تعرفُ النصوص الإسلامية الأولى البيعة بالمعنيين الديني والسياسي، وإن يكن الجانب الديني هو الغالب عليها. ففي القرآن الكريم في سورة التوبة آية 111 قولُهُ تعالى: ]إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله فاستبشِروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوزُ العظيم[. وفيه في سورة الفتح آية 10: ]إنّ الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم...[. وفيه في السورة نفسها آية 18: ]لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأَنزل السكينةَ عليهم وأثابهم فتحاً قريباً[. الواضح من هذه الأيات كلها أن موضوع البيعة الإسلام نفسُهُ، بحيث يخرُجُ مخالفُها من الإسلام. والمخالفةُ في الآية الأولى تعني معصية الله أو الكفر به - بينما تعني في الأيات الأخرى معصيةَ رسوله ص دونما تفرقةٍ بين الأمر الديني البحت مثل الصلاة والزكاة، والأمر الدنيوي مثل القتال معه أو إطاعة مأموراته ومنهياته الأخرى المتعلقة بشؤون الحياة العامة أو الخاصة. ويبدأ المعنى السياسي للبيعة بالدخول، مع بقاء الغَلبة للأمر الديني، في نصوص السنة النبوية، من مثل النصّ المشهور عن بيعة العقبة الثانية، حين طلب رسول الله ص ذلك بقول: "أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءَكم وأبناءكم" سيرة ابن هشام 2/84- 85. وقد بصَّرهم أسعد بن زُرارة بتبعات ذلك على سبيل الاستحثاث والإلزام حين قال لهم: "إنكم تبايعونه على أن تحاربوا العرب والعجم، والجنَّ والإنس قاطبة!" فالمعنى الديني الذي يعني الطاعة والنصرة المطلقة واضحٌُ هنا - وإنما عنيتُ بدخول الأمر السياسي أنّ المطلوبَ منهم ما كان الإسلام، إذ كانوا أسلموا في العقبة الأولى" بل حماية الرسول ص والذبِّ عنه إن هاجر إليهم في يثرب أنظر عن بيعة العقبة الأولى رواية عبادة بن الصامت في سيرة ابن هشام 2/75. وهناك النصّ الآخر المشهور في صيغة البيعة ومتطلباتها عن عُبادة بن الصامت أيضاً فتح الباري، م16/ ص113: "بايعنا رسولَ الله ص على السمْع والطاعة في منشطِنا ومكرهِنا، وعُسْرنا ويُسرنا وأثرةٍ علينا، وأن لا نُنازعَ الأمر أهلَهُ - إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان". إن المشكلة في هذا الأثر المتفق عليه أن جزأه الأول متعلقٌ بالبيعة للرسول، وهو يذكّرُ برواية ابن الصامت عن بيعة العقبة الأولى. بينما ينصبُّ الجزء الثاني في ما يبدو على طاعة امراء الرسول ص الذين كان يفوّضهم بقيادة السرايا أو الأُمراء من بعده. فالمسلمون مأمورون بمقتضى البيعة بالطاعة والنصرة في كلّ الحالات باستثناء الكفر البواح. وهناك - كما هو معروف - أثارٌ وأحاديث أخرى توضّح أن الطاعة إنما تكونُ في المعروف، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتناقضان ومقتضيات البيعة أو الطاعة. لكنْ على رغم ذلك فإن المفهوم من سائر الآثار صبغ البيعة حتى في الأمر السياسي بالصبغة الدينية، وربطها دائماً أو تشبيهها بالبيعة للرسول ص أو الطاعة له. وهناك القصة المشهورة عن أحد أمراء سرايا رسول الله ص الذي أشعل ناراً لتدفئة جنده ثم امرهم مازحاً أن يقتحموا فيها، فهمّ بعضهم أن يفعل ذلك لأمر رسول الله لهم بطاعته! فلمّا عادوا سألوا رسول الله عن ذلك فقال لهم غاضباً: "لو اقتحمتم فيها لما خرجتُم منها" أبو داود، جهاد! بيد أنّ وفاةَ رسول الله ص أثارت من جديد مسألة البيعة التي تستلزم الطاعة، وحدود تلك الطاعة من دون ان يرتبط ذلك في الروايات التاريخية عن خلافة ابي بكر بمشروعية السلطة التي تستلزم طاعة ناجمة عن بيعة. فأبو بكر يقول بعد البيعة: "إن أحسنتُ فأعينوني وإن أسأت فقوِّموني". ولا يُرضي ذلك الحطيئة الشاعر الذي ترتبط البيعةُ في ذهنه، أو الطاعةُ المطلقةُ إمّا بالنبوة أو التوارُث ضمن الأُسَرِ المالكة كما كان عليه الحال لدى الروم والفرس: أطعنا رسولَ الله ما كان بيننا فيا لرسول الله ما لأبي بكر أيورثُها بكراً إذا مات بعده وتلك لَعَمْرُ اللهِ قاصمةُ الظهر وعلى أيّ حال فإنّ الأمور تتخذ سبيلها الى شيء من الوضوح في عهد عمر بن الخطاب الذي ربط لأول مرة بعد وفاة الرسول ص بين البيعة والشُورى حين قال: "... من بايع رجلاً عن غير مشورةٍ من المسلمين لا يُتابَع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّةَ أن يُقتلا" قارن بكتابي: الأمة والجماعة والسلطة، ص 78. ويُشعرُ قولُهُ "عن غير مشورةٍ من المسلمين" بأنهم جميعاً أهل الشورى. لكنه على فراش الموت اختار ستةً كلّهم من قريش، وحصر فيهم حقَّ الاتفاق على واحد منهم فاختاروا عثمان بن عفّان رضي الله عنه وبايعوه هم أولاً ثم بايعه الناس. وتُسمّي المرويات التاريخية تلك اللجنة - إذا صحّ التعبير - بتسميات عدة: أهل الشورى، وأولو الأمر، وأهل الاختيار، وأهل الحلّ والعقد. ويظهر من روايات في تاريخ الطبري، وأنساب الأشراف للبلاذري، بل ومصنّف عبدالرزاق أنّ عمر وعثمان وعلياً، وربما صحابة غيرهم، كانوا يحصرون الشورى المتضمنة لحقي الاختيار والولاية معاً في أهل السابقة من المهاجرين" أما المسلمون الآخرون فيبايعون من يتفق عليه أهل الشورى هؤلاء. ومع ذلك يظلُّ الأمر على قدر كبيرٍ من الاحتمال والتأويل، فالراشدون الأربعة بويعوا جميعاً، لكنّ الآلية المؤدية الى اختيارهم للبيعة ما كانت واحدة. فنحن حتى الآن لا نعرفُ معنى قول عمر بن الخطاب إن خلافة أبي بكر كانت "فلتة"، أي فجأة" إلا إذا عنى أنّ أحداً لم يستخلفْهُ" بينما عمد أبو بكر الى استخلاف عمر. لكن إذا كان ذلك ما يقصده، فلماذا ربط هو البيعة بالشورى، ولم يستخلف أحداً بنفسه؟ وعثمان اختاره الثلاثة الآخرون الذين نصَّبهم عمر لذلك - بينما اختارت نخبةٌ من الثوار على عثمان علياً، ثم بايعه أهل المدينة من المهاجرين والأنصار. فإذا صدَّقْنا المرويات عن علي أنه لا مدخل للخلافة إلا لأهل السابقة من المهاجرين" فهذا يعني أنّ شرعيته ما بدأت بمبايعة الثوار له، بل بمبايعة المهاجرين الموجودين بالمدينة آنذاك. ونعرفُ من هذه الفترة المبكّرة أنّ الشورى على رغم غموض مضمونها السياسي كانت مهمة وإن ظلّت البيعةُ هي الأبرز في استجلاب المشروعية. ففي عام 38ه أثناء التحكيم طالب ممثلو معاوية ممثلي علي بأمرين: تسليم قتلة عثمان، وجعْل الأمر شورى الطبري 1/3355-3356. والحسن البصري 110ه يوضّح لنا لماذا اعتُبرت خلافةُ معاوية مُلكاً عَضوضاً لدى المحدّثين بأنّ معاوية ابتزّ المسلمين أمرهم على غير شورى. وأنصار عبدالله بن الزبير من الموالي والخوارج الذين قاتلوا معه بمكة جيوش يزيد بن معاوية ينكرون عليه مسارعته للمبايعة لنفسه بعد موت يزيد مباشرةً دونما انتظار للشورى وللترشيح طبقات ابن سعد 5،119، وتاريخ الطبري 2/422. لكنّ في مَثَل الموالي هؤلاء أمراً جديداً هو اعتبار انفسهم ضمن أهل الشورى، وعدم قصرها على قريش، بينما كان المعروف من قبل أنّ سائر المسلمين يتابعون مَنْ تختار قريش، أو في الحقيقة من يختاره الخليفةُ السابق. ومع استتباب الأمر للأُمويين بوصول مروان بن الحكم وأولاده وأحفاده للسلطة، عاد الربطُ بين الشورى والبيعة الى التراجع، وصارت البيعةُ - بأيّ طريقةٍ جرت - هو مسوِّغ المشروعية وبالتالي الطاعة. أما الشورى فقد صارت ايديولوجيا سائر الثوار من المرجئة والخوارج والقَدَرية، بما في ذلك أحد أبناء الأسرة الأموية يزيد بن الوليد الناقص، الذي ثار على ابن عمه الوليد بن يزيد مع بعض القدرية والمعتزلة باسم الشورى. ولا نسمعُ عن الشورى شيئاً بعد نهايات العصر الأموري، بينما تبرُزُ رؤية الخلافة لنفسها على النقد الإسلامي وفي رسائل الديوان الأموي، والبيانات التي كان يصدرها بعض خلفاء العصر العباسي الأول" وهي جميعاً تسمّي أمير المؤمنين "خليفة الله"، وتعتبر مبايعته على الطاعة والنُصرة بمثابة الواجب الديني، ولا ترى مسوّغاً لبيعته غير اختيار سلفه وهو غالباً والده له. وفي القرن الثالث الهجري عادت الشورى للظهور في كتب السَمَر والآداب السلطانية باعتبارها فكرةً أو مبدأ أخلاقياً لا علاقة له بالسياسة أو بحقّ الأمة في اختيار زعيمها أو أميرها. أمّا أمر الله عز وجل للنبي ص بمشاورة المسلمين، فقد اعتبره المفسرون والفقهاء على سبيل الندْب في الغالب. لكن حتى أولئك الذين اعتبروا الشورى ملزِمة، فإنما عنَوا بها الاستشارة في تفاصيل الأمور أو إدارة شؤون الدولة، وما ذكروا لها علاقةً باختيار الحاكم. البيعة والخلافة ما كان الفقهاء المسلمون ثواراً، لكنهم ما كانوا في الوقت نفسه خارج سياقات تطور فكرة السلطة والدولة. ومع ذلك يبقى غريباً أن لا نعثر على رؤية متكاملة للدولة والخلافة لدى الفقهاء قبل الماوردي ت. 450ه. نعم، نعرف أنّ التفكير في الدولة قبل الماوردي مر بمرحلتين إذا صحَّ التعبير: مرحلة الاعتزال السلبي، ثم مرحلة تعامل الحدّ الأدنى. وما كان الاعتزال باتجاه الزهد والتصوف وحسْب، بل كان أيضاً تعبيراً عن أولوياتٍ أخرى مثل الجهاد أو الرحلة في طلب العلم قارن بنماذج الفضيل بن عياض، وعبدالله بن المبارك، ووكيع بن الجراح، وأبي إسحاق الفزاري. ويمثّل أبو يوسف 184ه، والمحاسبي 243ه وأحمد بن حنبل 241ه، وأبو عبيد القاسم بن سلاّم 224ه مرحلة تعامُل الحدّ الأدنى بحكم الوجود في المدن، والحركية الثقافية الزاخرة منذ منتصف القرن الثاني وإلى مشارف المدن، والحركية الثقافية الزاخرة منذ منتصف القرن الثاني وإلى مشارف القرن السادس الهجري. وقد ترتبت على تأخر المحدّثين والفقهاء في الاهتمام بالمسألة السياسية آثارٌ بعيدة المدى، ما زلنا نلمس بعضها حتى اليوم. فقد انصرف للاهتمام والتنظير لمسألة الدولة متكلمو الفرق الإسلامية من الشيعة والخوارج والمعتزلة والمرجئة، فدخلوا في منافسة مع السلطة القائمة الأموية والعباسية مُزايدين في قُدْسية المسألة السياسية، واعتبار ذلك كلّه ديناً من الدين. لذلك انصبّ جهد رجالات تعامل الحدّ الأدنى على التقليل من قدسية الموضوع السياسي أو عقائديته، وبالتالي موضوع الدولة" لحساب الأمة باعتبارها المقصد الأعلى للإسلام، وهي مناطُ استمراره وانتشاره. قال الفقهاء الأحناف بالسواد الأعظم، أي الإرادة العامة للجمهور - وكان ذلك أصل فكرة الإجماع الفقهي. وحدد أبو يوسف وأبو عبيد شروط مشروعية السلطة من خلال تحديد الموارد المالية المشروعة. وقال أحمد والمحاسبي إن العقل غريزة وليس جوهراً فرداً، ولذلك فالناس متساوون فيه، فالسلطة التدبيرية شائعةٌ فيهم، وليست قصراً على نخبةٍ سياسيةٍ أو ثقافية. ونجم عن ذلك القول إن الإمامة ليست من التعبديات" ولذلك فإن أساسها الاختيار من الأمة. بيد أن تجربة السلف الصالح السياسية ما اتاحت إمكانات واسعة للاستئناس والتطوير. فما ارتبطت البيعة لدى فقهاء القرنين الثالث والرابع بالاختيار المباشر من الأمة صاحبة السلطة. بل إنه ما كان منطقياً لدى الفقهاء الذين اعتبروا الإجماع الفقهي إجماعَ مجتهدين، أن يذهبوا في الموضوع السياسي إلى أن الاختيار هو اختيار العامة بل ظلَّ لديهم اختيار أهل الحل والعقد، الذين يمكن أن ينحصروا في واحد كما استظهر الماوردي مستشهداً باستخلاف أبي بكر لعمر. ففي القرن الخامس الهجري، عصر الماوردي وأبي يعلى، كانت الشورى قد انفصلت تماماً عن البيعة، بل إن الخلافة كانت قد انفصلت عن السلطنة وتولت الثانية السلطة الإجرائية، تبعاً للترتيبات الاجتماعية والثقافية التي قسمت النخبة الى أرباب سيوفٍ وأرباب أقلام. ومن هنا تفسير ابن خلدون لتطورات تركُّز السلطة بالعصبية وليس بالدين. وفي الحقيقة فإنّ هذا التفسير بدأ أيام ابن المقفع، واهتمّ به الماوردي في كتابه "أدب الدنيا والدين". هكذا اتخذت الخلافةُ معنىً رمزياً صار شبه موحَّدٍ مع الدين، فَسَهُلَ اعتبار البيعة دينية الطابع تماماً مثل الخلافة - وانتقل النقاش الى الشروط التي تُبقي على وحدة الجماعة والدولة التي رُئي أنها تنحصر في أمرين: الكفاية في إدارة الأمور الداخلية، والشوكة إزاء الخارج. وبذلك ما عاد أحدٌ للبحث في شروط شرعية السلطة، أي سلطة، بل في شروط أو أواليات فاعليتها. فالمشروعية التأسيسيةُ للدين والدولة باقية بوجود الخلافة الرمزية. لذلك تنحصر المسألةُ في وظائف السلطان الفعلية وفاعليته. فالقوة هي المسوِّغ الوحيد للطاعة وليس البيعة بالرضا أو بالإكراه. والقوة قوةُ على فرض الاستقرار الداخلي منع الفتنة، وردع العدو الخارجي حماية البيضة. وهكذا فإنّ نقاشات بعض الفقهاء والمتكلمين حول البيعة الخاصة والبيعة العامة، وأيُّهما تهب الخليفة المشروعية، هي من آثار القرن الرابع الهجري حين لم يكن الصراعُ قد حُسم بعد لصالح الخلافة أو السلطنة. أما بعد ذلك فما عادت البيعة مهمة لصيرورة الخلافة الى التوحد بالإسلام وبالأمة من جهة، وتكاثر سلطات الأمر الواقع أو الضرورة من جهة ثانية. فقد أغنت عن البيعة التأسيسية حقيقةُ أنّ كون المرء مسلماً كافٍ للولاء للأمة والدولة. أما السلطة الفعلية - وهي سلطة ضرورةٍ في كل الأحوال - فالحكم عليها لا يكون من خلال البيعة الخاصة أو العامة، بل من قدرتها على القيام بوظيفتيها السالفتي الذكر! المثل السوداني يفرض عنوان المحاضرة: "البيعة للحزب والبيعة للإمام، التبايُنُ والتوافُق" سؤالاً في غير محلّه، أو أنه غير صحيح بمقاييس إسلام العصور المتقدمة، لكنه مطروحٌ بقوةٍ في نطاق الفكر الإحيائي الإسلامي المعاصر. فالمشروعية في الإسلام القديم أو لدى المسلمين القُدامى مشروعيتان: مشروعية تأسيسية تتمثل في الدين والأمة والجماعة واستمرارها جميعاً، ودخول الخلافة ضمنها في ما بعد. ومشروعية مصالح، وهي التي تُعنى بالمصالح الحاضرة للمسلمين والمتعلقة بسلطات الضرورة، والتي عالجها فقهاء السياسة الشرعية من مثل الجويني 478ه، وابن تيمية 728ه. فقهاءُ المشروعية التأسيسية ما اعتبروا تهدُّد المصالح العملية مبرراً لطرح سؤال المشروعية ما دام الدينُ والأمةُ مستمرين. أما فقهاءُ السياسة الشرعية فقالوا إنه على رغم استمرار المشروعية التأسيسية" فإن المصالح الحاضرة للمسلمين حقيقة أن تُبحث، وأن توضَعَ لها القواعد والتنظيمات الكفيلة بحفظ الدولة والمجتمع، وتدبير مصالح الناس وشؤونهم، وإلا تهددت المشروعية التأسيسية أيضاً. أما الحركات الإسلامية المعاصرة فقد اعتبرت أنّ ظروف القرن العشرين التي أزالت الخلافة، جرفت معها المشروعية التأسيسية أيضاً، فما عاد الدينُ مصوناً ولا عادت الأمةُ مناط المشروعية. لذلك لا بد من إقامة الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة، وتعيد الأمة الى الإسلام، والإسلام الى الأمة، ولهذا فعلى رغم براءة السؤال ظاهراً، أي هل المشروعية عند الترابي أو عند البشير اليوم، فالواقع أنّ الخلاف أعمقُ من ذلك بكثير. فالحركاتُ الإسلاميةُ الإحيائية أو الأصولية في تعبير الغربيين في العقود الخمسة الأخيرة لا ترى المشروعية في جماعة المسلمين، وقيامها على الإسلام، ولذلك - شأنها في ذلك شأن الفرق الإسلامية في القرن الثاني الهجري - تحاولُ كلٌّ منها أن تبلور دعوةً ومشروعاً لإقامة الإسلام من جديد من طريق إقامة دولته. وهكذا فهي بناء على تكييفها أو فهمها لمدى خطورة الوضع، يعني كفر المجتمع والدولة أو الدولة فقط" تضعُ نفسها في موضع رسول الله ص، وتضعُ الدولة أو مشروعها محلَّ الأمة. فإن تطامَنَ سُخْطُها بعض الشيء وضعت نفسها محلَّ الأمة، ووضعت رئيسها أو قائدها في موضع الخليفة أو أمير المؤمنين. وفي الحالتين فإنها تعتبر إقامة الدولة ركناً من أركان الدين، وإن صرَّح بعضها بذلك، ولم يصرّح البعض الآخر. وفي الحالتين فإنّ تلك الحركات لا ترى أنّ الشرعية قائمة لأنها لا تُعيدُ اكتشاف الجماعة المعصومة، والمؤتمنة على الدين، ولا تضع المرجعية في مجتمعها وأمتها. والواقع أنّ ذلك ما كان شأن المفكرين الإصلاحيين في القرن الماضي ومطالع هذا القرن، ولا شأن الإصلاحيين الجدد في العقدين الأخيرين. الإصلاحيون المسلمون المعاصرون يحتكمون الى الجمهور المؤتَمَن على الإسلام، والمصالح الكبرى للمسلمين، فيقولون بالتعددية الحزبية، للاختلاف في إدراك المصالح وطرائق رعايتها. ويقولون بالانتخاب وليس البيعة. فلا بيعة إلاّ للإسلام وشريعته وأمته. أما الدولة وأما النظام وأمّا الجوانب التدبيرية فيصوّت عليها الجمهور تصويتاً مباشراً، والذين يصلون من طريق صناديق الاقتراع هم أهل الحلّ والعقد، وأهل الشورى: من رأس الدولة، وإلى رأس الحزب والنقابة والجمعية التشريعية والهيئة التقريرية. وبهذا المنظور المتفق مع بديهيات الإسلام والعقل الإنساني السليم لا بيعة إلا لله ورسوله وكتابه وأمته. أما كل المنتخبين الآخرين فهم أشخاصٌ تنظيميون، وأوائل بين متساوين، وبعقود موقتة. وبهذا المنظور أيضاً ليس الدكتور الترابي إلا رئيساً لحزب من أحزاب في السودان، وهو ليس أكبرها ولا أهمّها، وليس من حقه أن يفرض على السودانيين نظاماً لم يختره جمهورهم. وبهذا المنظور ليس للبشير من الأمر شيءٌ إلا إذا عرض نفسه على الأمة فاختارته من خلال صناديق الاقتراع. وأنا أرى أنه لا ينبغي أن يتاح له ولا للترابي عرض نفسيهما على الجمهور بعد أن وصلا للسلطة بالانقلاب العسكري، وتسببا في مقتل ألوفٍ من الناس في السودان. اعتبر الحسن البصري 110ه أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، وهو صحابيٌّ جليل، متسلطاً، لأنه ابتز الأمة امرها بغير شورى، ولأنه استخلف على المسلمين ابنه من دون اختيار، ولأنه قتل حجر بن عدي من دون محاكمة. لا بيعة للحزب، ولا بيعة للإمام أو رأس الدولة. فالبيعة أمرٌ دينيٌّ يتطلب طاعةً مطلقةً ويتصل بالعقائد، والمشروعية التأسيسية. وقد انتهت علاقتُها بالموضوع السياسي قبل قرون. هناك اليوم المجتمع السياسي، والعقد السياسي. وهناك ولاية الأمة على نفسها، وهي المؤتمنةُ على الإسلام وعلى دولته. أما إذا لم تسر الأمور على ما يشتهيه الجمهور وتقتضيه حرياته، فلا حلَّ إلا بالعمل والأمل والنضال السلمي الذي لا يسفك دماً ولا يعطل مصلحةً كبرى للمسلمين، ولا يُحدثُ فتنةً بين الناس، كما هو المعروف من أبواب البُغاة المعارضين في كتب الفقه الإسلامي. أما البيعة لرأس حزب أو جماعة ولو كان بقصد الاجتماع حوله من أجل معارضة السلطة، فلا مصلحة للأمة فيه إذ يتعدد الأئمة والأمراء بتعدد الأحزاب، فيتعدد الولاء ويتجزأ. لا حلَّ إلاّ بالعمل والأمل من ضمن الثقة بالجمهور وبالجماعة. فالأمر كما قرر رسول الله ص أنّ أمته لا تجتمع على ضلالة، وأنّ الجماعة رحمةٌ والفرقة عذاب، وأنّ من شذّ عن الجماعة شذَّ في النار. وأنه إذا لم تكن للمسلمين جماعة ولا إمام - وهذا لا يكون إلاّ في آخِر الزمان - فكن حِلْسَ بيتك ولو أنّ تعضَّ بأصل شجرةٍ حتى يأتيك الموتُ وأنت على ذلك! * كاتب لبناني. ** من محاضرة ألقيت في مؤتمر طلاب الشريعة والدراسات الإسلامية في بيروت، في 23 أيلول سبتمبر 2000.