"ليست ايطاليا بلاداً مهجورة، بلا تاريخ ومن غير تقاليد عريقة... ثمّة أضداٌد تتنافر ويستحيل الجمع بينها: إما ان تثبّت اوروبا هويتها المسيحية، وإما أنها سائرة إلى الارتماء في حضن الاسلام. لا بد من ان نحّصن انفسنا ضد تعدد الزيجات، والتمييز ضد المرأة، والتطرف الاسلامي. اضربوا اخماسكم باسداس قبل الاقدام على اي قرار او خطوة في هذا المضمار!" ليست هذه التصريحات، خلافاً لما قد يتبادر الى الذهن للوهلة الاولى، من الدرر التي يجود بها من حين لآخر زعماء الاحزاب والحركات اليمينية المتطرفة في اوروبا، من أمثال الفرنسي لوبان او النمسوي هايدير او الايطالي اومبرتو بوسّي. بل هي من بنات أفكار أسقف مدينة بولونيا التي تحتضن اقدم جامعة في اوروبا. وتشاء الصدف انها كانت نظّمت هذا الصيف ندوة عالمية عن التأثير الكبير الذي تركته الحضارة العربية والاسلامية، وبخاصة اعمال المعّري، على كبير شعراء اللاتينية دانتي آلغييري. ومن الملفت انها تأتي ابّان الاحتفالات الضخمة التي تنظمها الكنيسة الكاثوليكية لمناسبة مرور الفي عام على ميلاد السيد المسيح، تحت شعار الانفتاح والتآخي مع الديانات والمعتقدات الاخرى. وتشاء صدفة اخرى ان تتزامن تصريحات الكاردينال جياكومو بيفّي مع دخول سفينة تركية المياه الاقليمية الايطالية خلسة، بعدما هجرها طاقمها، وعلى متنها ستمائة مهاجر بين رجال ونساء واطفال، جلّهم من الاكراد والاتراك والافغان والعراقيين، ورسوّها على شاطىء كالابريا جنوب غربي ايطاليا. وبهذه السفينة يصل عدد السفن التي دخلت بصورة غير شرعية الى إيطاليا من منطقة كالابريا، الى 17 منذ مطلع هذه السنة. ردة الفعل الرسمية على تصريحات اسقف بولونيا كانت فورية، اذ اعتبرت وزيرة التضامن ليفيا توركو "ان مثل هذا الكلام يحمل قدراً كبيراً من اللامسؤولية، سياسياً وانسانياً". وأضافت "ان الكاردينال ارتكب خطأ بتدخّله في شؤون سياسية صرفة. للكنيسة الكاثوليكية ان تحدد بحرية مبادئها الدينية والاخلاقية، لكن الهجرة ليست من صلاحياتها ولا تجوز معالجتها من منظور المعتقدات الدينية". ولم تقتصر تصريحات الأسقف بيفي على العموميات، بل دعا الى فتح الباب أمام تدفق الهجرة الكاثوليكية - أميركا الجنوبية والفيليبين وأفريقيا المسيحية - وتنظيمها، ورفض المهاجرين من الديانات الاخرى، مثل المسلمين والبوذيين والهندوس. "لا وجود للحق في الاجتياح"، قال الكاردينال مضيفاً: "ان لكل دولة ان تسمح بالدخول الى أراضيها لمن تشاء... فليأتِ الاميركيون اللاتينيون والفيليبينيون وجيراننا من أريتريا". وليست هذه المرة الأولى تثير فيها تصريحات للاسقف بيفي الجدل في الاوساط الاجتماعية والسياسية الايطالية. فقد أقام الدنيا ولم يقعدها عندما اوصى الايطاليات بالحفاظ على عذريتهن لتقديمها "هبة" عند الزواج، ووصف مؤيدي الاجهاض بأنهم "مافيات اجرامية". وقد سارع الامين العام للمجلس البابوي المكلف شؤون الهجرة الى التذكير بأن المعتقدات الكاثوليكية تبشّر بالاحترام المطلق للانسان، بغض النظر عن انتماءاته الدينية، موضحاً ان المسيحيين "يعتبرون كل انسان اخاً لهم وشريكاً في الحياة". اما النقابات الكبرى والاحزاب اليسارية والتنظيمات الاجتماعية فأجمعت على توجيه ألذع الانتقادات الى الكاردينال بيفي، ووصفته بالعنصرية. لكن التصريحات اللاهبة التي صدرت عن أسقف بولونيا لقيت أيضاً من تجاوب معها، حتى بين كبار المسؤولين في الفاتيكان، مثل الكاردينال أنجيلو سودانو الذي يقوم مقام وزير للخارجية، فضلا"عن استقطابها تأييداً "واسعاً" في أوساط المحافظين والأحزاب اليمينية. فقد رأى سيلفيو برلوسكوني أنها"كلمات تستحق الاهتمام والاحترام". بينما أثنى زعماء الحلف الوطني وعصبة الشمال على شجاعة الكاردينال، واعتبروا "ان الوقت قد أزف لكسر المحرمات وتسمية الاشياء بمسمياتها... وأن أحداً لن يتجاسر بعد اليوم على القول بأن الهجرة ظاهرة ايجابية"، إشارة الى التصريحات التي صدرت أخيراً عن مسؤولين كبار، بينهم رئيس الحكومة ورئيس جمعية الصناعيين، مشددة على حاجة ايطاليا إلى عشرات الآلاف من المهاجرين سنوياً، للحفاظ على وتيرة النمو الاقتصادي وعلى التوازن بين الاعمار في التركيبة الاجتماعية. حتى الآن لم يصدر عن الفاتيكان أي تصويب أو إدانة للتصريحات التي صدرت عن اسقف بولونيا. لكن الفئات الدينية الاخرى التي تعيش في ايطاليا لا تخفي ذهولها واستنكارها، وبخاصة المسلمين الذين استهدفتهم هذه التصريحات بالدرجة الاولى. فقد أعلن محمود سالم الشيخ، باسم مسلمي فلورانس عاصمة توسكانا، "ان من واجب الدولة الدفاع عن علمانيتها والتصّدي بحزم لهذه المواقف". والمعروف ان عدد المسلمين في ايطاليا يتجاوز مليوناً ومئتي الف إستناداً إلى آخر الاحصاءات الرسمية، مما يجعل الاسلام الديانة الثانية هنا بعد المسيحية. ولكي يضمن الكاردينال بيفي ان تصريحاته الاستفزازية ستعقد ثمارها، ختمها بالعبارات التالية: "انا لم أنزعج قط من فكرة الحروب الصليبية. أعرف أن كلامي سيساء فهمه، ولكن من واجبي ان افصح عن شواغلي".