بعد سنوات على انتهاء نظام التمييز العنصري في جنوب افريقيا ووصول نيلسون مانديلا إلى سدة الرئاسة، يبدو النظام الجديد عاجزاً عن ارساء دولة جديدة ذات قيم مختلفة وناجحة في تسيير المجتمع الأصلي. الأمر قد يحتاج عقوداً أو أكثر، لكن المؤشرات السياسية والاجتماعية تشير كلها إلى الأخطار المحدقة بجنوب افريقيا... ومن غرائب الصدف أن تكون المجلة الأسبوعية "نايشن" أول وسيلة إعلام في دولة ما بعد الابارتهيد تقوم بإقفال مكاتبها وتسريح موظفيها بعد وصول مانديلا إلى الحكم. فخلال اثنتي عشرة سنة كانت "نايشن" في طليعة المجلات المعادية للنظام العنصري، والمجلة الوحيدة التي كانت تملكها مجموعة صحافيين سود. ورغم ان توزيعها كان قد تضاعف في السنوات الأخيرة، فافتقار المجلة إلى المادة الإعلانية التي ما زالت في حوزة البيض كان يخسّرها حوالى خمسة وأربعين ألف دولار شهرياً. إلغاء التمييز العنصري في جنوب افريقيا، في الدستور على الأقل، لم يكن ممكناً فصله عن تأكيد قوانين السوق كعامل أساسي في الحياة الاقتصادية... فبينما بدأت منذ سنتين عملية بيع وسائل الاعلام الجنوب افريقية إلى كبرى الشركات الدولية، الاذاعة الفرنسية "أوروب إن" اشترت محطة "جاكرندا" التي تغطي 40 في المئة من جنوب افريقيا وتخصيص جزء من الاذاعة الرسمية، لم يعد هناك سوى صحيفة واحدة "سوويتان" تتوجه إلى الأكثرية السوداء في ذاك البلد. وإذا كانت نهاية نظام الابارتهيد حملت معها انفتاحاً جنوب افريقي على الإعلام، عبر الاذاعات الحرة، فإن هذه الظاهرة، ظاهرة الخمس سنوات الأخيرة، هي افريقية: فمالي وبوركينا فاسو الفقيرتان كانتا السباقتين في هذا المجال في القارة السوداء. بيد أن هذا الانفتاح واكبته، كما في القارة نفسها، ولادة محطات اذاعية تبث الكراهية والعنصرية. وفي جنوب افريقيا، لم تتأخر المجموعة البيضاء المعادية للنظام الجديد من استخدام الراديو لانعاش أفكارها في ظل انفلات الأمن الذي غدا من رموز الحياة اليومية في البلد. انفتاح جنوب افريقيا الاعلامي على القارة السوداء لم يخل من المفارقات. فإذا كانت صحف جوهانسبورغ قامت بتغطية المعارك الضارية في أنغولا المجاورة، فإن الحدث الأول في هذه الحرب كان مصير مواطنين من جنوب افريقيا اختفيا في مناطق القتال. تغطية من نوع التابلويد التي لا ترى الحرب إلا من منظار الإثارة. وحدها صحيفة "سوويتان" 225 ألف نسخة طالبت حكومتها بالتدخل ووضع حد للقتال الذي يعيق التحولات السياسية والاقتصادية في جنوب القارة السوداء. ولئن غدا الكلام في صحافة جوهانسبورغ متداولاً حول الضمير الافريقي ودور الدولة في افريقيا، ولئن خصصت كبرى الصحف التي تديرها الاقلية البيضاء صفحة يومية لأحداث القارة، فإن الأحداث الدامية تُستغل للتأكيد على فشل المشروع الافريقي واستحالة التفاؤل أمام توجهات مانديلا عندما تكون القارة غارقة في بحر من الدم وفي المجاعة والفقر. وحتى عندما تريد صحافة جوهانسبورغ التطرق إلى المواضيع التي تجمع الأفارقة، بمن فيهم العنصريون، كالسياحة على سبيل المثال، فإن المعالجة تُظهر كم ان الصور المسبقة ما زالت تسيطر على الصحافة. ففي تحقيق قامت به صحيفة "ستار" 18 ألف نسخة في ساحل العاج، تبين للصحافية القادمة من جوهانسبورغ، ان ساحل العاج ساخن كالأفران، وأن السرقة فيه من عادات أهله، مستنتجة "ان الطريقة الفضلى لزيارة هذا البلد هي عبر رحلة بحرية لا ترى من ساحل العاج سوى شواطئها"! هذه النظرة "البيضاء" إلى القارة ما زالت تسيطر حتى في داخل جنوب افريقيا: سينمائيو جنوب افريقيا السود يعتبرون ان زملاءهم البيض يستخدمونهم كواجهة لتسويق أفلامهم في القارة، وانهم تماماً معزولون في استديوهات البلاد. حقيقة أم مجرد عقد من ماضٍ قريب؟ العلاقة بين السود والبيض في المجال السينمائي تدبو أسيرة مرحلة الابارتهيد. الحقيقة أكثر وضوحاً في مجال الأسبوعيات. التفرقة العنصرية لا مجال لنكرانها. هناك مجلات اجتماعية أو نسائية للبيض وأخرى للسود. ما من وجه أسود واحد في مجلتي "يو" و"هويسنغنغوت"، بينما أسبوعية "دروم" لا تهتم سوى بالشخصيات السوداء. والمجلات لا تحاول التشكيل، وكأن في ذلك خيانات لقرائها. للأغلبية السوداء اليوم، مجلات مخصصة لفئة ال yuppies التي بدأت تظهر في مجال إدارة الأعمال، وكأن مشاغلهم تختلف بشكل جذري عن اهتمامات زملائهم البيض! مجلات التمييز العنصري الذي فرضته السوق لا تقتصر على المجموعات السوداء والبيضاء. فالمجموعة الصحافية "بونتا ببليكايشن" أصدرت أخيراً مجلة جديدة هي "انديغو" تتوجه إلى المليون من ذوي الاصل الهندي الذين يعيشون في جنوب افريقيا. نجاح المجلة الجديدة منذ عددها الأول أظهر كم ان هذه النزعة مسيطرة على المجتمع. حتى المجلات الأجنبية التي تصدر نسخات مخصصة لجنوب افريقيا: "إيل"، "ماري كلير"، "كوسموبوليتان"... اعتمدت النهج ذاته. ولئن حاولت هذه المجلات التكلم عن مختلف المجموعات البشرية في البلد، غير ان الغلاف يظهر دائماً صورة للمرأة البيضاء، وأية مخالفة لهذه القاعدة تظهر تراجعاً ملحوظاً في مجال المبيعات. خمس سنوات انقضت على نهاية نظام التمييز العنصري، ولم تظهر بعد وسيلة إعلام تجمع مختلف أعراق الدولة الجديدة، وكما يبدو فإن انفتاح جوهانسبورغ على القارة السوداء حلاً مرفوضاً في داخل البلاد كما في خارجها...