قلّ أن شهدت الولاياتالمتحدة في العقود الأخيرة معركة انتخابية على هذا القدر من التكافؤ في الفرص بين الطرفين المتنافسين الرئيسيين. فاستطلاعات الرأي العام، قبل أسابيع قليلة من إجراء الانتخابات، ما زالت عاجزة عن الفصل بين احتمالات فوز المرشح الديموقراطي نائب الرئيس آل غور، وفرص نجاح خصمه الجمهوري حاكم ولاية تكساس جورج دبليو بوش، وذلك على رغم تبلور مواقف كل منهما، بما ينسجم مع التوجه العام لحزبه، ويتباين عن موقف الطرف الآخر، ولاسيما في الموضوع الاقتصادي. وليس من المبالغة القول إن المسألة الاقتصادية، ومسألة وجه صرف الفائض في الموازنة تحديداً، هي الحلبة الرئيسية للصراع بين بوش وغور، وما دونها من الاعتبارات السياسية والمواقف الاجتماعية والعلاقات التجارية والسياسية الدولية معارك جانبية يقتصر الخلاف فيها، أو يكاد، على الشكليات. فالولاياتالمتحدة تستعد للانتخابات الأولى في الألفية الجديدة في ظل ازدهار اقتصادي مستمر منذ قرابة العقد من الزمن، وعلى خلفية توقعات وتكهنات تستبعد أي انكماش في المستقبل المنظور. فالمؤشرات الاقتصادية الرئيسية ما زالت مطمئنة، من البطالة التي استقرت عن أدنى مستوياتها التاريخية إذ لا تتجاوز الأربعة في المئة، الى التضخم الذي جرى ترويضه واحتواؤه، على رغم أن أرقامه قد ارتفعت بقدر محدود في الفصول الأخيرة، مروراً بالطبع بأسواق الأسهم التي شهدت معدلاتها ارتفاعاً خطيراً في الأعوام القليلة الماضية، متخطية معظم التوقعات المنطلقة من المقارنات التاريخية. ولا يقتطع التراجع النسبي الذي تعيشه هذه الأسواق في الآونة الأخيرة من حجم هذا الارتفاع إلا قليلاً. أما أسباب هذا الازدهار فهي موضوع خلاف يصب في صميم الخطاب السياسي لكل من الحزبين الرئيسيين. وفي حين يجمع الديموقراطيون والجمهوريون على الإقرار بالدور الفعّال لمدير المصرف المركزي الأميركي مجلس الاحتياط الاتحادي ألن غرينسبان، في التزام السياسة النقدية التي حافظت على النمو الاقتصادي، فإن تقويمهم للعوامل المحركة التي دفعت الاقتصاد قدماً يختلف بما يتوافق والولاء الحزبي والموقف العقائدي لكل من الطرفين. فيعتبر الجمهوريون أن الرخاء الاقتصادي قد أثمر نتيجة للبذور التي زرعها الرئيس السابق في الثمانينات. إذ كان ريغان قد اعتمد جملة خطوات تهدف الى تعزيز قطاع الأعمال، من تخفيف العبء الضريبي الذي كان قد تفاقم في عهد سلفه الرئيس جيمي كارتر، الى الحد من القيود الرقابية والتسعيرية الرسمية التي تضبط أعمال القطاع الخاص، إطلاقاً لحرية المنافسة. فيرى الجمهوريون أن عقد الثمانينات كان بمثابة حاضنة للمبادرات الجديدة، بعد أن فكّت القيود الضريبية والرقابية. فهذه المبادرات، من وجهة النظر الجمهورية، هي التي أطلقت العنان للتقنيات الجديدة، وسمحت بارتفاع الإنتاجية وتحسين مستوى الأداء في مختلف القطاعات. وتكتمل فصول هذه السردية الجمهورية بالإشارة، على مضض، الى دور التعديل الضريبي الذي اعتمده الرئيس السابق جورج بوش الأب حين اتفق مع الكونغرس، والذي كان يسيطر عليه الديموقراطيون، على رفع الضرائب عام 1990، بما يتعارض مع الموقف المبدئي للحزب الجمهوري الداعي الى تقليص الضرائب، مما رفع مداخيل الدولة وأرسى الأساس لتقليص العجز في السنوات المتعاقبة، ثم الى دور الكونغرس، بعد أن فاز به الجمهوريون عام 1994، بإلزام الرئيس كلينتون ضبط الإنفاق وصولاً الى تحقيق فائض في الموازنة. وليس لدى الديموقراطيين سردية متكاملة يواجهون بها السردية الجمهورية، بل يكتفون بالإشارة البديهية الى أن الازدهار قد تحقق في ظل رئيس ديموقراطي، فالفضل يعود إليه ضمناً، ولاسيما أنه اعتمد سياسة ضبط مالي صارمة. وفي حين يكاد الخطاب السياسي أن يقصر دوافع النهضة الاقتصادية على عامل القيادة، فإنه يمكن بالطبع الإشارة الى عوامل اخرى متزامنة وغير مترابطة سببياً إنما على قدر واضح من الأهمية في تحقيق الازدهار أو تعزيزه، فمنها النهضة في التقنيات المعلوماتية والتي تحققت في الثلث الأخير من القرن العشرين، والتحول الى اقتصاد المعلومات، وانتهاء الحرب الباردة، واستيعاب قدر من الكفايات العسكرية في قطاعات الأعمال. ويؤكد القائمون على الحملة الانتخابية لكل من المرشحين أن المعركة الخطابية حول المسؤولية عن الازدهار ليست مجرد سجال كلامي يجري تسويقه لأغراض انتخابية، بل إنها تعكس الاختلاف المبدئي القائم بين الطرفين، وتضع أمام الجمهور الناخب الأميركي خيارين واضحين للمرحلة المقبلة: أما أن يكون التوجه العام للسياسة الاقتصادية في المرحلة المقبلة تخفيف العبء الضريبي و"إعادة الأموال إلى أصحابها"، على حد تعبير بوش، أو المحافظة على السياسة الاقتصادية "الحذرة" التي حققت الازدهار وصولاً الى تسديد كامل الدين العام بحلول سنة 2012، وتوسيع دائرة العناية بالشرائح الاجتماعية الاقتصادية الوسطى، ولا سيما أنها كانت لها المساهمة الكبرى في تحقيق الازدهار، عبر النشاط والإنتاجية، من دون أن تحصل منه على عائد يضاهي ما حصلت عليه الشريحة العليا المتمولة، على حد تعبير غور. والواقع أن هذين الخيارين ليسا على القدر من الوضوح الذي يزعمه لهما أصحابهما. فبوش يؤكد أن التخفيض الضريبي الذي يسعى إليه، والذي يبلغ 65 في المئة من حجم الفائض القابل للصرف والمتوقع أن يتراكم في السنوات العشر المقبلة، سيعود بالفائدة على كل المواطنين، يبلغ هذا التخفيض إذاً قرابة 1300 بليون دولار، بعد أن أعادت التوقعات تقدير الفائض ليبلغ أكثر من ألفي بليون دولار. ولكن الحسابات التي أعدها خصوم بوش عن نتائج تطبيق خطته، تشير الى تفاوت صارخ في استفادة الشرائح الاجتماعية المختلفة من هذه الخطة، ذلك أن الشريحة العليا وفق مستوى الدخل والتي تتألف من 1 في المئة من السكان، تحصل بموجب هذه الخطة على 40 في المئة من القيمة الإجمالية للتخفيض. ومن دون التشكيك بصحة هذه الأرقام، يعتبر المسؤولون عن حملة بوش انها تنضوي على مخادعة، ويشيرون بالمقابل الى أن المواطن الأميركي ذا الدخل المحدود يستفيد وفق خطة بوش من تخفيض اعلى بالنسبة الى دخله من التخفيض الذي يحصل عليه الثري. ومن جهة أخرى، فإن توافق التخفيض الضريبي الذي يقترحه بوش مع "الضريبة الدنيا البديلة" ليس واضحاً. يذكر هنا أن هذه الضريبة قد أعدت لمنع الأثرياء في الولاياتالمتحدة من التهرب من دفع الضرائب عبر إيجاد المخارج التي تتفق مع نص التشريعات من دون روحها، مثل توظيف الأموال في القطاعات التي لا تشملها سلطة جباية الضرائب كبعض الاستثمارات في القطاعات العامة في الولايات، وغيرها. فتفرض هذه الضريبة على الأثرياء تسديد نسبة معينة تحتسب على أساس مجموعة الدخل، بغض النظر عن مصدره. ولا تتطرق خطة بوش الى التضارب المحتمل بين التخفيض الضريبي من جهة، والنسبة الإلزامية وفق الضريبة الدنيا البديلة من جهة اخرى. أي أن بعض الأثرياء قد يستفيدون من خطة بوش من جهة، ليسددوا مبالغ إضافية بشكل ضريبة دنيا بديلة. أما آل غور، فتقتضي خطته بتحويل 25 في المئة من الفائض المتوقع الى تخفيضات ضريبية موجهة. وفيما اعتمد بوش في خطته خفض النسب الضريبية التصاعدية، من 15 و28 و36 و6،39 في المئة كما هي اليوم، إلى 10 و15 و25 و33 في المئة، وذلك لتحقيق استفادة عامة من التخفيض الضريبي، فإن خطة غور تبقي هذه النسب على حالها، وتقدم للمواطنين أرصدة ضريبية لأغراض عدة، من تربية الناشئة، الى التوفير للتقاعد ومصاريف العناية الصحية. ويكرر غور أنه يهدف من خطته تقديم العون للشرائح الاجتماعية الدنيا والمتوسطة. غير أن خصومه يشيرون الى أن أرصدته الضريبية الموعودة، والتي يتطلب الحصول عليها خوض غمار المزيد من الاستمارات والإضبارات، قد تستعصي على ذوي الدخل المحدود لصعوبتها وغموضها والحاجة الى اللجوء الى المحاسبين لسبر أغوارها. فمن حيث الشكل، تختزل الخطتان الاختلاف في التوجه المبدئي للحزبين الجمهوري والديموقراطي، وذلك في الأولوية التي يعقدها الحزب الجمهوري ل"الحرية الفردية" المتجسدة في إعادة الضريبة الى المواطن، فالضريبة هي المال المدفوع للدولة لأغراض الموازنة، والفائض من الموازنة ليس ملكاً للدولة بل لمن سدده، بمقابل تركيز الحزب الديموقراطي على تحقيق "المصلحة العامة" عبر توسيع الموازنة لتشمل الفائض. إلا أن ثمة أسئلة يجب أن تطرح بشأن هذا السجال الذي أضحى خط التماس في المعركة الرئاسية الأميركية. فالتوقعات بشأن الفائض قد تبدلت أكثر من مرة. وفي حين أن تبدلها الى اليوم كان باتجاه رفع المجموع المقدر للفائض، فإنها تبقى عرضة للخفض، ولعدم التحقق. ومن هنا، فإن الوعود التي يقدمها كل من بوش وغور، هي وعود مشروطة. بل إن احتساب الفائض الى اليوم قد تم على أساس اقتطاع حصة صندوق الضمان الاجتماعي من الدخل، وذلك لتجميدها لمصلحة برنامج الضمان، والذي يجري على أساسه تسديد معاشات تقاعدية للمسنين من المساهمات التي يقدمها العاملون. فهذا البرنامج، مع اقتراب جيل ما بعد الحرب، أوسع الأجيال الأميركية المعاصرة، من التقاعد، مقبل على مرحلة حرجة يوم تزيد معاشات المتقاعدين عن مساهمات العاملين. وكانت التوقعات حتى أمس قريب تهدد بأن صندوق الضمان الاجتماعي سائر نحو الأزمة أو الإفلاس. ولكن الازدهار الاقتصادي قد انتشل صندوق الضمان من أزمته المرتقبة قبل أن يقع فيها. والتوقعات اليوم تأمل أن يكفي تراكم الفائض في هذا الصندوق لتغذية حاجته يوم يدخل جيل ما بعد الحرب مرحلة التقاعد. فاحتساب الفائض لا يشمل الدخل الحاصل من مساهمات العاملين في صندوق الضمان الاجتماعي. ولكنه يشمل المساهمات في صندوق العناية الطبية. والعناية الطبية هذه هي أيضاً خدمة تقاعدية تعتمد على نمط عمل برنامج الضمان الاجتماعي من حيث انها تكفي حاجة المتقاعدين باستعمال مساهمات العاملين. إلا أن الكونغرس يوشك أن يقر مبدأ حماية عائدات صندوق العناية الصحية. أي أن الفائض لن يبلغ 2000 بليون دولار. إضافة الى أن بعض مراكز الأبحاث الاقتصادية تعتبر ان التقدير الواقعي للفائض قد لا يتعدى نصف التوقعات التي يروجها السياسيون. أي أن خطة تصريف الفائض، والتي جعل منها كل من غور وبوش موضوع التباين الأول مع خصمه، عرضة ان تتلاشى بتبدل التوقعات. والواقع، وعلى رغم اطمئنان الاقتصاديين والمواطنين عامة في الولاياتالمتحدة الى ثبات الازدهار واستمراره، فإن الأصوات المنذرة من احتمال الكارثة لم تنقطع يوماً، بل ازدادت ارتفاعاً أخيراً، في أعقاب أزمة المحروقات. والتوقعات الاقتصادية في غالب الأحيان لا تتجاوز التكهنات. هل يمكن إذاً التشكيك بصدق مركزية موضوع صرف الفائض في الخطاب السياسي لكل من بوش وغور؟ يجوز استشفاف الجواب على هذا السؤال عبر تبين إمكانات التوظيف الشكلي لهذا الخطاب السياسي خارج إطار احتمالات التنفيذ الفعلي لمضمونه. فالواقع أن المرحلة الأخيرة للانتخابات الرئاسية الأميركية قد شهدت تراجعاً ملحوظاً من آل غور بالتحديد عن المنحى الوسطي الذي التزمه حزبه منذ مطلع التسعينات، ولا سيما في عهد الرئيس كلينتون. ذلك أن غور أضحى يكثر الحديث عن "الشركات الكبرى" ولاسيما "شركات النفط الكبرى" في محاولة تكاد أن تكون صريحة لاستعداء الجمهور لخصمه بوش، المدير السابق لشركة فقط، ورفيقه ديك تشايني، الذي استقال لتوّه من منصبه كمدير لشركة نفط أخرى. ولا تكاد أن تخلو أي من خطبه من عبارات شعبوية، تفرز المجتمع الأميركي الى طبقتين، "الأثرياء" و"الطبقة الوسطى". وهذه الطبقة الأخيرة، وفق المفهوم الضمني في خطاب غور، تضم الأكثرية الساحقة من الجمهور الأميركي، فيما "الأثرياء" أقلية متلاشية حجماً إنما ممسكة بقدر هائل من النفوذ والمال. فقد يؤدي هذا الخطاب الى تردي التأييد لغور في بعض الأوساط التي تنفر من الشعبوية، ولكنه في المقابل قد يرفع من التأييد له في الأوساط النقابية والعمالية، وغور بأمسّ الحاجة الى النقابات وجماهيرها في بعض ولايات الغرب الأوسط الأميركي لتعزيز فرص فوزه. ومن جهة أخرى، فإن البرامج الاجتماعية والاقتصادية التي يعد غور بتنفيذها تلقى استحساناً متبايناً ليس وفق الاعتبارات المناطقية والطبقية وحسب، بل الجنسية كذلك. وغور يحظى لتوه بنسبة تأييد عالية لدى النساء، لدفاعه الحازم عن حق المرأة بالإجهاض، ولم يتمكن بوش من اختراق هذا التأييد على رغم التناوب بينه وبين غور على التقدم في استطلاعات الرأي العام على مستوى الناخبين ككل. فإصرار غور على ضرورة التزام قطاع الترفيه في هوليوود معايير رقابية ذاتية، وإلا تحبيذه للتدخل الحكومي، أزاء بعض الانحلال الأخلاقي الذي يسوقه هذا القطاع، من شأنه أن يحصن نسبة التأييد له في صفوف النساء، فالتناوب في التقدم في استطلاعات الرأي العام والتكافؤ الذي يعكسه، يعود بطبيعة الحال الى نجاح بوش بتعبئة الأوساط المعاكسة المكافئة للفئات التي تمكن غور من تجييشها. أي أن بوش قد اجتهد لكسب تأييد أكبر لدى الرجال ولدى قطاع الأعمال، فابتعد بدوره الى حد ما عن الوسطية التي ميّزته في بداية حملته الانتخابية. فاعتماد التباين في الخطاب السياسي حول مسألة صرف الفائض ينفع كل من بوش وغور، على رغم إمكان وضع هذا التباين موضع التطبيق قد لا تكون بالقدر المزعوم. والمفارقة هي أن كل من غور وبوش، في ابتعاده الخطابي عن الوسطية، قد يكون قد اقترب أكثر من قناعاته المبدئية، وهي بالنسبة لغور ما دونه في كتابه حول البيئة من التزام بالمبادئ التقدمية التي تغلب المصلحة العامة على المصالح الخاصة، وبالنسبة لبوش تشجيع المبادرة الفردية وتقليص دور الحكم. ولكن هذه "العودة الى المبادئ" الأرجح ألا تترجم ابتعاداً عن الممارسة الوسطية بعد فوز أي منهما بالرئاسة، لاختلاف مقتضيات المرحلة الانتخابية، حيث التفاعل مع الجمهور، عن مقتضيات الواقع السياسي والاقتصادي في الولاياتالمتحدة، والذي أضحى مطبوعاً بالوسطية . في الحلقة المقبلة: الشرق الأوسط في الانتخابات الأميركية. * كاتب لبناني مقيم في الولاياتالمتحدة الأميركية.