال اشتباك عسكري مع القوات الاسرائيلية على مفرق بيتونيا - عين عريك غرب رام الله، كذلك استشهاد طفل آخر من رفح متأثراً بجروح اصيب بها من قبل. كانت شوارع المدينة تغلي وبدأ الشبان اغلاق المحال التجارية حداداً على الشهيد الجديد غير ان التلاميذ كانوا قد توجهوا الى مدارسهم. في العاشرة والربع شاهد مجموعة من السكان سيارة "مشبوهة" تحمل لوحة اسرائيلية تقف امام مدرسة الفرندس للبنين، المحاذية لمقر شرطة رام الله. هجم الشبان على السيارة وفرّ الجنود الاسرائيليون الاربعة من السيارة باتجاه مقر الشرطة. حطم الشبان السيارة ثم اشعلوا النار فيها. انتشر نبأ وجود "مستعربين" في وسط رام الله بين السكان كالنار في الهشيم، والفلسطينيون وذاقوا الامرين من وحدات القوات الخاصة هذه التي ارتكبت تصفيات كثيرة في صفوف الشبان. وبلمح البرق تجمعوا بالمئات امام المقر فيما اندفع العشرات منهم الى داخل المقر، وبقي الآخرون من الخارج يهتفون ويصرخون، الى ان خرج احد الشبان وكأنه يعلن عن القتل. لم يرَ الناس في الشارع سوى جثة واحدة ولكن شهوداً اكدوا مقتل جندي آخر داخل مقر الشرطة، وسلمت الجثتان الى الارتباط العسكري الفلسطيني - الاسرائيلي، فيما اعلن الناطق باسم الجيش الاسرائيلي "فقد جنديين آخرين" كانا في السيارة نفسها التي قال المصدر الاسرائيلي ذاته ان الشرطة الفلسطينية احتجزتها بالقرب من حاجز عسكري. ولكن الفلسطينيين نفوا هذه الرواية مدللين على ذلك بوجود السيارة قرب المدرسة الفلسطينية وبفرار الجنود الى داخل بناية الشرطة هرباً من الشبان. حالت مجموعات الشبان دون تصوير جثة الجندي وقامت بتحطيم كاميرا تابعة لتلفزيون اجنبي... مزيج من مشاعر الانتقام والحزن سرت في شوارع رام الله بعدما كثرت اشاعات بأن الجيش الاسرائيلي سيقتحم المدينة وراح الناس يتراكضون في كل اتجاه. كل يفكر بأطفاله في المدارس او ابناء عائلته الذين توجهوا الى اماكن عملهم. وسارعت الشرطة الفلسطينية الى تنظيم حركة السير واخلاء وسط المدينة من السكان. "انهم يعلنون الحرب" هذا كان رد الرئيس الفلسطيني الذي اجتمع مع مدير وكالة الاستخبارات الاميركية ال "سي آي اي". فيما افادت مصادر اسرائيلية قبل القصف ان الاخير يحاول ترتيب لقاء فلسطيني - اسرائيلي على اعلى المستويات الامنية لتطويق التطورات المتسارعة. ولكن فيما كان الاثنان مجتمعين كانت الدبابات الاسرائيلية تزحف نحو رام الله من كل الاتجاهات... وما ان انتشر نبأ قتل الجنديين الاسرائيليين حتى فتحت الاذاعة الاسرائيلية الرسمية خطاً مباشراً نقلت من خلاله تصريحات للمسؤولين السياسيين والعسكريين الاسرائيليين بدءاً بآرئيل شارون مروراً برئيس حزب شاس الديني المتطرف ايلي يشاي وانتهاء برئيس الاركان. اعلن السياسيون دعمهم أي خطة يتخذها باراك "لوقف الاعتداءات الفلسطينية التي لم يعد لها حدود" وتوعد العسكريون بأن "الرد سيكون مناسباً".