يبدو أن الحاجة أصبحت ماسة لاستزراع عناصر الاستقرار في عناصر ايرادات الخزانة العامة السعودية. ولا يعني الاستقرار الثبات، بل المقصود به الابتعاد عن التذبذب صعوداً وهبوطاً. وبعيداً عن أي مبالغة من الضروري الأخذ في الاعتبار أن التوجه الطبيعي لجانبي الايرادات والانفاق هو الارتفاع نتيجة لزيادة النشاط الاقتصادي المفترض من جهة، والزيادة في السكان التي غدت في حكم المؤكدة عاماً بعد عام، أما بالنسبة للعجز، فيجب دائماً أن يكون ضمن حدود ضيقة لا يتجاوزها، وهنا تكمن أهمية ارتكاز المالية العامة على حصيلة الأنشطة الانتاجية غير النفطية بالتدريج. وتنطوي تقديرات الموازنة على قدر كبير من المجازفة، لا سيما عندما تعتمد ايراداتها على سلعة تتداول في سوق عالمية مفتوحة كالنفط، ففي العام 1999 قدرت ايرادات الخزانة السعودية بحوالى 121 بليون ريال، لكنها ارتفعت الى 147 بليون ريال. على رغم أن تقديرات الايرادات يغلب عليها التحفظ، تفادياً لمفاجآت كما حدث في العام 1985 عندما قصرت الايرادات الفعلية عند التقديرات عند اعلان الموازنة لذلك العام. ومن الأمور المشهورة أن تتذبذب عائدات النفط تبعاً لسعره، وهذا أحد أسباب ارباك المالية العامة للدول النفطية، ومنها السعودية. لكن عند تتبع الايرادات غير النفطية في السعودية نجد أنها متذبذبة كذلك، ويمكن الجدل أن هذا أمر يضيف الى الارباك خصوصاً عند تراجع عوائد النفط، وتقهقر وتيرة الأنشطة غير النفطية، فمثلاً لم تتجاوز حصيلة الخزانة العامة من الايرادات غير النفطية 62 بليون ريال في العام 1998، وهي ذات القيمة تقريباً بالأسعار الجارية للعام 1983، وعنصر الارباك لا يكمن في الثبات لكن في التذبذب، على رغم أنها شهدت قفزة كبيرة في العام 1998. وتتذبذب مساهمة الايرادات غير النفطية في الخزانة العامة السعودية لدرجة كبيرة تبعاً لانكماش وتوسع ايرادات النفط، فمثلاً بلغت هذه النسبة حوالى 44 في المئة في العام 1998 بعد أن تراجعت ايرادات النفط عن العام السابق 1997 بنحو النصف وهي نسبة مقاربة لما حققته الايرادات غير النفطية في العام 1986 في اثر تراجع الايرادات النفطية بأكثر من النصف عن عام 1985. وبطبيعة الحال كان تحسن أسعار النفط واضحاً في أداء المالية العامة للعام المالي المنصرم، اذ قدرت ايرادات للعام المالي 1999 كما وصلت فعلياً الى 147 بليوناً، أي بزيادة قدرها 26 بليون ريال، ولم تكن تلك الزيادة كافية لموازنة الدفاتر، اذ اختتما العام بعجز قدره 34 بليون ريال، ويمكن الجدل أن العجز قد غدا هيكلياً، اذ لازم الموازنة لسنوات طويلة دونما انقطاع، مما يجعل من المقبول القول أن هناك حاجة لمعالجة هذا الأمر هيكلياً ولن يجدي في المدى الطويل ترك الأمر لتحسن ايرادات النفط ولا الى خفض الانفاق. بيانات تاريخية ولعل من المفيد استعراض بعض البيانات التاريخية سريعاً، قدرت ايرادات الموازنة العامة للدولة في العام 1981 ب372 بليون ريال، فيما تقدر الايرادات لهذا العام 2000 ب157 بليوناً! أي حوالى 42 في المئة، بالأسعار الجارية. مما يعني انخفاض متوسط نصيب الفرد من الايراداتبالأسعار الجارية من 37 ألف ريال في العام 1981 الى أقل من ثمانية آلاف ريال أي حوالى الخمس بالأسعار الجارية. ولعل النتيجة الأساس التي برزت مع نهاية العام المالي 1999 هي ارتباط المالية العامة بايرادات النفط، وأن الأنشطة الاقتصادية الأخرى تساهم مساهمة غير مؤثرة وبات واضحاً أن الاقتصاد المحلي قد أقر بهيمنة ذلك التأثير بما في ذلك سوق الأسهم التي أظهر سلوكها تبعية لمتغير سعر النفط. والجديد ليس في اكتشاف أن النفط هو الأوسع تأثيراً في مجريات الاقتصاد السعودي، لكن الأمر الذي لا بد من مواجهته وحسمه بسرعة التذبذب في ايرادات الموازنة العامة التي قد تنعكس على برنامج التنمية، كما هو معرف على وجه التحدي في الخطة الخمسية السادسة. وهنا يمكن طرح سؤال: هل حققت الخطة معدلات النمو الاقتصادي الحقيقي المتوقع؟ تجدر الاشارة الى أن عدم انتظام النمو الاقتصادي يتزامن مع نمو سكاني منتظم في حدود 3.3 في المئة سنوياً، وهكذا نجد أن معدل النمو المقبول في الناتج المحلي الاجمالي يجب ألا يقل عن معدل النمو السكاني، للمحافظة على مستوى معيشة الفرد، وفي هذا السياق، نجد أن عدد سكان السعودية قدر في العام 1980 بحوالى 9.6 مليون نسمة، وفي العام 1995 بحوالى 17.9 مليون، وبالمقابل نجد أن الناتج المحلي الاجمالي للعامين كان 53.3 بليون ريال و 62.9 بليون ريال بالأسعار الثابتة. وهكذا نجد أن نصيب الفرد من الناتج تراجع بنحو الثلث بالأسعار الثابتة خلال الفترة 1980 - 1995 وهكذا يمكن القول أن ترك ساحة المالية العامة محتكرة تقريباً على النفط قد يستتبع عدم مجاراة النمو الاقتصادي للنمو السكاني، وهذا ما حدث فعلاً في العام 1998، اذ بلغت نسبة النمو الاقتصادي الحقيقي 1.5 في المئة في حين تجاوز النمو السكاني ثلاثة في المئة. ولا بد من ايجاد بدائل لتحقيق الثبات الضروري لتنفيذ البرنامج التنموي والأعباء المتزايدة نتيجة لزيادة السكان، وهذا أمر لم يظهر جلياً في موازنة العام المالي 2000، ويبدو أن هناك ضرورة الى اعادة هيكلة الموازنة، انطلاقاً من فلسفة قائمة على مرحلة تشهد انفتاحاً اقتصادياً غير مسبوق على العالم، وقدراً أعلى من الشفافية في ادارة شؤون سوق السلع والخدمات، وفي ادارة رأس المال المحلي والأجنبي، وفي ادارة الموارد البشرية المحلية والوافدة، وفوق هذا فان اعادة هيكلة المالية العامة ضروري لأمر آخر، وهو لتمويل برنامج الرفاه، اذ على رغم تفاوت وجهات النظر، يمكن الجدل أن للدولة مسؤولية مستمرة لنشر التعليم ولتقديم الرعاية الصحية والاجتماعية لرعاياها، ويبدو أن هذا أمر يجب أن يستمر بل هناك من المبررات ما يشير الى أن هذه الخدمات يجب أن تتحسن باستمرار وترتفع كفاءتها، ولسنوات عدة مقبلة رغبة في توسيع نطاق التنمية والرفاه الاجتماعي. ومن المعروف أن السعودية بلد قارة تتجاوز مساحتها 2.2 مليون كيلومتر مربع، وأنه ما زال في حاجة الى تواصل الجهد التنموي، فمثلاً ارتفع نصيب التعليم من الانفاق الحكومي على التعليم ليتجاوز 5.5 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي وهذه تحاكي ما تخصصه الدول عالية الدخل، لكن نسبة الالتحاق بالتعليم الابتدائي طبقاً لبيانات البنك الدولي 62 في المئة في العام 1995 والطموح أن تتجاوز هذه النسبة 90 في المئة، وهذا يتطلب تواصل الانفاق الحكومي على هذا القطاع بمعدلات عالية. تحديات التحويل واذا كان هذا مقبولاً ولا جدال حوله، يبقى السؤال مطروحاً حول تحديات التمويل. منذ العام 1983 والموازنة العامة للدولة تعاني من عجز دون انقطاع، وقد مُوّل العجز في البداية بالركون الى الاحتياط النقدي، ثم بعد ذلك باللجوء الى الاقتراض، وفي السنوات الأخيرة اعتمد تمويل العجز على الاقتراض المحلي، وفي نهاية النصف الأول من العام 1999 بلغ مجمل السندات الحكومية قرابة 174 بليون ريال، وهناك مطلوبات متنوعة على مؤسسة النقد منها قرابة 138 بليون ريال لمصلحة معاشات التقاعد، و68 بليوناً للمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية طبقاً للاحصاءات الرسمية. وهذه ليست قروضاً لكنها تستثمر من قبل مؤسسة النقد لصالح تلك المؤسسات. وليست هناك احصاءات متاحة تحدد حجم الدين العام وخدمته، أما تأثير ذلك على البنوك، اذ يلاحظ أن البنوك السعودية مليئة بالمعايير العالمية، وحتى عندما تنخفض نسبة الملاءة، فبالامكان تحسينها - نظرياً - بزيادة رأس مال البنوك، واستقطاب المزيد من الودائع، وبالترخيص لبنوك جديدة، وبفتح أفرع لبنوك أجنبية تحتفظ بودائع نظامية لدى مؤسسة النقد. وعلى رغم توجه ميزانية العام 2000، كما في الأعوام الماضية، إلى تغطية العجز عن طريق الاقتراض، والسؤال الذي يطرح نفسه هل تجب تغطية العجز عن طريق الاقتراض أساساً، أم يجب التوجه إلى سياسة تغطية القصور في توقعات في الإيرادات عن طريق زيادة الإيرادات غير النفطية لا سيما أن ما يقترض من ما يجب أن يدفع مستقبلاً، وهذا ينطوي على فرض يعوزه المبررات، وهو أن الدخل المستقبلي سيكون كافياً لتغطية الاحتياجات المستقبلية وكذلك سداد ما يستحق من قروض؟ في هذا السياق من الضروري ارتكاز إيرادات الخزانة العامة على الإيرادات غير النفطية في الأساس، وهذه تتكون في الأساس ليس على الرسوم لكن على نظام ضريبي يرتكز على اكتساب القيمة المضافة وليس على دخل الأفراد لا سيما أن القيمة المضافة ستكون بمثابة أداة لتشجيع أنشطة اقتصادية وتجاوز أخرى، واحتساب نسب متفاوتة على السلع والخدمات حسب مجريات الاقتصادي الوطني، بل حتى إعفاء أنشطة برمتها لتقديرات محددة. ولعل الأهم من هذا كله اتخاذ خطوة عملية من خلال ضريبة القيمة المضافة لتحويل مرتكزات المالية العامة السعودية من أسس ريعية الى أسس إنتاجية. * اقتصادي سعودي متخصص في المعلوماتية والانتاج.