وسط الحروب والفقر والاوبئة، ورغم هجرة الكفاءات وتخلي العالم عنها وعن دولها، ما تزال هناك صحافة في افريقيا تحيا وتتنوع. المقارنة، اذا كان لا بد منها، فانها لا تُجدي مع صحافة الدول الاوروبية او حتى الآسيوية، بل تصح في ما خص وسائل الاعلام العربية التي، رغم المساعدات الحكومية او الرساميل الخاصة، حققت كلها قفزات نوعية تجعلها افضل من زميلاتها في القارة السوداء. بيد ان العالم الافريقي في زمن الانترنت والتقنيات المتطورة، عاجز اليوم عن جني بعض المكاسب الاعلامية التي غدت تلقائية في قارات اخرى. فحتى بعض التجارب الديموقراطية التي اقرّت بحريات الرأي والتعبير، عاجزة عن الاستفادة من التقنيات المتطورة بسبب تردي اوضاعها المادية وانعدام بناها التحتية وضعف خبراتها البشرية. في لقاء مع الكاتب والصحافي بيار شيريو، الذي يعتبر من اهم المتخصصين في الاعلام الافريقي في فرنسا، والذي اصدر مؤخراً، في باريس، رواية بوليسية تدور احداثها في القارة السوداء: "لاغوس 666"، حاولنا فهم حاضر الصحافة الافريقية وتأمل مستقبلها القريب الذي يبدو ان الغموض يحيطه للاسباب التي ذكرناها والتي تحول دون تطور القارة عموماً: بادئ ذي بدء، هل يمكننا التكلم عن صحافة افريقية، ام ان الانقسامات الجغرافية بين شرق القارة وغربها وجنوبها تمنع ولادة وسائل اعلام تتوجه الى القارة بأكملها؟ - الانقسام ليس جغرافيا بقدر ما هو تاريخي ينبع من المرحلة الاستعمارية ومخلفاتها الثقافية. هناك مدرسة فرنسية واخرى بريطانية، ورغم ان فرنسا قامت بتشييد بنى تحتية في مستعمراتها الافريقية، على عكس سياسة لندن التاريخية في القارة السوداء، الا ان التقاليد البريطانية في مجال الاعلام واحترام حرياته اعطت، في الدول التي كانت مستعمراتٍ بريطانية، صحافة اكثر جدية ومتانة من النتاج الاعلامي في الدول الناطقة بالفرنسية. هناك صحف في كينيا تعود الى بداية القرن العشرين، وفي نيجيريا ورغم عداء نظام ساني اباشا السابق للحريات، ظلت الصحافة في جرائدها اليومية واسبوعياتها قوة لم تتمكن الحكومة من اخضاعها او قمعها بشكل تام... اما في كينيا، فرغم بعض الاجراءات التعسفية التي قام بها الرئيس موي، كمنع ثلاث مطبوعات سنة 1998، هي "ستار" و"فاينانس" و"بوست اون صنداي"، فان وسائل الاعلام ظلت تهاجم الحكومة، كما ابقت وكالات الانباء العالمية بمعظمها مكاتبها في نيروبي، لكون هذه المدينة مزودة بما تحتاجه وسائل الاعلام من بنى تحتية وتوفيرها الحيز من الحرية الذي يصعب الحصول عليه في دول افريقية اخرى. فمحاربة العمل الصحافي بشكل علني وتلقائي ما تزال في هذا الجزء من افريقيا من المحرّمات… والصحافة في الدول الافريقية التي خضعت للاستعمار الفرنسي؟ - الوضع هنا بالطبع اردأ. ففي الدول "الغنية" نسبياً كساحل العاج، ما تزال الصحافة تفهم دورها كمروّج للحكومة وقراراتها الانقلاب الاخير وانقلاب وسائل الاعلام على المسؤولين السابقين خير دليل.... اما في الدول الفقيرة التي تشهد، او شهدت، تجارب ديموقراطية كمالي او بوركينا فاسو، فان ضعف الامكانات المادية، وانتشار الامية التي تصل احياناً الى 90 في المئة في بعض المجتمعات، يمنعان ولادة صحافية جدية وصحافيين متمرسين في المهنة. بالطبع هناك بعض الاستثناءات، كما في دولة بنين، التي لا تعد اكثر من خمسة ملايين شخص، لكننا نجد اليوم فيها عشرين صحيفة. وسبب رواج بعضها انها فهمت اخيراً ان عليها الخروج من العاصمة وتناول الداخل الافريقي. هذا ما تقوم به صحيفة "ماتينال" التي تغطي احداث المناطق وذلك عبر شبكة مراسلين وعبر الانترنت. اما الاستثناء الثاني، فهو المثال السنغالي، اذ يمكن القول ان صحافة داكار هي الافضل في دول افريقيا الفرنكوفونية، والاكثر انفتاحاً على التطورات العالمية. مجلة "سود" SUD المعارضة غدت صحيفة يومية ثم بنت محطة اذاعية هي الاولى اليوم في السنغال. والآن شرعت هذه الامبراطورية الاعلامية المصغرة تطلق، عبر 40 في المئة من الاسهم التي تملكها، اول محطة تلفزيونية افريقية LSA التي بدأت بثّها منذ منتصف كانون الثاني يناير. ولكن أليست هناك ايضاً ممارسات صحافية تخضع لعوامل جغرافية؟ - هناك ايضاً اختلافات جذرية بين شرق القارة وغربها: ففي شرق القارة، ومع وجود لغة مشتركة هي "السواحيلي"، هناك احساس بالانتماء الى حضارة اقليمية. مجلة ك"أيت افريكان" الصادرة في نيروبي توزع ايضاً في تنزانياواوغندا وتعالج مختلف المسائل التي تواجهها هذه الدول، كما تتطرق الى قضايا القارة الملحة: حروب افريقيا الوسطى، الجزائر، جنوب افريقيا... بينما وسائل اعلام نيجيريا القوية، فإنها كلها تولي الاهتمام لما يجري خارج حدود دولتها، فضلا عما هو خارج نطاق مدينة لاغوس. واعلام جنوب افريقيا؟ - يصعب التكلم عن هذا الاعلام داخل النطاق الافريقي، لاسباب عدة تعود الى تكوين هذه الدولة وتاريخها. في مرحلة ما بعد الابارتهايد التمييز العنصري، انفتحت هذه الصحافة على القارة السوداء على شكل واسع النطاق: ريبورتاجات وتحقيقات صحافية خاصة حول دول افريقيا الوسطى: زائير، الكونغو، اوغندا بسبب رئيسها موسيفيني القريب من مانديلا، ونيجيريا لأنها الدولة الافريقية العظمى بعدد سكانها والتي تُرعب القارة. كذلك يمكن القول ان دولة كزامبيا او موزامبيق تخضع ايضاً لهيمنة جنوب افريقيا الاعلامية. المثير في جنوب افريقيا ان صحافتها النافذة ك"مايل اند غارديان" اليسارية المعتدلة، والتي تملك بعض حصصها صحيفة "الغارديان" البريطانية، قليلة المبيع حوالي 20 ألف نسخة يومياً، بينما الصحف الشعبوية ك"سويتان" التي لا تأثير لها على الحياة السياسية، تبيع مئات آلاف الاعداد...