لا تعاني القارة الافريقية فقط من المجاعة والأوباء وحروب الإبادة وانهيار الدولة ومؤسساتها. فتراجع الحريات، لا سيما حرية الرأي والتعبير، غدا من الظواهر الجديدة في عدد من الدول الافريقية في الأشهر الأخيرة. مجموعة من الاشارات التي هبّت من مختلف أطراف القارة السوداء تشير كلها إلى أنه، رغم الضغوطات العالمية، لم تعد الأنظمة الافريقية تحتمل حرية الصحافة أبداً. في شهر حزيران يونيو الماضي، اشترط الاتحاد الأوروبي على التوغو مساعدتها لقاء السماح للمرشحين إلى مقعد الرئاسة بالظهور على شاشة التلفزيون. بيد أنه رغم السماح للمعارضين، وللمرة الأولى، بالظهور والتكلم على الشاشة الصغيرة، أظهرت الدراسات ان الجنرال اياديها، الرئيس الحالي، احتكر جهاز التلفزيون بنسبة 49 في المئة، ولم يعط خصمه الأول سوى 4،9 في المئة من الوقت، حارماً عدداً من أخصامه الآخرين أي ظهور. كذلك أجرى تلفزيون الدولة مقابلة مع ابنة أحد المرشحين التي صرحت بأن اباها "عاجز عن إدارة البلاد"! وأجرى مقابلة أخرى مع شخص مجهول ادعى أن أحد المرشحين طالبه باغتيال نائب في البرلمان! وفي زيمبابوي، حيث شهدت الصحافة حرية شبه تامة بداية التسعينات، هدد الرئيس موغابي صحافة بلاده بإقفال عدد منها إذا ما ظلت تنشر أخباراً كاذبة! و"الخبر الكاذب" كان اشارة إحدى الصحف إلى قصر خاص بنته زوجة الرئيس بعد أن حصلت على قرض من الحكومة. في جمهورية افريقيا الوسطى ادخلت الحكومة أخيراً قانوناً لمراقبة النشرات الاخبارية قبل بثها. وهذا ما أدى إلى اضراب الصحافيين عن العمل. أما في كينيا، فقد قرر الرئيس دانيال آراب موي عدم تجديد الرخصة الممنوحة لصحيفة وأسبوعيتين لأنها قامت أخيراً بانتقاد سياسة الحكومة. وفي الأشهر الأخيرة قام النظام الكيني بحرق عدد من الصحف في وسط العاصمة نيروبي. إحراق الصحف وصل أيضاً إلى جمهورية الكونغو الديموقراطية زائير سابقاً حيث قام النظام بإحراق ألفي نسخة من صحيفة "لوسوفت" المعارضة والتي تصدر في... بروكسيل. وصحيفة "لوسوفت" هذه كانت في الأشهر الماضية صودرت عدة مرات في كينشاسا. في هذه الأجواء، غدا من الصعب الاستبشار بإشارات الأمل في افريقيا: نيجيريا، وبشيء من الحذر، بدأت تشعر بعودة قسم من حرياتها بعد موت ساني أباشا المفاجئ، فخلال السنوات الماضية، اتهم على الأقل أربعة صحافيين بحبك مؤامرات ضد الجنرال أباشا وحُكم على البعض منهم بالسجن المؤبد. كما أن عشرات من العاملين في حقل الاعلام زجوا في السجون. ولم تكتفِ حكومة أباشا بشن هجومها على الصحافة، بل حاولت أيضاً خنقها اقتصادياً، عبر منع بعض الصحف من الصدور لفترات طويلة: صحيفة "الغارديان" النيجيرية منعت من الصدور لفترة ستة أشهر، وهذا المنع تكرر مراراً بعد ذلك. كذلك طالبت الحكومة وسائل الاعلام بدفع ضريبة جديدة، مهددة بأن رافضي دفع هذه الضريبة يمكن زجهم لفترة سبع سنوات في السجن من دون محاكمة واجبارهم على دفع جزية بقيمة عشرة آلاف دولار. إضافة إلى ذلك، تعرض عدد من الصحافيين خلال هذه السنوات إلى التعذيب والمحاكمات الجائرة والاعتقال من دون تهمة، كما تعرضت الصحف إلى المصادرة والرقابة وإحراق مكاتبها. وهذا الاضطهاد وصل إلى ذروته في الأشهر الأخيرة قبل وفاة أباشا. فللاحتفال بالذكرى الرابعة لوصوله إلى الحكم، قام الجنرال النيجيري في شهر تشرين الثاني نوفمبر الماضي بسجن عدد من الصحافيين وخطف آخرين. مجلات ك "ثل" و"ذي نيوز" سحبت من الاكشاك وعدد من العاملين فيهما تلقوا تهديدات بالقتل. وكان سبب هذه الحملة أن بعض الأقلام تجاسرت على التكلم عنو سوء صحة أباشا. بعد شهرين على هذه الحملة تعرض توندي أولاديبو، رئيس تحرير ملحق نهاية الاسبوع في صحيفة "الغارديان" للاغتيال بالرصاص، كما قام النظام بجر خمسة وعشرين صحافياً إلى المحاكمة بتهمة محاولة إطاحة الحكم، "واعداً" بعضهم بعقوبة الاعدام. في هذه الأجواء لم يعد ممكناً مقابلة أي صحافي، فمعظمهم بدأوا يخشون الاعتقال إذا ما افصحوا عن أي شيء لا يتفق مع سياسية الحكومة. إلا أن الدولة الافريقية الأكبر في القارة السوداء افريقي من اصل ستة هو نيجيري بدأت تتنفس الصعداء منذ بداية شهر حزيران يونيو ووصول الجنرال عبدالسلام أبو بكر إلى الحكم بعد "الذبحة القلبية" التي أودت بحياة أباشا. سبعة صحافيين تم الافراج عنهم ورئيسا تحرير مجلتي "ثل" و"ذي نيوز" الملاحقان من قبل أجهزة الأمن النيجيري، عادا إلى البلاد بعد سنوات في المنفى في الولاياتالمتحدة. نيجيريا في الثمانينات كانت مثالاً لحرية الصحافة في القارة. فقد وجد فيها خمس وثلاثون صحيفة وتسع عشرة أسبوعية، غالبيتها الساحقة مستقلة عن السلطة مجلتان فقط كانتا تنطقان باسم الحكومة. غير ان الأجواء الجديدة لم تسمح بعد بالافراج عن ثمانية صحافيين ما زالوا محتجزين بسبب نشاطهم الصحافي، كما أنها لم تؤد بعد إلى إلغاء القانون الرقم 43 الذي يفرض على وسائل الاعلام كل سنة تجديد رخصة الصدور. أبو بكر وعد بإلغاء القوانين الجائرة كطلب الرخصة أو السجن من دون تهمة أو محاكمة. كذلك وعد بعودة المدنيين إلى الحكم في الربيع المقبل. وإذا كانت افريقيا تحذر الوعود التي قلما تنفذ، فما يمكن تسجيله حتى اشعار آخر، وبحذر مماثل، أنه أصبح من الممكن لصحافيي نيجيريا اليوم أن يذهبوا إلى مراكز عملهم، ويعودوا إلى بيوتهم سالمين